عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

فسنأخذ النوع السابع والأربعين: في ناسخ القرآن ومنسوخه من كتاب الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي رحمه الله تعالى.

قال: [النوع السابع والأربعون: في ناسخه ومنسوخه].

ثم ذكر بعض من صنّف فيه وأشار إلى أنه قد أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون وذكر منهم أبا عبيد القاسم بن سلام و أبا داود السجستاني و أبا جعفر النحاس و ابن الأنباري و مكي و ابن العربي .

أما كتاب أبي عبيد القاسم و أبي جعفر النحاس و مكي و ابن العربي فمطبوعة، وأما كتاب أبي داود السجستاني صاحب السنن و ابن الأنباري اللغوي المشهور فهذه غير موجودة.

وكتاب أبي عبيد القاسم بن سلام له طبعة واحدة فيما أعلم بتحقيق الدكتور محمد المذيفر ، وهو تحقيق متميز.

وكتاب أبي جعفر النحاس له عدة تحقيقات، وأفضلها تحقيق الشيخ الدكتور اللاحم .

وكتاب مكي تحقيق أحمد حسن فرحات ، وكتاب ابن العربي تحقيق عبد الكبير المدغري من المغرب.

فهذه الكتب والتحقيقات فيها.

والإمام رحمه الله تعالى لو قرأنا ما كتب لم يعرّج على تعريف الناسخ والمنسوخ، وكأني به رحمه الله تعالى ترك هذا لشهرة التعريف الناسخ والمنسوخ.

تعريف النسخ

ويمكن أن نأخذ مما طرحه رحمه الله تعالى أنه أراد بالناسخ والمنسوخ التعريف الاصطلاحي عند الأصوليين، وقد اختلف الأصوليون في تعريفه، لكن أركانه: أن يكون عندنا آية، وتنسخ -يعني: يرفع حكمها بآية أخرى-، بشرط التراخي، بمعنى أن تكون آية نزلت أولاً ثم جاءت هذه عقبها فنسختها، يعني: نسخ حكم شرعي بحكم شرعي آخر متراخٍ عنه.

فهذا أحد تعريفات النسخ عند الأصوليين، ولهم كلام في تحديده ونقاش طويل، لكن هذه صورة تقريبية لتعريف النسخ عندهم.

يقول الإمام رحمه الله تعالى: [قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسّر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ].

وأحب أن نلاحظ قوله: (لا يجوز أن يفسّر) لأنا سنحتاجها لما نتكلم عن هذا العلم هل هو من علوم التفسير أو لا؟

قال: [ وقال علي لقاصٍ] علي هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت].

القاص هذه مهنة كان يمتهنها بعض السلف، وبدأت تقريباً في جيل التابعين الذين كانوا معاصرين للصحابة، فكانوا يقصون، وليس المراد بالقصص هنا ما يفهم الآن من القصص عندنا، وإنما يدخل فيه المواعظ والأخبار والآداب، وكذلك بيان بعض الأحكام، فإذاً مهمة القاص، فهي مهمة الواعظ ويدخل فيها أيضاً جوانب من قضايا الفقه.

فـعلي رضي الله عنه يقول لهذا القاص: (أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت).

ولو سألنا: ما مراد علي رضي الله عنه بالناسخ والمنسوخ؟ فسيتبادر إلى ذهننا التعريف الاصطلاحي، ولكن سيتبين لنا فيما بعد أن مفهوم الناسخ والمنسوخ عند علي رضي الله عنه أوسع من التعريف الاصطلاحي.

من معاني النسخ

ثم قال بعد ذلك: [وفي هذا النوع مسائل] أي: النوع السابع والأربعين الذي هو: الناسخ والمنسوخ.

قال: [الأولى: يرد النسخ بمعنى: الإزالة ومنه قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ [الحج:52]].

فهذا نوع من النسخ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ [الحج:52] فهو نوعٌ مما يحصل من إلقاء الشيطان، إما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الغرانيق العلى وهو حديث مشهور، حيث يقول فيه: ( تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) قيل: بأن الشيطان قد تكلم بصوت الرسول صلى الله عليه وسلم فظن المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال هذا، فنسخ الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان.

