عرض كتاب الإتقان (37) - النوع الثامن والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة العرب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنبتدئ بالنوع الثامن والثلاثين في ما وقع فيه بغير لغة العرب.

قال السيوطي رحمه الله تعالى: [ قد أفردت في هذا النوع كتاباً سميته المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب ]، وهذا الكتاب مطبوع، أما المقصود بالمعرب فهو ما ذكره في رأس العنوان: [ ما وقع في القرآن بغير لغة العرب ] معنى ذلك أن أصله غير عربي، فهذا معنى المعرب، وفي هذا المبحث لخص الفوائد التي ذكرها في المعرب، وذكر الخلاف الوارد بين العلماء في هل يوجد في القرآن معرب أو هو عربي كله؟

الاختلاف في وجود بعض الكلمات الأعجمية في القرآن

لا يختلف العلماء أن بعض الأسماء والأعلام أعجمية، لكن هل هذه العجمة تخرج القرآن عن أن يكون عربياً؟ لا شك أنه ليس كذلك، ولهذا لا ينتقض عند العلماء الذين يقولون بهذا أن يكون عربياً، لكن آخرين قالوا: لا، بل إنما يحكى بأنه أعجمي هو عربي؛ لأنه لا دليل يدل على أن هذا اللفظ عربي أو أعجمي سوى النظر في تصاريف الكلام، ونحن نعلم أن بعض الكلام حتى في لغة العرب جاء على غير قياس كلام العرب، لكن ما ذكره الآن هنا ونسبه إلى الأكثرين ومنهم الإمام الشافعي و ابن جرير و أبو عبيدة والقاضي أبو بكر و ابن فارس على عدم وقوعه فيه؛ لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيّاً [يوسف:2]، وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك، وشدد أكثر منه أبو عبيدة معمر بن مثنى فقال: من قال: بأن القرآن أعجمي فقد أعظم الفرية على الله. فجعلها فرية عظيمة جداً أن يقال: إن في القرآن كلام ليس بعربي، فكل واحد منهم له مذهب مستقل من حيث التفصيل، فـالطبري رحمه الله تعالى في مثل هذا يقول: إن هذا الكلام مما اتفقت فيه اللغات، تكلم به العرب وتكلمت به غير العرب. ويستدل لذلك بالدليل العقلي: أن من زعم أنه غير عربي سيلزمه أن يثبت أن غير العرب استخدموه أصلاً ثم انتقل إلى العرب، وكذلك العكس من زعم أنه عربي انتقل إلى غيرهم يلزمه أن يثبت. ولهذا يرى أنه مما استخدم عند هؤلاء وعند أولئك.

أما ابن فارس فيقول: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله؛ لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وهذا تحليل جيد، من حيث أنه رجع إلى مبدأ الإعجاز، والإعجاز إنما وقع بهذا النظم العربي، وتحدى العرب بكونه نظماً عربياً مما يتكلمون به، ولم يعترض أحد منهم على أن فيه شيئاً أعجمياً، فالعرب لم يتوقفوا في كونه كله عربي، فهذا ملحظ ما ذكره ابن فارس وهو ملحظ لطيف ومهم.

بعض التعاليل في وجود كلمات أعجمية في القرآن

وهنا يرد السؤال التالي: هل ورد نسب شيء من ألفاظ القرآن إلى غير العرب عند السلف؟ نقول: نعم، وقد ثبت ذلك عنهم بلا ريب، لكن الطبري رحمه الله تعالى وهو يناقش هذه الأمور في مقدمته ينبه على ملحظ لطيف، وهو أن من نسبها إلى غير العربية لم ينفها عن العربية، فـابن جرير يقول: كون هذا وارداً عن السلف لا يعني أنها ليست من لغة العرب، فكون ابن عباس مثلاً يقول: هي بالفارسية كذا، أو هي بالحبشية كذا فهو لم ينف عن العربية، فكأنه يقول: هي ثابتة عربياً، ويضاف إليها أنها مما تكلمت به الحبشة أو الفرس أو غير هؤلاء، وذكر عن أبي المعالي عزيز بن عبد الملك قوله: إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب؛ لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً، ويجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ، أي إننا نقول: إنها وجدت في ألفاظ العرب، ويجوز أن يكونوا سبقوا من باب الجواز.

