شرح الفروق والتقاسيم للسعدي [13]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله: [ومن الفروق الصحيحة: التفريق بين ما له حق سببه ظاهر كالضيف والزوجة للنفقة، فله أن يأخذ من مال صاحبه إذا امتنع من الواجب؛ لأنه لا يُنسب إلى الخيانة، وبين ما إذا كان السبب غير ظاهر فلا يحل له الأخذ من ماله؛ لأنه يُنسب إلى الخيانة].

يقول المؤلف رحمه الله: من الفروق: الأخذ من المال إذا كان السبب ظاهراً، وعدم الأخذ منه إذا كان السبب غير ظاهر، وهذه المسألة يسميها العلماء رحمهم الله بمسألة الظفر، وهي: أن يظفر الإنسان بشيء من مال من له عليه حق، كأن يكون لك حقٌ عند زيد من الناس فتظفر بشيء من ماله، فهل لك أن تأخذ من ماله مقابل ما لك عنده أو لا؟

قسّم المؤلف رحمه الله ذلك إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون السبب ظاهراً، فلا بأس أن تأخذ، وهذا يدخل في نفقة الزوجة، ونفقة القريب، وحق الضيف، فإذا امتنع الزوج من الإنفاق على زوجته، فلا بأس أن تأخذ زوجته من النفقة ما يكفيها، كذلك إذا امتنع من الإنفاق على قريبه فلا بأس أن يأخذ من النفقة مقدار ما يكفيه، وكذلك الضيف: إذا امتنع المضيف أن يضيفه وظفر الضيف بشيء من ماله، فلا بأس أن يأخذ مقدار حق الضيافة، هذا السبب ظاهر.

ويدل لذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لـهند امرأة أبي سفيان لما ذكرت أن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه لا يعطيها من المال ما يكفيها وولدها بالمعروف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ).

وكذلك ما ثبت في الصحيحين من أمر النبي عليه الصلاة والسلام الضيف بالأخذ إذا امتنع المضيف.

القسم الثاني: أن يكون السبب غير ظاهر. كالقرض، وثمن المبيع، وقيمة المتلف.. إلخ.

فلو أن رجلاً اقترض من آخر مالاً، ثم إن المقترض لم يعط المقرض حقه، فظفر المقرض بشيء من مال المقترض، فهل له أن يأخذ أو ليس له أن يأخذ؟

يقول المؤلف رحمه الله: ما دام أن السبب غير ظاهر فليس له أن يأخذ، وإنما يرفع إلى القاضي لكي يستخلص له حقه.

كذلك لو أن المشتري لم يعط البائع حقه، فظفر البائع بشيء من مال المشتري، يقول: ليس له أن يأخذ.

كذلك لو كان قيمة متلف فهل له أن يأخذ من أُتلِف عليه ماله أو ليس له أن يأخذ؟

يقول المؤلف رحمه الله: ليس له أن يأخذ.

فيفرق بين ما كان السبب ظاهراً فله أن يأخذ، وبين ما كان السبب غير ظاهر فليس له أن يأخذ. ‏

قال رحمه الله: [ومن الفروق الصحيحة: إسقاط الصلاة والصيام والحج عن غير المكلَّف من الصغير والمجنون؛ لعدم التكليف الذي هو شرطٌ للتكاليف التي هذه العبادات أمها، وإيجاب الزكاة عليهم، وكذا الكفارات؛ لأنها من الحقوق المالية التي يستوي فيها من له قدرة مالية من مكلَّف وغيره].

هذا فرق بين المكلَّف وغير المكلَّف، فغير المكلَّف -كالمجنون والصغير- لا تجب عليه هذه العبادات؛ فلا تجب عليه الصلاة، ولا الصيام، ولا الحج، أما المكلَّف فتجب عليه.

لكن غير المكلَّف كالصغير والمجنون تجب عليه الزكاة؛ للعمومات كالمكلف تماماً، فهناك فرقٌ بين عبادة المال وعبادة البدن، فعبادة المال تجب على الصغير والمجنون، أما عبادة البدن فلا تجب عليهم.

وذكر المؤلف رحمه الله العلة لذلك، فقال: [لأنها من الحقوق المالية التي يستوي فيها من له قدرة مالية من مكلَّف وغيره].

وأيضاً للعمومات كقول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] وهذا يشمل الصغير وغير الصغير، والمجنون وغير المجنون.