وهذا الحديث فيه كلام من جهة ثبوته، وأيضاً من جهة معناه، ليس هذا محل تحريره، لكن لكي يُعلم المراد بقضية النسخ هنا.

أو أن يكون النسخ المراد في الآية هي الأفهام الباطلة والخاطئة التي يلقيها الشيطان في قلوب المؤمنين، فينسخها الله سبحانه وتعالى بمحكم الآيات؛ بحيث يزول ما في قلب المؤمن مما دخله من الشبه الشيطانية.

فهذا إذاً الوجه الثاني في معنى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52].

وذكر أنه يأتي النسخ [ بمعنى التبديل: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل:101]].

بمعنى أنه ينسخ آية ولكن يأتي مكانها بآية.

أما النوع الأول فليس منه، لكن لو دخل في معنى النسخ فإن معناه أنه ينسخ آية ولا يأتي بآية بديلة؛ لأن معنى الآية الثانية أنه يكون آية بدل آية، وقد يكون نسخ كما سيأتي ولا يوجد له بدل.

وذكر [ بمعنى التحويل كتناسخ المواريث ]، وهذا لا علاقة لنا به في هذا الباب.

قال: [ ويأتي بمعنى النقل من موضع إلى موضع ومنه: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه ]، ومنه قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]] فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه معنى الآية: أن الملائكة يستنسخون من اللوح المحفوظ ما سيعملونه.

ومن باب الفائدة فإن ما يستنسخ من اللوح المحفوظ لا يحاسب به الإنسان إلا إذا عمله؛ لكي لا يكون عندنا شبهة في هذا الموضوع، لكن المقصد هنا الآن أن هذا النوع من الاستنساخ أيضاً ليس مراداً في مادة الناسخ والمنسوخ، وإنما هو الآن يعرّف مدلول النسخ بهذه التعريفات التي ذكرها.

مذاهب الأمم في النسخ

المسألة الثانية قال: [النسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم].

وذكر منها: [التيسير]، ثم قال: [وقد أجمع المسلمون على جوازه].

يعني: على جواز النسخ، إلا ما يُذكر عن أبي مسلم الأصفهاني المعتزلي أنه كان لا يرى النسخ.

ثم قال: [ وأنكره اليهود ظناً منهم أنه بداءٌ كالذي يرى الرأي ثم يبدو له وهو باطل] أي: قول اليهود.

وليس لنا علاقة بقول اليهود في مثل هذه المسألة، فالناسخ والمنسوخ نحن نتكلم عنه في القرآن، لكنه يذكر أقوال الأمم الأخرى.

ومن باب الفائدة ننبه إلى هذه المسألة، وهي ما يتعلق بقضية الأمم الأخرى وخصوصاً مع النصارى.

فاليهود أو بعض اليهود ينكر النسخ بناءً على أنه يرى أنه يلزم منه البداء، وهذا نوع من التشبيه، في ظنه أن الله سبحانه وتعالى قد قضى بقضية ثم بدا له أمر فغير هذه القضية، هكذا يفهم هو، ولا شك أن هذا ظنٌ منه، وفيه تشبيه بالمخلوق، فكأنه ظن أن الخالق مثل المخلوق، وهذا عند اليهود موجود في كتبهم، فحين تقرأ في أسفارهم تجد أن هذا التشبيه واضح عندهم، وليس هذا مجال الكلام عنه، لكن أقصد أنه ليس بغريب أن يصدر منهم مثل هذا القول.

والنصارى أيضاً ينكرون النسخ أو بعضهم ينكر النسخ، وبعضهم اليوم يجادل في هذا ويتكلم على المسلمين وعلى النسخ عند المسلمين بكلام يصل فيه إلى حد البداءة مع الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه يرى أن رب المسلمين غير رب النصارى، واليهود يرون أن رب اليهود غير رب المسلمين ورب النصارى.

أما المسلمون فيرون أن الرب سبحانه وتعالى واحد رب المسلمين ورب النصارى واحد، ولذا يجب أن ننتبه إلى هذه القضية حينما نتجادل مع النصارى؛ لأنه قد يصدر منهم من الكلام ما يكون فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، لكن هو بالنسبة له لا يرى أنه سوء أدب لأنه ليس مقتنعاً بإلهك الذي تعبده؛ لأنه يظنك على باطل، فنحن نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذه الحيثية.