أما آخرون فقد ذهبوا إلى وقوع المعرب، وهؤلاء أجابوا بأن كون القرآن عربياً، أن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه من كونه عربياً، وكل ما ذكر إنما هو في أسماء وأعلام، وليس في الأساليب قطعاً، وهذه الأسماء والأعلام لا تتجاوز مائة كلمة على كل ما جمعوه بالرغم أن بعضها ليس صحيحاً.

ثم ذكر في هذا الباب سنداً إلى ميسرة التابعي الجليل أنه قال: في القرآن من كل لسان. قال: وروي مثله عن سعيد بن جبير و وهب بن منبه . هذا الكلام ذكروا فيه حكمة أنه حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء إلى آخره. لكن التعليل هذا ليس بدقيقٍ ولا بصحيح؛ لأنه لا يلزم أن يكون القرآن قد حوى كل لسان كما قاله ميسرة رضي الله عنه أو غيره من السلف، بل الدليل العقلي يدل على أنه لم يحو كل لسان، فضلاً عن الألسن التي جاءت بعده وهي كثيرة، أو التي كانت قبله، فهو لم يحو ما كان في وقته، ولا ما قبل وقته، ولا بعد وقته.

الحكمة من وجود بعض الكلمات الأعجمية في القرآن

أيضاً ذكر رأياً للخويي ذكره في وقوع المعرب يقول: إن قيل: إن (إستبرق) ليس بعربي وغير العربي من الألفاظ دون العربي في الفصاحة والبلاغة، فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة وأن يأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك؛ وذلك لأن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة، فإنه لم يرغبهم بالوعد الجميل ويخوفهم بالعذاب الوبيل، لا يكون حثه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب.. إلى آخر كلامه. لكن المقصد أن ما ذكره صواب وصحيح، فلو قلنا: إن (إستبرق) هذه أعجمية ليست عربية، خذوا هذه الكلمة الأعجمية التي تزعموها أعجمية، وهاتوا بكلمة عربية تقوم مقامها، فهذا لا يمكن، وهذا قد ذكره أيضاً أو أشار إلى طرف منه ابن عطية في مقدمة تفسيره، وتكلم عن بلاغة القرآن فقال: إنه لو نزعت لفظة منه، وأدير لسان العرب لتبحث عن كلمة توافق هذه الكلمة في هذا المقام لما وجدت. وما ذكره الخويي مهم جداً، في أن ما قيل: إنه ليس من لغة العرب حتى لو صح فإنه لا يمكن أن يقوم مقامها شيء من الكلام، فقد أعطانا في هذا ثم ذكر مذهب أبي عبيد القاسم بن سلام أنه بعد أن حكا القولين بالوقوع عن الفقهاء، والمنع عن أهل العربية والصواب قال الذي عند أبي عبيد : الصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق أي: بالاستعمال، ومن قال: إنها أعجمية فصادق أي: بالنظر إلى الأصل، قال: ومال لهذا القول الجواليقي و ابن الجوزي وآخرون، هذا ما ذكره السيوطي عن المتقدمين، وهذا محصل قول المتقدمين. وهناك رأي معاصر وأرى أنه صواب جداً، وهو ما ذهب إليه بعض الباحثين بعد أن توسع البحث اللغوي، وكشفت بعض القراءات لبعض النصوص القديمة.