لكن بالنسبة للكفارات: هل تجب على غير المكلَّف أو لا تجب عليه؟

أما بالنسبة للمجنون فهذا أمره ظاهر، أنها لا تجب عليه؛ لأن المجنون لا تصح منه هذه العبادة، فالمجنون لو حلف لا ينعقد يمينه، وكذلك لو قتل، وكذلك الصبي فلو قتل أو حنث في يمين هل تجب عليه أو لا تجب عليه؟ هذا موضع خلاف، والأظهر أيضاً أنها لا تجب.

قال رحمه الله: [ويشبه هذا إيجاب الضمان على المكلفين وغير المكلفين، في إتلافات النفوس والأموال لربط الحكم بسببه الموجب للضمان].

ما يتعلق بحقوق الخلق من الإتلافات يستوي فيها المكلَّف وغير المكلَّف، فإذا أتلف مالاً لزيد من الناس، فإنه يضمنه سواءٌ كان مكلفاً أو غير مكلَّف، هذا من حيث الضمان.

أما من حيث الإثم فننظر: هل هو متعمد أو ليس متعمداً؟ هل هو مختار أو غير مختار؟ ناسٍ أو ذاكر؟ فإذا كان مخطئاً أو ناسياً، أو غير مختار فلا إثم عليه، أما بالنسبة للضمان فيضمن مطلقاً، المكلَّف وغير المكلَّف.

قال رحمه الله: [ومن الفروق الصحيحة: أن القدرة على التكسب غنىً يمنع صاحبه أخذ الزكاة لحاجته، ويوجب عليه قضاء الدين والنفقات الواجبة].

يقول المؤلف رحمه الله: القدرة على التكسب غنىً يمنع صاحبه أخذ الزكاة.

هذه المسألة موضع خلاف، وأيضاً ما ذكره بعد ذلك من المسائل، هل يجب على الإنسان أن يتكسب لكي يقضي الدين الذي عليه؟ ولكي يقوم بالنفقة الواجبة عليه؟

فيقول: [القدرة على التكسب غنىً يمنع صاحبه أخذ الزكاة لحاجته] فلو أن زيداً من الناس فقير ويستطيع أن يتكسب، فلا يجوز أن يعطى من الزكاة، بل يقال له: اعمل وتكسب، ولا يجوز لك أن تأخذ من الزكاة.

وكذلك: لو كان يستطيع أن يتكسب وعليه ديون، نقول: يجب عليك أن تعمل لكي تحصل المال ثم تسدد الدين الذي عليك.

كذلك: لو كان عليه نفقات، له أقارب، له أولاد، له زوجة وهو قادر على الكسب فنقول: يجب عليك أن تتكسب لكي تنفق على من يجب عليك أن تمونه -أي: تنفق عليه- من الزوجة والأقارب ولا يعطى من الزكاة.

قال رحمه الله: [لأن الواجب قد تقرر عليه، ولا سبيل إلى أدائه إلا بالاكتساب المقدور عليه، وليس ذلك بغنى يوجب الحج؛ لأنه مما لا يتم الوجوب إلا به، والأول مما يتم الواجب إلا به ففرق بين الأمرين].

لو كان الإنسان ما حج وهو فقير، فلا نقول له: يجب عليك أن تتكسب لكي تحصل على المال الذي تستطيع به الحج.

وفرقٌ بين الأمرين، يعني: بين ما يتعلق بالنفقة وإيتاء الدين، وبين القيام بالحج:

لأن الأول: مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما الحج فهو مما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.

ومثل ذلك أيضاً: لا يجب على الإنسان أن يكتسب حتى يحصّل نصاباً ثم يزكي؛ لأنه مما لا يتم الوجوب إلا به، بخلاف النفقة والدين فهذا أمرٌ واجب، ولا يتم إيفاء هذا الواجب إلا بالاكتساب، فيكون داخلاً في ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قال رحمه الله: [ومن الفروق الصحيحة: أن العبد المملوك إذا كان للتجارة تجب فيه زكاة الفطر وزكاة المال لوجود السببين: الملك، والتجارة، والذي لغير التجارة تجب فيه زكاة الفطر وحدها لانفراد سبب الملك وحده].

هذا أيضاً من الفروق الصحيحة: إذا كان الإنسان عنده رقيق، وهذا الرقيق للتجارة، فيجب عليه زكاة المال لهذا الرقيق؛ لأنه عروض تجارة، ويجب أيضاً عليه زكاة البدن. فيخرج عنه الفطرة؛ لوجود السببين: الملك، والتجارة.