قضية أخرى النسخ لا بد من تحديد مفهومه عند الطوائف هذه، بمعنى: أننا حينما نتكلم مع هؤلاء في قضية النسخ أول ما يجب علينا أن نحدد ما هو النسخ الذي تنكرونه؟

فإذا حددنا النسخ الذي ينكرونه فيمكن أن نثبت عليهم من كتبهم وجود النسخ الذي ينكرونه، ولهذا أنا أقول: إن إنكار النسخ من هذه الطوائف مكابرة.

ولهذا على سبيل المثال: النصارى لأنهم هم أكثر الطوائف جدلاً مع المسلمين، أما اليهود فجدالهم مع المسلمين وحتى مع النصارى ومع غيرهم يكاد يكون منعدماً ونادراً جداً؛ لأن اليهود أصلاً يرون أن رب اليهود رب خاص باليهود، وهذا الدين خاص باليهود، ولهذا لا يدخلون في نقاشات ولا يدعون غيرهم إلى اليهودية.

فلو تأملتم لوجدتم أن اليهود لا يحرصون على دعوة غيرهم إلى اليهودية؛ لأنهم يرون أن اليهودية إنما هي -بزعمهم- في أشرف الأعراق الذين هم بنو إسرائيل، ولهذا لا يدعون أحداً، فعلى مر العصور لا يدعونه، وكيف دخل غيرهم؟ هذه قضية تاريخية ليس هذا مكانها.

لكن أقصد أن ننتبه إلى هذه الحيثية، ولهذا يقل الجدال بين اليهود والطوائف الأخرى، ونجد أنه يكثر الجدال خاصة هذه الأيام بين النصارى والمسلمين.

فإذا جئنا نناقش نصرانياً في هذه القضية فنقول له: أولاً: حدد مفهوم النسخ عندك، ماذا تريد من النسخ؟ ثم بعد ذلك نناقش هذه القضية.

وأيضاً يجب أن ننتبه إلى قضية أخرى وهي: أن نقول له حينما نحدد مفهوم النسخ: أننا نحتج عليك بجميع الأسفار التي تؤمن بها، أي: العهد القديم الذي يسمى عندهم والعهد الجديد، فلا يمكن أن ننطلق في النقاش إذا كان سيحدد النقاش في قضية النسخ عند المسلمين فقط ويناقشها، وهذا لا شك أنا أعتبره نوع من المناظرات الذي يكون فيه حجر في زاوية ضيّقة، ويكون موقف المسلم مجرد الرد فقط، وهذا ليس بصواب.

والأدلة على وجود النسخ كثيرة جداً، لكن سأذكر مثالاً مشهوراً وقد سبق أن ذكرته في أحد المقامات في هذه المجالس: قضية الختان، هم في كتبهم موجود في أحد الأناجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى الجبل واختتن، وهذا طبعاً بعد نبوته، فهذا ثابت عندهم الآن في كتابهم، ولو سألت بعض أحبارهم عن حكم الاختتان، فأحسنهم حالاً من يقول: إن الختان يجوز، من أراد أن يختتن فليختتن، ومن أراد ألا يختتن فلا يختتن.

وأصل الاختتان سنة إبراهيم عليه السلام، وعيسى عليه السلام اختتن بناءً على سنة إبراهيم، فإذاً هذه سنة إبراهيم عليه السلام كما نعلم، والذي أبطل سنة إبراهيم عليه السلام في النصارى هو بولس، ولهذا كثير من عقائد النصارى الموجودة هي في الحقيقة عقائد بولس.

فهذا الآن ترك الختان هو في الحقيقة صورة من صور النسخ؛ لأنه كان معمولاً به فتركه النصارى عن بكرة أبيهم، ولذلك قلنا قبل قليل: لا بد أن نحدد ما هو مفهوم النسخ، ثم نناقش بعد ذلك.