أسباب تحول بعض الكلمات

ومن باب الفائدة في هذا الباب فإن الغرب وغيرهم من أذنابهم يقرءون هذه المدونات القديمة مستعينين بلغة العرب، ولكنهم لا يذكرون هذا، ولا شك أن إثبات هذا الأمر في مثل هذا الدرس ليس وقتاً له، لكن لو رجعتم إلى بعض من كتب في هذا الموضوع ينبه على ذلك، وعلى سبيل المثال: حجر الرشيد وهو حجر يكتب بثلاثة رسوم، وهو نفس الكلام، لكنه كتب بثلاثة رسوم، فقام شامبليون الفرنسي الذي قرأ أو استطاع أن يفك كما يقولون لغة هذا الرمز ويقرأه جاء إلى مصر وتعلم العربية، ومن خلال العربية استطاع أن يفك هذه المدونة الموجودة، وغيره كذلك كثير، ومع أن هذا جزء من البحث إلا أنه لا يعنينا الآن، والذي يعنينا الآن هو المذهب الجديد فينظر إلى قضية ترتبط بما يمكن أن نسميه برحلة الكلمة، أي: أن الكلمة تنتقل من جزيرة العرب إلى مكان آخر، ثم تعود إلى جزيرة العرب وقد عجمت، ويكون هناك تنافي أو عدم تنبه، فيعربونها على حسب أسلوبهم في التعريب، والأمثلة المعاصرة في اللغات كثيرة جداً، خصوصاً اللغة الإنجليزية وما يرتبط بها من اللغات كالفرنسية والإيطالية والأسبانية وغيرها، والأسبانية بالذات؛ لأن العرب كانت لهم حضارة هناك، ولهذا لو تقرأ في الأسبانية تجد كلمات أصولها عربية تماماً، لكنها عجمت بطريقة الأسبانيين في العصر الحديث، فمن الأمثلة التي يذكرها بعضهم لا نجزم بالصحة في مثل هذا الآن وإنما نذكر الفكرة، في بلدة كيرلا، فبعض الباحثين يقول: أصلها خير الله، فالعجم لا ينطقون الخاء (خير) وإنما ينطقون كير الله، ومع الزمن تبدأ الكلمة تندمج فتصبح: (كيرلا) بدل (كير الله)، مثلما قيل عن سامرا أن أصلها في بدايتها كانت: سر من رأى، إلا أنها تحولت، فالأسماء أو الألفاظ كثيرة جداً في هذا، ولو نظرتم إلى اسم ميشال ما هو أصله؟ وأحياناً يقولون: ميشيل، أصله ميكال الذي عندنا، فتحول إلى أن وصل إلى هذا الاسم، وغيره من الأسماء كثير، فإذاً الذي يخرج من جزيرة العرب، ثم يرجع إلى جزيرة العرب وقد عجم، فقد يلحظ الأصل الذي خرج منه ويقرأ أو ينطق كما هو موجود عند لغة القوم، وقد يعرب تعريباً ما، قد يقول قائل: كيف هذا؟ نقول: إن هذا مرتبط باللغات القديمة، أحفظها للغة الأم هي لغة العرب الموجودة الآن ومدونة، وهذه اللغات القديمة قائمة على الاشتقاق سواءً كان أصل الاشتقاق ثنائي أو ثلاثي، ومنطقة الشام والعراق ومصر هي منطقة صراع الحضارات، يجتمع فيها الناس وتكون صراع للحضارات منذ أمد بعيد، مثل: منطقة جزيرة العرب خصوصاً الوسط، فهذه منطقة في الغالب محفوظة من الصراع، واليمن قد أتاها صراعات كثيرة؛ لأنها على الحدود البحرية، لكن مثل الحجاز ونجد في كثير من الأحيان لم يأتها صراعات، ولم يدخلوا غزاة، ولا يحتاجونها؛ لأنها كانت أرض قاحلة، لا أحد يريدها، فإذا انتقل قوم من العرب إلى الشمال والبعد عن جزيرة العرب مع الزمن يبدأ يورث لهجة جديدة، كما هي طبيعة اللهجات اللي نراها اليوم، أحياناً ترى بين بلدة وبلدة مسافة كيلو، وإذا جئت إلى اللهجة تختلف بين هؤلاء وأولئك اختلافاً متبايناً، ولو وجد بينهم اتصالات، وبينهم تجارات، وبينهم مزاوجات، إلا أن ذلك لم تتعد اللغة أو اللهجة المختلفة، هذا الذي هو قائم اليوم عندنا من تعدد اللهجات الكثيرة جداً في جزيرة العرب، لكن هل الأصول تختلف باختلاف الألفاظ التي ينطقون بها؟ لا، قد يختلفون في المدلول، لكن الألفاظ وأصولها والاشتقاق لا يختلف، لأن الفكرة هي هي منذ القدم، فلما يذهب إلى الشمال وتتحول اللغات شيئاً فشيئاً تبدأ تتعجم عن ما في جزيرة العرب، فترجع إليها التي خرجت منها بأصولها العربية معجمةً يوماً ما، والأمثلة كما قلت لكم كثيرة، لكن هذه الفكرة الحديثة هذه هي باختصار، وقد أثبت بعض الباحثين أمثلة كثيرة جداً لهذه الكلمات التي قيل: إنها ليست بعربية، مع ملاحظة دخول اللغة اليونانية في بعض الأسماء أيضاً، ونبهوا عليها، وبعضها قد يكون له وجوداً في القرآن على حسب ما نطق به في عهده، مثل إلياس يقولون: أصله إيليا، والسين هذه سين التذكير عند اليونانيين، أو يونس أصلها يونان، أو يونا، ثم زيدت السين للتذكير، أمثلة كثيرة ذكروها، أقول: هذا المذهب الذي ذكروه مذهب صحيح عندي، وهو يحفظ لنا نفس الفكرة التي ذكرها علماؤنا السابقون في أن أصولها عربية، لكن حصل لها عجمة فقط، فرجعت معجمة بعد أن كانت أصولها عربية، وهذا في كثير من الكلمات التي حكي أنها أعجمية، وبعض ما ذكر أنه أعجمي لا يصلح أن يكون أعجمياً إطلاقاً؛ لكثرة تصرفه في لغة العرب، وكثرة التصرف في لغة العرب يؤنس بأن الكلمة عربية، كذلك إذا كانت مشتقة من جذر عربي متداول، وفيها نفس المعنى فإنه يدل أيضاً على أنها عربية، مثل الأب في قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31]، قال بعضهم: هو الحشيش بلغة أهل المغرب، يقول: حكاه شيذلة ، لكن الأب إذا رجعنا إلى تصرفاته في لغة العرب نجد أنه متصرف، وكذلك قوله: ابْلَعِي [هود:44] الذي ذكره وهب بن منبه : أنه بالحبشية: ازدرديه، وبالهندية: اشربي، فهذا كله إنما هو عربي مما يدل على الفكرة التي هي لغة الاشتقاق، فيكون انتقل وتوزع بين هذه اللغات، كما يتوزع أي كلمة الآن من خلال التحرك والهجرة من المواطن، فأهل الجنوب ينتقلون إلى الشمال، وأهل الشمال يزورون الجنوب، ويشتركان الشمال والجنوب والوسط في مكان ما، مثلما هنا في الشرقية وغيرها، لما تذهب إلى هؤلاء ونظرت إلى بعد زمن ستجد إنهم كانوا يتكلمون بلهجات لهم بدأت تدخل عندهم مصطلحات ولهجات جديدة يتعاملون بها، وهذه الألفاظ عندما يرجعون إلى أهلهم تجد أنهم أحياناً يستدركون أنفسهم ويرجعون إلى لهجتهم الأصلية، وأحياناً يبقون على الدرج الذي عاشوا سنوات وهم يتعاملون في محيط أو وسط معين، فإذاً ينتبه إلى أن قضية تحرك الكلمة بين الناس هذا أمر طبيعي، وليس فيه إشكال، مثل (أخلد) لما قلنا عن الواسطي قال: (أخلد) ركن بالعبرية، فهذا في اشتقاق العرب واضح، والتصرفات العربية واضحة، ركن يركن ركوناً.

