سلافان
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
محنة القردية في الأدب المعاصر
للأستاذ شكري محمد عياد
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ويعود سلافان إلى وحدته المريرة اللذيذة، ويستدير أعوامه الأربعين، وقد شغل بتحديد وجهته في الحياة، فهو يقول عن حياته في تيك الأعوام: (أربعون سنة ولم أفعل شيئاً: ولو مت هذا المساء ما استحققت أن يذكر أسمي على لسان، ولا أن تبقى صورتي في ذاكرة. ليتني لا أموت هذا المساء! دعاء أرفعه إلى الفضاء، أو قل إنني أسأل القدر، ما دمنا لا نعرف غيره، فما أظن أن الدعوة الحارة لا تجد صدى ولو لفظت في الصحراء).
وهو ينظر في أمره كله ويقبله على جميع وجوهه، حتى إذا أستقبل عامه الأول بعد الأربعين كان قد أستقر عزمه على أن يتأ له أو يكون قديساً، فهو يبدأ (يومياته) ليسجل خطواته في هذا السبيل. ولكنه لا يؤمن بالدين، فهو لا يريد أن يكون قديساً كقديسي الكنيسة، بل يريد أن يحيا حياة القديسين، يريد أن ينعم بلذة الفضيلة، يريد أن يرفع الفضائل النفسية - في ذاته هو - إلى أوج من العظمة.
وهو يرى أنه بهذا يفي بحاجة من حاجات العصر: حاجته إلى قديسين، فقد كان لكل عصر قديسوه، ولكنه لا يرى لهذا العصر قديسين. ويأخذ في جهاد نفسه جهاداً منظماً، يدونه في (يومياته) وكلما خرج من معركة من هذه المعارك النفسية وجد نفسه مريضاً أو مستغفلاً، أو محتقراً.
ووجد أنه لم يبلغ من فضائله المنشودة شيئاً.
وذلك لأن قديسي العصور القديمة كانوا يمارسون فضائلهم معتمدين على إيمان وثيق بالله واليوم الآخر، كانوا يعتقدون أن الحق في جانبهم، وإن الله معهم، فكان في أعماقهم ثقة وأطمئنان وجلال.
أما هو فلا يؤمن بقوة خارج نفسه، ولا يبحث في جهاده إلا عن نفسه، ففضائله تبدو سخيفة مضحكة، إذ يعوزها الوسط الذي لا تنشط إلا فيه، وكأنما هو رجل يحرك شفتيه بالغناء فلا يتجاوز غناؤه حنجرته. ويتمنى سلافان أن يؤمن، ويرتاد الكنائس، ويعترف، ولكنه يحس في هذه التجارب كلها شيئاً من الصدق.
إنما هي حركات وأقوال لا تصدر من قلوب قائليها، ولا تصل إلى قلوب سامعيها.
هي اشبه بالبقايا المتحجرة من عصور إنسانية بائدة. ويكتب إلى قس بروتستنتي يسأله النصح لروح ضالة، فيكتب اليه كتاباً موجزاً ذا رقم وتاريخ، ويحدد له ساعة يلقاه فيها بعد أسابيع.
.
ويقابله في مكتب كمكاتب رجال الأعمال، وإذا هو امام قس يرشد الارواح الضالة (بالجملة)، على طريقة الإنتاج بالجملة، ويرد الإيمان إلى النفوس الحائرة بأحدث أساليب التحليل النفسي. لا يستطيع سلافان، إذا، أن يكون قديساً.
وتنتهي هذه التجربة الأليمة بمرض طويل في مستشفى مجاني، دخله على أثر حمى أصابته لأنه قدم معطفه وحذاءه - في الشارع وفي ليلة من ليالي الشتاء - إلى أفاق لئيم، لم يجد ما يعطيه إياه، فآثر أن يقدم اليه كساءه على أن يحتمل نظرة الشك التي صوبها اليه. ويخرج سلافان من المستشفى وقد كسبته هذه التجربة نوعاً من الهدوء، ولكنه ما زال يبحث.
يبحث بالمعنى المطلق لهذا الفعل، كما يقول.
ويهديه البحث إلى (نادي شارع ليونيه)، وهو ليس بناد على الحقيقة، إنما هو حانوت إسكاف فقير يجتمع فيه بعض الشيوعيين الثوريين الذين يدعون إلى مجتمع جديد.
يجتمعون فيه خفية حيث يتباحثون في مشاكلهم ويدبرون أموهم، وليس سلافان واحداً منهم وإنما هو في اصطلاحهم (عاطف) وكما يقول أحدهم: (من أولئك المثقفين الذين ينزلون إلى الشعب.
طراز 1900).
فهم لا يطلعونه اذاً على كثير من أسرارهم، ولكنه يفهم أنهم يطمحون إلى حياة أسعد، ويراهم يعيشون عيشة خشنة، ويعلم أنهم يلاقون ألوان الاضطهاد، ونفسه نزاعة إلى السمو، ذواقة للألم، فبينما هو يفكر أن يلقى بنفسه في تلك النار، يعلم من أمرهم ما لم يكن يعلم، فهم ثوريون فنيون، لا يبالون كثيراً بالفرد، لأن همهم تغيير المجتمع، وإنما يأتي صلاح الفرد بعد صلاح المجتمع، عندئذ تنفر منهم فرديته فيقول لهم: (إنني لا أسمح لنفسي بأنتقادكم، وأغلب ظني أنكم ما دمتم مقدمين على هذا الأمر فيم ما يدعوكم إلى ذلك.