فهذا مثال من الأمثلة، والأمثلة كثيرة فيما يتعلق بأسفار بني إسرائيل القديمة أو الأناجيل الأربعة، أو كذلك ما يأتي بعدها مما يسمى بأعمال الرسل، وقد كتب فيه بعض المسلمين، وذكروا أمثلة كثيرة جداً في قضية النسخ، لكن كما قلنا: هؤلاء القوم إنما ينكرون عن مكابرة فقط لا غير، وليس عن إرادة وصول للحق.

ولهذا من يهد الله سبحانه وتعالى قلبه من هؤلاء النصارى أو من اليهود للحق تجد هذه الأمور واضحة عنده، ويستغرب أن قومه يكابرون في هذه الأمور الواضحة.

وهذا استطراد فقط لأجل ما ذكره الإمام رحمه الله تعالى من إنكار اليهود النسخ.

أقوال العلماء في نسخ القرآن بالسنة

ذكر اختلاف العلماء فقال: [فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن].

واختلف العلماء: هل ينسخ القرآن بسنة أو لا ينسخ بسنة؟ ذكر ثلاث مذاهب، المذهب الأول: أنه لا ينسخ القرآن إلا بالقرآن.

والمذهب الثاني الذي قال فيه: (وقيل): إنه ينسخ القرآن بالسنة.

والثالث: أنه إذا كانت السنة بأمر من طريق الوحي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. وقال: إن هذا حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره، وهذا نوع من التفصيل، ثم تكلم على هذا التفصيل الذي ذكره ابن حبيب.

طبعاً والمذهب المشهور هو الأول والثاني، وفيه خلاف بين الأصوليين في: هل يوجد نسخ بالسنة أو لا؟ بناءً على أن السنة والقرآن وحي، فإذاً مرتبتهما من جهة القبول في التشريع واحدة، وإن كان القرآن طريقة ثبوته غير طريق ثبوت السنة، وأيضاً الدلالة القطعية في القرآن قد تكون غير الدلالة القطعية في السنة من جهة قضية وصول الحديث من عدم وصوله بطرائقه، لكن إذا ثبت الحديث فلا شك أنه يمكن أن ينسخ القرآن، لكن هل وقع أو لم يقع؟ هذا خلاف بين الفقهاء، وتخريجات فيما بينهم في الآيات التي وقع البحث فيها في هذه المسألة.

الكلام الذي يقع فيه النسخ

المسألة الثالثة التي ذكرها قال: [لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد، وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيراً من آيات الأخبار والوعد والوعيد].

هذا قوله رحمه الله تعالى يشير إلى أن النسخ عنده هو النسخ الأصولي وهو الذي قلنا عنه: رفع حكم شرعي بحكم شرعي، ولهذا قال: إن الأخبار لا يدخلها نسخ.. فالخبر الذي ليس بمعنى الطلب لا يدخله نسخ.

وهل هذه القاعدة صحيحة أو ليست بصحيحة؟

إذا أخذنا الخبر مطلقاً بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن السموات سبع، فلا يمكن أن ينسخها الله سبحانه وتعالى ويقول: ست على هذا فهذه القاعدة صحيحة.

مصطلح النسخ عند السلف والخلف

وهنا يجب أن ننتبه إلى أن النسخ في كلام العلماء عموماً بدءاً من السلف على نوعين: النسخ الكلي، والنسخ الجزئي، والذي ينطبق عليه هذا الكلام (أن الأخبار لا تنسخ) هو النسخ الكلي.

فالنسخ الكلي هو الذي يقع في الأحكام، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يأمر بأمر ثم في وقت متراخٍ عنه ينسخ هذا الأمر.

إذاً الآن النسخ الكلي يقع في الأحكام.

النسخ الجزئي المقابل له وهو رفع جزء من حكم الآية أو خبرها فإنه يدخل في الأخبار.

نحتاج إلى مثال ليتضح به المقال: ابن عباس رضي الله عنه عند قوله سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] قال: نسخها قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227].