أصول اللهجة العبرية

ومن باب الفائدة فإن العبرية ليست لهجة مستقلة، وأنبه على هذا، وأتعجب جداً كيف استطاع اليهود أن يلبسوا حتى في مثل هذا الأمر؟ قد يقول قائل: حديث البخاري وغيره، نقول: نعم ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يعني عدم وجود لسان لهم، لكن الذي أريد أن ننتبه له ليس لهم لسان مستقل محفوظ، قد أحاطوه بسور لم تدخله كلمات، ولم تمت منه كلمات؛ لأن أبناء يعقوب عليه السلام الاثني عشر كانوا في بادية الشام، بدلالة قول يوسف عليه السلام: وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ [يوسف:100]، وهم جاءوا أصلاً من العراق بناءً على أن إبراهيم عليه السلام جاء من العراق، فبين إبراهيم وأبناء أحفاده الذين هم أحفاد ابنه الذين هم الأسباط فترة قصيرة جداً، فإذا عاشوا في هذه المنطقة فهل من المعقول أنه ليس لهم ارتباط بمن حولهم، ولا يفهمون من حولهم، قد يتصور بعضنا الآن أن لغة هؤلاء غير لغة الذين كانوا في فلسطين، لا هم واحد، ولهذا لوط عليه السلام لما نزل مع عمه إبراهيم وهم في الطريق أرسل إليهم إلى قرى سدوم وعمورة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، مما يدل على أنه كان يعرف اللسان، هو نفس اللسان ما تغير، فاللسان الذي كان ينطق به هؤلاء هو نفس لسان لوط عليه السلام، فالمنطقة كلها كان لسانها واحد متحد، ليس فيه نوع من التفريقات مثل إنجليزي وألماني وأسباني.. إلى آخره، لا.