ولكنكم تستطيعون أن تغيروا ما يسمى النظام، وتستطيعون أن تخلفوا الطبقة الحاكمة، تستطيعون أن تغيروا كل شئ ولكنكم إذا لم تغيروني أنا 0أنا سلافان مثلا - فإنكم لم تغيروا شيئاً!). فإذا سأله سائل منهم: (ولماذا تلح هكذا في تغيير نفسك؟) أجاب في صوت خفيض ولكنه واضح يسمعه الجميع: (لأني.
لأني جبان). ويعكف وحده على هذه الفكرة يديرها في نفسه حتى ينتهي فيها إلى نوع من الفسلفة.
إنه يريد أن يغير روحه، ولكن ليس في ذلك شئ من المغالاة ولا تكليف الأمور غير طبائعها، بل أنه تجربة معقولة.
فروحه لست إلا أربعين سنة من الحوادث والأفكار والإشارات والأقوال.
إنها الحي الذي يعيش فيه، والمنزل الذي يسكنه، وملابسه وأثاث بيته، وزوجه وأمه العجوز.
إن ما يسميه روحه هو ذلك العالم المألوف الذي يضغط عليه ويخنقه، والذي هو أن يرفعه عن عاتقه ويطوح به. ولكن سلافان لا يفارق أصحابه الثوريين حتى يدهمهم البوليس ويقضي ليلته في السجن.
ويعود إلى داره في صبيحة ذلك اليوم ليجد أمه تهلك أسى.
كأنما أنفسح له المجال لينفذ مشروعه الجديد، فهو يودع زوجته بخطاب قصير، ويمضي ليجرب أن يكون رجلا آخر غير سلافان.
وقد تعلم هذه المرة ألا يطمح إلى أفعال رائعة.
. لن يحاول أن يكون قديساً، بل يكفيه أن يكون إنساناً، يخفف آلام المنكوبين من البشر، وما أكثرهم! فتراه في القصة الأخيرة (كما هو) يعيش في الجزائر بأسم (سيمون شافجران)، وكيلا لشركة (فونوغرافات)، وقد حلق لحيته واستبدل بنظارته المعدنية عوينات ذهبية الإطار، وأصبح يحظى بإجلال عارفيه لأنه لا يفتأ يضرب الأمثال على تضحيته وإيثاره وحبه للإنسانية.
فهو قد أنقذ صبية صغيرة من بين عجلات القطار في مرسيليا، وقد تبرع بدمه لجريح، وتطوع لتمريض المصابين بالطاعون.
ثم هو يرعى خادمه (مختاراً) ويعلمه القراءة والكتابة ويحاول أن يثنيه عما هو منغمس فيه من قبيح العادات.
إذن فقد أصبح يمارس أعمال الخير حقاً، ولم يعد يجرب أكتساب الفضائل بطرق خيالية.
ولكنه على ذلك كله غير راض عما يفعل! لماذا؟ إنه غير مجرد من كل تفكير جماعي، فلعله يرى أن طيبته وإنسانيته لم تخففا شيئاً من آلام الناس.
ولكنه لم يقدم على هذه التجربة الكبيرة لينقذ الإنسانية، بل أراد أن ينقذ الإنسانية في نفسه اولاً، بأن يكون إنساناً فاضلا فيما يأتي وما يدع، عن سليقة وعادة لا عن تفكير وإرادة.
وهو يرى أنه لم يبلغ من ذلك شيئاً.
فهو يرتد ثانية إلى نفسه، ويصارح صاحباً له: (كيف يستطيع المرء ألا يكون إلا ما هو؟ وكيف يحاول أن يكون غير ما هو بغير أن يصيبه الجنون؟). هو إذاً لم يتقدم خطوة منذ فكر أن (يغير روحه).
ولكنه يتعلم شيئاً واحداً: يتعلم (أن العمل الطيب إنما هو ثمرة تفكير يوازن ويختار.
أنه النتيجة الثابتة الرائعة لصراع باطني كبير).
وتدخل هذه الحكمة على نفسه شيئاً من الهدوء.
فهو يستطيع اذاً أن يصل إلى السلام النفسي الذي ينشده عن طريق هذا الصراع الباطني الموجه دائماً نحو غرض طيب. وتأتي نهاية سلافان في عمل من هذه الأعمال الطيبة. قتل خادمه مختار رجلاً إيطالياً برصاصة مسدس، وكان سلافان يستطيع - بشيء من حضور الذهن - أن يمنع الحادث، ولكنه لم يفعل، وأعتصم الخادم بقبو المنزل.
فسار اليه سلافان يصرع اليه بأن يخرج ويعده أن يدافع عنه، وإذا بالخادم يرديه بطلقة من مسدسه. عمل من أعمال الطيبة! عمل يودي بصاحبه دون جدوى ولكنه يأتيه بالسلام النفسي الذي ينشده، لأنه انتصار على تردد النفسي وجبنها، ومواجهة للجهل والظلم والشر، ولأنه لطف ورحمة، ولأنه عفو ومغفرة.
وتلك هي الفضائل النفسية التي جاهد سلافان ليبلغها.
فليكن عزاؤه إذ لم يحظ بها في حياته، إنه احسها في مماته، وليكن عذره إذ لم يبلغ السلام النفسي الذي ينشده، أنه دفع حياته ثمناً له!. لست أدري ماذا عسى أن يكون رأيك في سلافان.
وقد أردت بهذه المقدحة شرحاً وتفسيراً، ولم أرد نقداً وموانة، على أني أكتفي بأن أقول إن سلافان أبعد عن الواقع وأقرب إلى أن يكون دعاوة لأفكار الكاتب، ولأن سلافان الشاب أ {وع سخرية وأقل تشاؤماً على رغم ما ينتابه من يأس عنيف. شكري محمد عباد