فلو طبقنا قاعدة الإمام وهي قاعدة ذكرها العلماء عموماً وقلنا: الأخبار لا يدخلها النسخ، إذاً النتيجة: أن ابن عباس قد أخطأ في حكمه على هذه الآية بالنسخ، هذا لو تعاملنا بهذا الأسلوب؛ لأنا فهمنا أن ابن عباس أراد النسخ الكلي، لكن ابن عباس في هذا المقام لم يرد النسخ الكلي وإنما أراد النسخ الجزئي.

والنسخ الجزئي الذي عليه كثير من كلام السلف يدخل فيه: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، والاستثناء. فهذه كلها تدخل في النسخ الجزئي.

النسخ الجزئي الآن إذا قلنا: إن قوله سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] عام، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227] استثناء يدل على التخصيص، كلامنا هذا صحيح.

إذاً: يكون مراد ابن عباس هو هذا النوع الذي سبق أن ذكرناه سابقاً، لأنهم لم يكونوا يسمونه بتسمية المتأخرين دائماً، وإنما كانوا يطلقون عليه مصطلح النسخ.

إذاً الآن مصطلح النسخ عند السلف أوسع من مصطلح النسخ عند المتأخرين.

فمصطلح النسخ عند السلف يشمل النسخ الكلي المذكور عند المتأخرين، والنسخ الجزئي، ومصطلح النسخ عند المتأخرين لا يشمل إلا النسخ الكلي فقط، ولهذا بعضهم يعترض على النسخ الجزئي إذا أطلق عليه نسخاً جزئياً؛ لظنه أن مراد المتكلم هو النسخ الكلي، وسنأتي إن شاء الله إلى القواعد في كيفية التفريق بينهما في كلام السلف، بعدما ننتهي من استعراض كلام السيوطي رحمه الله تعالى.

ثم ذكر بعد ذلك المسألة الرابعة والخامسة في أقسام النسخ، هذه يمكن أن تراجع؛ لأنها تقسيمات فنية ما يحتاج نقف عندها.

أنواع النسخ في القرآن

نأتي إلى المسألة السابعة قال: [النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها: ما نسخ في تلاوته وحكمه معاً]. وهذا قليل إن لم يكن نادراً، مثاله وهو عزيز: ما روي عن عائشة وهو في الصحيحين قالت: ( كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن ).

أين هي الآن في القرآن الذي بين يدينا؟ غير موجودة، فإذاً الأول الذي هو عشر رضعات نسخ حكماً وتلاوة، والخمس رضعات نسخ تلاوة وبقي حكماً.

فهذا المثال فيه نوعان من النسخ، الأول الذي هو العشر رضعات نسخت تلاوة وحكماً، لكن بقيت الإشارة إلى تلاوتها في كلام عائشة ، الثانية: نسخت تلاوة وبقيت حكماً.

ثم ذكر كلام العلماء عن هذا، لكن لا شك أن ظاهر كلام عائشة أنها كانت فيما يُتلى، لكنها الآن نسخت، فهذا يدل على أنها نسخت.

الضرب الثاني قال: [ما نسخ حكمه دون تلاوته].

وهذا القسم أطال النفس فيه.

قال: [وهو الذي فيه الكتب المؤلفة وهو على الحقيقة قليل جداً ].

هذا هو الذي قلنا عنه قبل قليل النسخ الكلي، وهو: نسخ الحكم دون التلاوة.

وفيه كلام لعلماء الأصول، وكذلك لمن كتب في الناسخ والمنسوخ في قضية عدد الآيات المنسوخة، وبعضهم يكثر فيها وبعضهم يقل، لكن هو كما قال السيوطي الأصل فيها أنها قليلة، بل إن بعض المعاصرين يرى أن الذي يمكن أن ينطبق عليه أنه منسوخ آية واحدة، وهي آية الصدقة، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليها.

خلاصة ما ذكره العلماء من الآيات المنسوخة

ثم بعد أن تكلم عنه قال: [والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام: قسمٌ ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه].

وذكر مثالاً: [مثل قوله سبحانه وتعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:54] على من قال أنه منسوخ بقوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] ونحو ذلك قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة.

وليس كذلك بل هو باقٍ].

يعني: قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:54] وقوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] كما نلاحظ أن فيهما إطلاقاً لم يحدد مقدار الإنفاق، فمن قال بالنسخ بالزكاة قال: إنه قد حدد بالزكاة.