أما إذا كان للقنية وليس للتجارة، فإنه لا تجب فيه إلا زكاة الفطر فقط.

قال رحمه الله: [وهكذا كل حكم له سببان فأكثر، مستقلان إذا وجدا ترتب عليهما مقتضاهما، وإذا انفرد أحدهما ترتب عليه حكمه، كالذي يوجد فيه سببان فأكثر من الأسباب التي يستحق بها الأخذ من الزكوات، أو الوقوف، أو الوصايا، أو يجب عليه في كلٍ منهما واجب].

إذا وجد فيه سببان من أسباب الأخذ من الزكاة، يأخذ بكلٍ منهما، فلو أن زيداً من الناس فقير وغارم، فلا بأس أن نعطيه لأجل غرمه فيسدد الدين الذي عليه، ونعطيه أيضاً لأجل فقره ما دام أنه وجد فيه سببان.

كذلك أيضاً: الأوقاف، فلو أن زيداً من الناس أوقف بيته، وقال: ريع هذا البيت يصرف على طلبة العلم، ويصرف على الفقراء، وزيد من الناس طالب علم وفقير، فنعطيه بسبب طلب العلم، ونعطيه أيضاً لسبب الفقر.

أيضاً: الوصايا، بأن وصى أن يكون ريع هذا البيع للفقراء وطلبة العلم، قال: يُصرف على الفقراء، وعلى طلبة العلم، أو قال: يُصرف على أقاربي، ويُصرف على الفقراء، وله قريب فقير، فنعطيه بسبب القرب، ونعطيه أيضاً بسبب الفقر.. وهكذا.

قال رحمه الله: [ومن الفروق عند الأصحاب في مسائل الاشتباه، فتارة أمروه باجتناب الجميع، كما إذا اشتبه ماء نجس بطهور، أو ماء مباح بمحرمٍ للطهارة، وتارة أمروه بالتحري وترجيح ما يظنه مباحاً، كما إذا اشتبه الماءان المذكوران عند الاضطرار إلى الشرب، وكما إذا اشتبهت القبلة على المسافر وحده، وتارة أمروه بسلوك الاحتياط في الثياب المشتبه نجسها أو محرمها، بطاهرها أو مباحها، واختار الشيخ فيها التحري].

اشتباه الطاهر بالنجس أو المباح بالمحرم

أيضاً هذه من الفروق في مسائل الاشتباه، يعني: إذا اشتبه عند الإنسان شيئان: طاهر ونجس، محرم ومباح.. إلخ، فماذا نسلك؟

يقول: هذا -على المذهب- أقسام:

القسم الأول: تارة يؤمر باجتناب الجميع.

كما إذا اشتبه ماء نجس بماء طهور، أو ماء مباح بماء محرمٍ. فلو كان عندنا ماءان: أحدهما مباح والآخر مسروق أو مغصوب، واشتبه عليه هذان الماءان فيجتنبهما ولا يتطهر بشيء منهما.

القسم الثاني: أن يتحرى ويرجح ما يظنه مباحاً، كما إذا اشتبه الماءان للشرب عندما يضطر إليه، فلو أن عنده ماء طاهراً، وماء نجساً، واشتبه عليه هذان الماءان، فيتحرى ويرجّح وينظر إلى القرائن ثم يشرب.

أو كان مسافراً واشتبهت عليه القبلة فإنه يتحرى وينظر إلى القرائن.

هذا القسم الثاني أمروه بالتحري والترجيح.

القسم الثالث: [أمروه بسلوك طريق الاحتياط في الثياب المشتبه نجسها أو محرمها، بطاهرها أو مباحها].

يعني: إذا اشتبهت عنده ثيابٌ طاهرة بثياب نجسة فيحتاط، فيصلي بهذه النجسة ويزيد صلاته، فإذا كان عنده عشرة أثواب نجسة، وعنده عشرون ثوباً طاهراً، فيصلي عشر صلوات ويزيد صلاة؛ لأنه هنا يقطع قطعاً جازماً أنه صلى صلاة فأكثر بثوب طاهر.

كذلك أيضاً: لو كانت محرمة أو مباحة، فمثلاً عنده ثياب مباحة وثياب مغصوبة أو مسروقة، فيسلك طريق الاحتياط.

الاشتباه في العبادات كعدد الركعات والطوافات

قال رحمه الله: [واختار الشيخ -شيخ الإسلام- فيها التحري، وإذا اشتبه على المصلي وشك في عدد الركعات أو الطوافات أو نحوها].

يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه أن يتحرى الإنسان؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وليتحر الصواب ثم ليبن عليه ) في الشك في الصلاة.

فإذا كان عنده ثياب نجسة وثياب طاهرة وشك، فإنه يتحرى ويصلي صلاة واحدة فقط، أما قوله: يصلي بعدد النجس أو عدد المحرم ويزيد صلاة، فهذا فيه مشقة ظاهرة عليه.

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه على المصلي وشك في عدد الركعات أو الطوافات أو نحوها، بنى على الأقل وهو اليقين، ولو غلب على ظنه الأكثر خلافاً لـشيخ الإسلام فإنه يبني عنده على غالب ظنه].

إذا حصل للإنسان شك في عدد الأشواط التي طافها، أو الأشواط التي سعاها، أو حصى الجمار التي رماها، أو الركعات التي صلاها... إلى آخره، فالمذهب أنه يبني على اليقين مطلقاً.

وعند شيخ الإسلام أنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يغلب على ظنه شيء إما القلة أو الكثرة، فإنه يبني على غالب ظنه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ثم ليتحرَّ الصواب وليبن عليه ) في الصحيح من حديث ابن مسعود .

القسم الثاني: ألا يغلب على ظنه شيء، فإنه هنا يأخذ باليقين، ودليل ذلك حديث أبي سعيد في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ).

قال رحمه الله: [ وإذا اشتبه على الإنسان كم ترك من صلاة أو صيام واجب، فعليه الاحتياط، وأن يبرئ ذمته فيؤدي ما به يتيقن براءتها ].

إذا وجب على الإنسان الصلاة والصيام وكان مكلفاً، وشك كم ترك من صلاة، وصيام ونحوه.

فعليه الاحتياط، وأن يبرئ ذمته فيؤدي ما به يتيقن براءته.

قال رحمه الله: [لأنه واجب مستقر عليه، فلا يخرج من العهدة إلا بيقين، بخلاف الأمور التي يشتبه على العبد هل وجبت عليه أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب، ولو سلك العبد طريق الاحتياط كان حسناً].

يعني: إذا كانت هذه أموراً واجبة، لكن تركها لعذر وشك في عددها، فهذا يحتاط ويعمل ما به يبرئ ذمته، فلو وجبت عليه كفارات أيمان ولم يدر كم بلغت، فيحتاط ويعمل ما به براءة ذمته.

أما إذا شك في أصل الوجوب، هل وجبت عليه هذه الأشياء أو لم تجب عليه؟

يعني: هل وجبت عليه الكفارة أو لم تجب؟ قال المؤلف: فالأصل أنه لم تجب، مثال ذلك: لو شك هل وجب عليه ثلاث صلوات أو أربع؟ فالأصل أنه ما وجب عليه إلا ثلاث فقط، يقول: ولو سلك العبد طريق الاحتياط كان حسناً، أي: لو سلك طريق الاحتياط وصلى أربع صلوات كان حسناً.

الاشتباه في الطلاق

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه هل طلق أو لا؟ أو هل طلق واحدة أو أكثر؟ بنى على العصمة وأنه لم يطلق إذا شك في نفس الطلاق، وعلى الأقل إذا شك في العدد، وعلى عدم وجود الشرط الذي علق عليه إذا شك في وجوده؛ لأن الأصل في ذلك كله ثبوت الزوجية، حتى يوجد يقين يزيلها أو يزيل بعضها وكثير من المشتبهات تعود إلى القاعدة المشهورة وهي: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنه لا يرفع الشك اليقين].

المؤلف رحمه الله أشار إلى مسائل: إذا شك هل طلق أو لا؟ فنقول: الأصل عدم الطلاق؛ لأن الأصل بقاء الزوجية.

وإذا شك هل طلق واحدة أو اثنتين؟ فنقول: الأصل أنها واحدة؛ لأن هذا هو المتيقن.

وإذا شك هل علّق طلاقه على شرط أو لا؟ فنقول: الأصل عدم الشرط، مثل لو قال: أنتِ طالق. ثم قال: إن دخلتِ، وشك هل قال: إن دخلت أو لا. نقول: الأصل أنه ما قال هذا، وأنه لم يعلّق طلاقه على شرط.

فإذا شك في الطلاق فالأصل عدمه، وإذا شك في العدد فالأصل الأقل، وإذا شك في وجود الشرط فنقول: الأصل عدم الشرط.