أيضاً إبراهيم عليه السلام لما سافر إلى مصر وحصل ما حصل لزوجه سارة حصل بعد ذلك أنه أعطي امرأة فوهب سارة وهذه المرأة اسمها هاجر ، وهذا اسم عربي صريح، والأسماء لا تتغير، ونحن الآن في عهد إبراهيم عليه السلام، المهم أن هؤلاء الأسباط الاثني عشر اتجهوا إلى مصر، فهل يتصور أن هؤلاء عاشوا في قلعة حصينة لا يدخلون ولا يخرجون، ولا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد، وبقيت لغتهم كما هي التي علمهم آباؤهم؟ لا، فقد عاشوا في مصر، فإذاً ستكون لغتهم من نفس لغة القوم الذين يعايشونهم، ثم جلسوا أكثر من ستمائة عام على حسب الروايات التي عندهم، بين يوسف عليه السلام وبين موسى ، فهل يتصور أنه ستمائة عام يحتفظون باللغة الأصل وتبقى؟ لا بد يكون طرأ عليه طوارئ كثيرة، واقرأ في عنوان المجد أو في غيره، اقرأ الأسماء، واقرأ بعض المصطلحات من قضايا الحرب أو غيره تجد فيها كلمات لم تستطع تفهمها، مع أنها خارجة من نجد وأنت من نجد، نتكلم الآن ونحن في الرياض، لو قرأت هذا الكتاب ستجد أسماء وأشياء ما تعرفها، مع أنها في بلدك في بيئتك، ما الذي تغير؟ تغير الزمن، وتغيرت الكلمات والمصطلحات، وتغيرت استعمالات كثيرة، لكنه ما تغير الاشتقاق، فالاشتقاق باق، فالذي كان يتكلم به أبو البشر قبل سنوات هو نفس الذي تكلم به والاشتقاق باق، فبعض الكلمات ما زالت باقية كما هي، واستجدت كلمات، وماتت كلمات، هذه حال اللغة.

فلما انتقلوا من مصر وعاشوا في برية سيناء التي هي فترة التيه، ثم أذن الله سبحانه وتعالى لهم بالدخول إلى فلسطين بعد موسى عليه السلام، بعدما مات في التيه هو وهارون، وقد دخلوا في فلسطين مع يوشع بن نون واستمروا، فهل يتصور أنهم بقوا يحتفظون بلغتهم الأم كل هذه الفترة؟ أبداً، فمعنى ذلك أن هذه اللغة فيها ما يحيا وفيها ما يموت، خصوصاً ما بدلوا وحرفوا في كتابهم، وإذا علمنا أن كتابهم قد أحرق ولم يكن عندهم نسخة من التوراة إطلاقاً، لأن بختنصر لما دخل أحرق عليهم المسجد الأقصى، وأخذ نسخ التوراة وأحرقها، ولما كانوا في الأسر ثم رجعوا منه باتفاق من أن الذي كتب التوراة بعد خروجهم من الأسر هو عزراء ، وبعضهم يقول: هو الذي ذكر في قول الله سبحانه وتعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259]، ولكن الأظهر أنه ليس هو، لكن عموماً هذا عزراء هو الذي كتبها، فبأي لغة يكتب لهم التوراة؟ هل يكتبها باللغة القديمة التي كانت، أو يكتبها لهم بما يعرفون؟ ثم جاءت الترجمة السبعينية إلى آخره، معنى ذلك الذي أريد أن أقوله: إنه ليس هناك لغة اسمها عبرية مستقلة محفوظة بطريقة معينة، وإنما هي تقترض ممن حولها مثلما تقترض اللغات عموماً، لكن لما نقرأ كتاباتهم أو غيرهم يشعروننا بأن هذه اللغة لغة مقدسة محفوظة منذ أن نزلت على موسى عليه السلام إلى هذا اليوم، وهذا ليس بصحيح، ولولا أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن، ودارت عليه هذه الدراسات لما حفظت لغة العرب بنفس الطريقة التي استمرت بالتوارث مثل ما نجد الآن، فانفرقت اللهجات العامية عن اللهجة الفصحى، فالمتصور أنه ما كان فيه هذا الكتاب الذي دارت حوله الكلمات أن يكون مثل هذا الذي نراه اليوم من لهجات عامية متواردة واحدة تلوى الأخرى، والناس يتخاطبون ويعرفون ماذا يريدون بهذه اللهجة وانتهى الأمر، لكن بنعمة الله أن جعل هذا الكتاب حافظاً لهذه اللغة التي هي لغة العرب، هذا باختصار فكرة هذا الموضوع المعاصر، وكما قلت: إنها فكرة لها حظ كبير جداً من النظر، لا نحتاج أن نتبع كما هي العادة أن نتبع ما ذكره الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، وأغلب ما ذكره هو في الحقيقة مستخدم عند العرب، وداخل في تصرفات كلامها، وقليل منه يمكن أن يحمل على ما ذكره من أنه من المعرب.