فهو يقول: وليس كذلك بل هو باقٍ.

أما الأولى: فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق، لذا لا يصح أن تكون منسوخة؛ لأنه كما قلنا: الأخبار لا تنسخ لو قصدنا النسخ الكلي، ولا هي أيضاً صالحة عنده لأن تكون من باب تخصيص العموم.

قال: [وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة، والآية الثانية يصح حملها على الزكاة، وقد فُسّرت بذلك] وهي قوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] خصصت بآية الزكاة.

[وكذلك قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] قيل: إنها مما نسخ بآية السيف.

وليس أيضاً كذلك؛ لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبداً، ولا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة].

فإذاً: هذه الملحوظة التي ذكرها السيوطي مهمة جداً، وهي: أنه قد يرد في عبارات بعض العلماء النسخ، وهذا لا يرد إلا عند بعض المكثرين من المتأخرين، أما إذا وردت عند السلف فسنأتي كيف نعالج هذه القضية.

القسم الثاني: [وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ. وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد] طبعاً في كتابه الناسخ والمنسوخ.

وذكر أمثلة مثل قوله: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2] نسخها قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:3] بناءً على كلام السلف.

وذكر أيضاً: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] نسخها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227].. وغيرها من الآيات التي ذكرها.

فهذه كما يقول: إنها من باب التخصيص، يعني: إما خصصت باستثناء أو خصصت بغاية، وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ.

ونحن نقول: كلامه صحيح إن أدخلها في المنسوخ الكلي، أما إذا كانت في المنسوخ الجزئي فإنما ذلك مجرد اختلاف في العبارة، فهؤلاء يسموها نسخاً وهؤلاء يسموها تخصيص عام.

[وقسمٌ قال: رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن. كإبطال مثلاً نكاح نساء الآباء ومشروعية القصاص والدية.. إلى آخره].

فهذا أيضاً لا يدخل في الناسخ، وليس له علاقة بقضية الناسخ والمنسوخ، وإلا لزم أن نقول: إن الإسلام نسخ كل أمر من أمور الجاهلية بناءً على هذا المفهوم، ولو قلنا: هذا نسخ فليس هو من علم الناسخ والمنسوخ الذي ندرسه هنا.

ثم ذكر أمثلة في ذلك، طبعاً بدأ يستقرئ الأمثلة التي يقع فيها النسخ الكلي فيما ذكره العلماء، ذكر السور مرتبة، ثم انتهى بعد ذلك إلى عددها وهي قرابة تسع عشرة آية، ونظم هذا في أبيات كما هي موجودة في هذا الكتاب.

الحكمة من رفع الحكم وبقاء التلاوة

ثم ختم بفائدة: [إن قلت: ما الحكمة من رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليُعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فلم تترك التلاوة لهذه الحكمة.

والثانية: إن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأُبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة].

إذاً: فيه فائدة في بقاء المتلو الذي هو الأجر بالتلاوة، وأيضاً ذكر نعمة الله سبحانه وتعالى بالتخفيف.

ثم ذكر هنا أيضاً فوائد منثورة، وهذه الفوائد لا أحب أن نقف عندها؛ لأنها ممكن أن تؤخذ؛ لأنها من باب اللطائف.

المعتمد في النسخ

ثم ذكر بعد ذلك تنبيه نأخذ منه بعضه يقول في التنبيه: [قال ابن الحصار: إنما يُرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ؛ ليُعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يُعْتمد في النسخ على قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيِّنة؛ لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرَّر في عهده صلى الله عليه وسلم، فالمعتمد النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد].

ومن خلال هذا الكلام الذي ذكره يمكن أن نقول: إن علم النسخ عقلي نقلي؛ لأنه ذكر أنه يلزم فيه نقل صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابي، ثم ذكر أنه قد يُحكم به لوجود تعارض، ولا يمكن وجود تعارض مقطوع به إلا إذا وقع فيه إجماع بوجود التعارض المقطوع به.

فإذا تأملنا هذا فإذا كان بهذه المثابة فهو من جهة نقلي ومن جهة عقلي.