اشتباه الأخت بالأجنبيات

قال رحمه الله: [وإذا اشتبهت أخته بأجنبيات وجب الكف عن الجميع، وكذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ما لم يبلغ مبلغاً يضمحل معه المحرم، كاشتباه أخته ونحوها بأهل بلد، وميتة بذبائح المصر فإن المحرم هنا يتلاشى].

أيضاً هذا فرق: إذا اشتبهت أخته بأجنبيات، يعني: لو أن هناك عدة نسوة إحداهن قد رضعت من أمه، فتكون أختاً له، فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز أن يتزوج من هذه النسوة.

مثله أيضاً: لو اشتبهت الميتة بالمذكاة، فلو كان عنده شاة ذكاها تذكية غير شرعية، نسي التسمية، فاشتبه هذا الحيوان بخمس من الشياة ذُكّيت ذكاة شرعية، أو يقول المؤلف رحمه الله: يترك كل هذه الشياة؛ احتياطاً.

وأيضاً: عندنا أصل آخر وهو: أن الأصل في اللحوم والفروج التحريم حتى يقوم به حل، إلا أن المؤلف استثنى فقال: ما لم يبلغ مبلغاً يضمحل معه المحرم كاشتباه أخته ونحوها بأهل البلد.

يعني: أخته اشتبهت بكل نساء البلد، فلا يدري من هي أخته من جميع البلد، فهنا لا بأس أن يتزوج؛ لأن المحذور وجوده كعدمه، أو اشتبهت هذه الشاة المحرمة بسائر ذبائح البلد، فإن وجوده كعدمه؛ لكثرة الحلال وقلة المحرم، فأصبح وجوده كعدمه.

اشتباه المال الحلال بالمال الحرام

قال رحمه الله: [وإذا اختلط المال الحلال بالحرام على وجه لا يتميز فقيل: يجتنب الجميع، وهو ضعيف، وقيل: يُخرج مقدار الحرام منه ويحتاط إن شك في كثرته، ويطيب له الباقي، وهو الصواب، فإن هذا النوع خبثه لمكسبه، واشتباه الميتة بالمذكاة الحرام خبثه لذاته. وبين الأمرين فرقٌ ظاهر].

يعني: إذا اشتبه مال كسبه حلال بمال كسبه حرام.

القول الأول: أنه يجتنب الجميع، قال المؤلف رحمه الله: وهذا ضعيف، إذا كنا لا ندري كم الحلال والحرام؟ هل النصف، أو الربع، أو ثلاثة أرباع، أو ثلث، أو ثلثان.. إلخ يجتنب الجميع، وهذا ضعيف.

والقول الثاني: أنه يخرج مقدار الحرام منه ويحتاط، يعني: ينظر إلى مقدار الحرام فيقدّر ويحتاط.

قال رحمه الله: [ويحتاط إن شك في كثرته].

ولكن قد لا يستطيع أن يقدر، فإذا استطاع أن يحتاط ويقدر فعل ذلك كمثل الذي يغلب على ظنه أن الحرام هو الربع فيخرج الربع، أو يغلب على ظنه أن الحرام هو النصف فيخرج النصف، لكن قد لا يستطيع أن يحتاط، فهنا يخرج النصف.

الاشتباه في مقدار ما للمشركين من المال

قال رحمه الله: [ومن الاشتباه: الاشتباه في مقدار ما للشركاء من المال المشترك، فمتى تعذر معرفة ما لكلٍ منهم قسم بينهم بعددهم، وكذلك إذا اعترى المال المشترك زيادة أو نقص، ولم ندرِ أي الأموال التي تزاد أو تنقص، كان ذلك على نسبة الأملاك].

إذا اشتبه مقدار ما للشركاء من المال، يعني: هؤلاء شركاء في مال واشتبه في مقدار ملكهم من هذا المال، ولا ندري هل هذا له النصف وهذا له النصف، أو هذا له الثلث وهذا له الثلث وهذا أيضاً الثالث له الثلث، أو هذا له أقل وهذا أكثر..

يقول المؤلف رحمه الله: نقسمه على عدد رؤوسهم، فإذا كانوا ثلاثة قسم على ثلاثة, وإذا كانوا أربعة قسم على أربعة... وهكذا.

كذلك أيضاً إذا جاء للمال المشترك زيادة أو نقص، ولا ندري أي الأموال التي تزاد أو تنقص، كان ذلك على نسبة الأملاك، فإذا كان ملك هذا الشخص الثلث والآخر الثلثان، أو هذا ملكه الربع وهذا الربعان، فالزيادة لصاحب الربع الربع، والزيادة لصاحب الثلاثة الأرباع ثلاثة أرباع.