ثم ذكر في آخر هذا المبحث أبيات لـتاج الدين السبكي ، ذكر فيها سبعة وعشرين لفظاً فقط، وهي تكاد تكون الألفاظ التي يكثر أو يقال: إنها معربة، ثم زاد عليها السيوطي أيضاً مجموعة من الكلمات التي ذكرها في هذا المبحث، فهذا تقريباً ما يتعلق سريعاً بموضوع المعرب.

لا يختلف العلماء أن بعض الأسماء والأعلام أعجمية، لكن هل هذه العجمة تخرج القرآن عن أن يكون عربياً؟ لا شك أنه ليس كذلك، ولهذا لا ينتقض عند العلماء الذين يقولون بهذا أن يكون عربياً، لكن آخرين قالوا: لا، بل إنما يحكى بأنه أعجمي هو عربي؛ لأنه لا دليل يدل على أن هذا اللفظ عربي أو أعجمي سوى النظر في تصاريف الكلام، ونحن نعلم أن بعض الكلام حتى في لغة العرب جاء على غير قياس كلام العرب، لكن ما ذكره الآن هنا ونسبه إلى الأكثرين ومنهم الإمام الشافعي و ابن جرير و أبو عبيدة والقاضي أبو بكر و ابن فارس على عدم وقوعه فيه؛ لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيّاً [يوسف:2]، وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك، وشدد أكثر منه أبو عبيدة معمر بن مثنى فقال: من قال: بأن القرآن أعجمي فقد أعظم الفرية على الله. فجعلها فرية عظيمة جداً أن يقال: إن في القرآن كلام ليس بعربي، فكل واحد منهم له مذهب مستقل من حيث التفصيل، فـالطبري رحمه الله تعالى في مثل هذا يقول: إن هذا الكلام مما اتفقت فيه اللغات، تكلم به العرب وتكلمت به غير العرب. ويستدل لذلك بالدليل العقلي: أن من زعم أنه غير عربي سيلزمه أن يثبت أن غير العرب استخدموه أصلاً ثم انتقل إلى العرب، وكذلك العكس من زعم أنه عربي انتقل إلى غيرهم يلزمه أن يثبت. ولهذا يرى أنه مما استخدم عند هؤلاء وعند أولئك.

أما ابن فارس فيقول: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله؛ لأنه أتى بلغات لا يعرفونها. وهذا تحليل جيد، من حيث أنه رجع إلى مبدأ الإعجاز، والإعجاز إنما وقع بهذا النظم العربي، وتحدى العرب بكونه نظماً عربياً مما يتكلمون به، ولم يعترض أحد منهم على أن فيه شيئاً أعجمياً، فالعرب لم يتوقفوا في كونه كله عربي، فهذا ملحظ ما ذكره ابن فارس وهو ملحظ لطيف ومهم.