وهكذا في حالة النقص، النقص على صاحب الربع الربع، وعلى صاحب الثلاثة الأرباع ثلاثة أرباع.

الاشتباه في مصرف الحقوق

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه علينا مصرف المستحقين لريع الوقف ونحوه، قسم بالسوية بين المستحقين، إلا إذا كان عادة وعرف جار، فإنه يجري على ما هو عليه؛ لأن الأصل أنه موافقٌ لشرط الواقف].

إذا جهلنا شرط الواقف، أو شرط الموصي ولا ندري من المستحق لهذا الوقف، إنما قال: هذا وقف على طلبة العلم، فإننا نقسمه على المستحقين من طلبة العلم، الطالب المبتدئ والطالب المتمكن، الصغير والكبير، المحدث والفقيه نقسمه عليهم بالسوية.

قال رحمه الله: [إلا إذا كان -هناك- عارة وعرف جار]، فإذا كان هناك عادة وعرف فإنا نرجع إليهما، فإذا كان العرف مثلاً: يُعطى المتمكن سهمين، والمبتدئ يعطى سهماً واحداً، فنرجع إليه؛ لأن الشرط العرفي كالشرط اللفظي.

الاشتباه في الولد إذا ادعاه اثنان

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه الولد وادعاه اثنان فأكثر، ولم يحصل ترجيح بفراش ونحوه، عرض معهم على القافة، فمن ألحقته القافة به لحقه، وإن ألحقته بالجميع لحقهم].

يعني: إذا كان عندنا ولد وادعاه اثنان فأكثر، ولم يكن هناك ما يرجح كالفراش كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الولد للفراش، وللعاهر الحجر )، فإذا لم يكن هناك مرجح، فإننا نصير إلى القافة.

والقافة: هم قوم يعرفون النسب بالشبه، والعلماء رحمهم الله ذكروا لهم شروطاً.

قال رحمه الله: [فمن ألحقته القافة به لحقه، وإن ألحقته بالجميع لحقهم].

إن قالت القافة: هذا لزيد. فيلحق به، وإن قالت: لعمرو لحق عمراً، وإن قالت: لزيد وعمرو؛ فإنه يلحق زيداً وعمراً، ويُنسب إليهما جميعاً، وهذا هو المشهور من المذهب، وقد استدلوا بأنه وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه.

والرأي الثاني: أنه لا يُلحق بهم، فإذا ألحقته القافة بكلٍ منهما فإنه لا يعتبر قولها حينئذ، وهذا قول الشافعي ، فيسقط قول القافة ونرجع إلى القرعة.

والطب الحديث يؤكد هذا القول، وأنه لا يمكن أن ينشأ طفل أو حمل من ماءين، فالماء السابق هو الذي يحصل به الحمل ويتكون منه الجنين، وكافة الصفات الوراثية، أما المتأخر فلا يحصل به الحمل.

وهذا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله هو الصواب.

والمؤلف رحمه الله تابع في ذلك المذهب.

اشتباه العين بين اثنين

قال رحمه الله: [وإذا عُلم أن العين لأحد اثنين، ولا مرجح لواحدٍ منهما أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة كان له].

القرعة هذه إحدى الطرق لإخراج المستحق، ودل عليها القرآن والسنة:

أما القرآن: فالأدلة على ذلك في عدة مواضع، فمن ذلك قول الله عز وجل: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141].

ومن السنة: حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ).

والقرعة طريق لتمييز الحقوق عند التزاحم فيها، أو لتمييز المستحق عند التزاحم.

أما إذا ظهر صاحب الحق فإنه لا يصار إلى القرعة، بل يصار إليها إذا تزاحموا في الحقوق ولم يتبين المستحق.

فلو تشاح إنسانان في إمامة مسجد، فنقول: لا يصار إلى القرعة، وإنما يصار إلى الصفات الشرعية؛ لأنه هنا ظهر المستحق.

فإذا كان يترتب على القرعة إبطال حق أو إحباط باطل، فنقول: هذا لا يجوز، أما إذا كانت طريقاً للفصل بين المستحقين عند التزاحم فإن هذا لا بأس.

أما إذا علمنا أن العين أو الحق لأحد اثنين، وهناك مرجح فإنه يصار إلى الترجيح، فضرب القرعة مع المرجح لا يجوز، كما مثّلنا في حق الإمامة، وحق الأذان، وحق الولاية فيصار إلى الترجيح، أما إذا لم يكن هناك مرجح فيصار إلى القرعة.

قال رحمه الله: [وكذلك لو طلق إحدى زوجتيه، أو أعتق أحد عبديه، واشتبه عليه أُخرج المشتبه بالقرعة].

لو طلق إحدى زوجتيه أو أحد العبدين واشتبه عليه، فنصير إلى القرعة.

فلو قال لإحدى زوجتيه: أنتِ طالق، فاشتبه عليه هل هي هند أو مريم؟ نقول: نصير إلى القرعة.

قال: [والقرعة لها مدخل كبير في كثير من المشتبهات والمطلقات والمعتقين، والإقرارات التي لم يتضح الترجيح لأحدها على الآخر، وكل هذا من العدل الذي لا يمكن غيره].

وهذا -كما تقدم- إذا لم يظهر الحق لأحدهما في العين أو الحق؛ بحيث لا يوجد مرجح يترجح أن العين له أو أن الحق له، فإذا وجد المرجح فإنه يصار إلى الترجيح.

قال رحمه الله: [فالأشياء التي عُلم استحقاق الكل فيها، طريقها القسمة كما تقدم، والأشياء التي عُلم أنها لأحدهم دون الآخر، أو واقعة على أحد شيئين دون الآخر طريقها القرعة وصور الاشتباه كثيرة نبهنا على أصولها، وصور منها، والله أعلم].

يعني: ما تجرى فيه القرعة وما لا تجرى فيه، وصور هذه المسألة ذكرها ابن رجب رحمه الله في القواعد، وعدد المسائل التي تجري فيها القرعة والتي لا تجري فيها، وأوصلها إلى أكثر من مائة وخمسين مسألة، وهذه المسائل قد تكون مسلّمة وقد لا تكون مسلّمة.

فيقول المؤلف رحمه الله: [الأشياء التي عُلم استحقاق الكل فيها طريقها القسمة]، فإذا كنا نعرف أن هذه الثياب، أو هذه المواد الغذائية لزيد وعمرو فصل بينهما.

أما التي عُلم أنها لأحدهم دون الآخر وجهلنا المستحق، فطريقها القرعة، أو كانت واقعة على أحد شيئين دون الآخر فطريقها القرعة، كالطلاق.

أيضاً هذه من الفروق في مسائل الاشتباه، يعني: إذا اشتبه عند الإنسان شيئان: طاهر ونجس، محرم ومباح.. إلخ، فماذا نسلك؟

يقول: هذا -على المذهب- أقسام:

القسم الأول: تارة يؤمر باجتناب الجميع.

كما إذا اشتبه ماء نجس بماء طهور، أو ماء مباح بماء محرمٍ. فلو كان عندنا ماءان: أحدهما مباح والآخر مسروق أو مغصوب، واشتبه عليه هذان الماءان فيجتنبهما ولا يتطهر بشيء منهما.

القسم الثاني: أن يتحرى ويرجح ما يظنه مباحاً، كما إذا اشتبه الماءان للشرب عندما يضطر إليه، فلو أن عنده ماء طاهراً، وماء نجساً، واشتبه عليه هذان الماءان، فيتحرى ويرجّح وينظر إلى القرائن ثم يشرب.

أو كان مسافراً واشتبهت عليه القبلة فإنه يتحرى وينظر إلى القرائن.

هذا القسم الثاني أمروه بالتحري والترجيح.

القسم الثالث: [أمروه بسلوك طريق الاحتياط في الثياب المشتبه نجسها أو محرمها، بطاهرها أو مباحها].

يعني: إذا اشتبهت عنده ثيابٌ طاهرة بثياب نجسة فيحتاط، فيصلي بهذه النجسة ويزيد صلاته، فإذا كان عنده عشرة أثواب نجسة، وعنده عشرون ثوباً طاهراً، فيصلي عشر صلوات ويزيد صلاة؛ لأنه هنا يقطع قطعاً جازماً أنه صلى صلاة فأكثر بثوب طاهر.

كذلك أيضاً: لو كانت محرمة أو مباحة، فمثلاً عنده ثياب مباحة وثياب مغصوبة أو مسروقة، فيسلك طريق الاحتياط.

قال رحمه الله: [واختار الشيخ -شيخ الإسلام- فيها التحري، وإذا اشتبه على المصلي وشك في عدد الركعات أو الطوافات أو نحوها].

يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه أن يتحرى الإنسان؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وليتحر الصواب ثم ليبن عليه ) في الشك في الصلاة.

فإذا كان عنده ثياب نجسة وثياب طاهرة وشك، فإنه يتحرى ويصلي صلاة واحدة فقط، أما قوله: يصلي بعدد النجس أو عدد المحرم ويزيد صلاة، فهذا فيه مشقة ظاهرة عليه.

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه على المصلي وشك في عدد الركعات أو الطوافات أو نحوها، بنى على الأقل وهو اليقين، ولو غلب على ظنه الأكثر خلافاً لـشيخ الإسلام فإنه يبني عنده على غالب ظنه].

إذا حصل للإنسان شك في عدد الأشواط التي طافها، أو الأشواط التي سعاها، أو حصى الجمار التي رماها، أو الركعات التي صلاها... إلى آخره، فالمذهب أنه يبني على اليقين مطلقاً.

وعند شيخ الإسلام أنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يغلب على ظنه شيء إما القلة أو الكثرة، فإنه يبني على غالب ظنه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ثم ليتحرَّ الصواب وليبن عليه ) في الصحيح من حديث ابن مسعود .

القسم الثاني: ألا يغلب على ظنه شيء، فإنه هنا يأخذ باليقين، ودليل ذلك حديث أبي سعيد في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ).

قال رحمه الله: [ وإذا اشتبه على الإنسان كم ترك من صلاة أو صيام واجب، فعليه الاحتياط، وأن يبرئ ذمته فيؤدي ما به يتيقن براءتها ].

إذا وجب على الإنسان الصلاة والصيام وكان مكلفاً، وشك كم ترك من صلاة، وصيام ونحوه.

فعليه الاحتياط، وأن يبرئ ذمته فيؤدي ما به يتيقن براءته.

قال رحمه الله: [لأنه واجب مستقر عليه، فلا يخرج من العهدة إلا بيقين، بخلاف الأمور التي يشتبه على العبد هل وجبت عليه أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب، ولو سلك العبد طريق الاحتياط كان حسناً].

يعني: إذا كانت هذه أموراً واجبة، لكن تركها لعذر وشك في عددها، فهذا يحتاط ويعمل ما به يبرئ ذمته، فلو وجبت عليه كفارات أيمان ولم يدر كم بلغت، فيحتاط ويعمل ما به براءة ذمته.

أما إذا شك في أصل الوجوب، هل وجبت عليه هذه الأشياء أو لم تجب عليه؟

يعني: هل وجبت عليه الكفارة أو لم تجب؟ قال المؤلف: فالأصل أنه لم تجب، مثال ذلك: لو شك هل وجب عليه ثلاث صلوات أو أربع؟ فالأصل أنه ما وجب عليه إلا ثلاث فقط، يقول: ولو سلك العبد طريق الاحتياط كان حسناً، أي: لو سلك طريق الاحتياط وصلى أربع صلوات كان حسناً.

قال رحمه الله: [وإذا اشتبه هل طلق أو لا؟ أو هل طلق واحدة أو أكثر؟ بنى على العصمة وأنه لم يطلق إذا شك في نفس الطلاق، وعلى الأقل إذا شك في العدد، وعلى عدم وجود الشرط الذي علق عليه إذا شك في وجوده؛ لأن الأصل في ذلك كله ثبوت الزوجية، حتى يوجد يقين يزيلها أو يزيل بعضها وكثير من المشتبهات تعود إلى القاعدة المشهورة وهي: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنه لا يرفع الشك اليقين].

المؤلف رحمه الله أشار إلى مسائل: إذا شك هل طلق أو لا؟ فنقول: الأصل عدم الطلاق؛ لأن الأصل بقاء الزوجية.

وإذا شك هل طلق واحدة أو اثنتين؟ فنقول: الأصل أنها واحدة؛ لأن هذا هو المتيقن.

وإذا شك هل علّق طلاقه على شرط أو لا؟ فنقول: الأصل عدم الشرط، مثل لو قال: أنتِ طالق. ثم قال: إن دخلتِ، وشك هل قال: إن دخلت أو لا. نقول: الأصل أنه ما قال هذا، وأنه لم يعلّق طلاقه على شرط.

فإذا شك في الطلاق فالأصل عدمه، وإذا شك في العدد فالأصل الأقل، وإذا شك في وجود الشرط فنقول: الأصل عدم الشرط.