وجهة النقل فيه: أنه يلزم فيه حكم الصحابي أو حكم من هو فوقه وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابي إذا حكم بالنسخ فإن الأصل عنده أنه من باب المرفوع؛ لأنه يقطع بأن هذا الحكم ليس معمولاً به، فلا يمكن للصحابي أن يقول: هذا الحكم ليس معمولاً به إلا إذا كان عنده بالفعل أثر من النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان من اجتهاده فيتبين من كلام الصحابي، فإن وقع تعارض حقيقي وأثبت العلماء ذلك فهذا أيضاً مقام من مقامات الحكم بالنسخ.

وكلامه الآن كله في الضرب الثاني وهو نسخ الحكم وبقاء التلاوة.

ثم ذكر الضرب الثالث قال: [ما نسخ تلاوته دون حكمه].

الحكمة من نسخ التلاوة وبقاء الحكم

مثاله: سبق أن ذكرناه عن عائشة رضي الله عنها، وذكر أمثلة في ذلك لكنه قال: [فيه سؤال: ما الحكمة من رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلّا بقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟].

فذكر إجابة صاحب الفنون وهو [ ابن عقيل قال: بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء..] إلى آخر كلامه.

ومعنى ذلك: أنه تمام الامتثال؛ لأنهم يعلمون أن هذا حكم شرعي، سواءً كان من جهة السنة أو كان من جهة القرآن الذي نسخ، فهو في النهاية حكم شرعي فيمتثلونه.

بعض أمثلة ما نسخ تلاوة وبقي حكماً

ذكر عن أبي عبيد القاسم بن سلام مجموعة من الآثار فيما نسخت تلاوته دون حكمه، أشهر الأمثلة في ذلك الآية التي كان عمر يريد أن يثبتها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فهذه من أشهر الأمثلة.

ثم ذكر آثاراً فيها كلام وفي بعضها نكارة، مثل ما ذكره عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن.

فقولها المنسوب إليها: لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. ليس مرادها أنه كان بين يديهم فلم يستطع؛ لأن عثمان رضي الله عنه إنما يثبت ما ثبتت قرآنيته، حتى لو كان هذا موجوداً، يعني: الآيات الباقية لم تثبت قرآنيتها فإن عثمان لا يحل له ولا لغيره من الصحابة أن يكتبها.

وكذلك أورد أثراً أيضاً عن عائشة فيها عبارة فيها نكارة، قال: عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، وعلى الذين يصلون الصفوف الأول)، قالت: قبل أن يغيّر عثمان المصاحف، طبعاً القائل أياً كان، فهذه فيها نكارة؛ لأن عثمان رضي الله عنه لم يغيّر المصاحف، وليس له فيها أي عمل إلا النسخ كما سبق الحديث عنه.

لكن المقصد الذي نريد أن نصل إليه في هذا: أن هذا الذي ذُكر من نسخ التلاوة دون الحكم هذا ثابت، لا مجال لإنكاره، خصوصاً الآية المذكورة التي هي: (والشيخ والشيخة)، وهي آية مشهورة.

ويعترض بعض الناس على هذه الآية باعتراضات منها مثلاً: أن هذه ليست على نسق القرآن ونظمه المعروف. فنقول قاعدة ينتبه لها: أي آية حكم عليها بالنسخ فإنه قد زالت عنها القرآنية، وبناءً عليه قد تروى بالمعنى، ولهذا هذه الآية التي ذكر أنها نسخت لو رجعنا قد نجد لها أكثر من رواية، في رواية: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما)، وفي رواية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)؛ مما يدل على دخول الرواية بالمعنى عليها.

فإذاً هذه قاعدة ننتبه لها، وبهذا يزول عندنا إشكال كبير جداً فيما يتعلق بهذه الآيات التي نسخت تلاوتها، مثل: (لو كان لابن آدم وادياً من ذهب)، هذه قيل: إنها آية نزلت، وستجد فيها روايات متعددة؛ لأنها خرجت عن الآيات القرآنية المنقولة نقلاً صحيحاً بطريقة معروفة إلى أن تكون روايات يدخلها الرواية بالمعنى، فتختلف الروايات.

وقبل أن ننتقل من هذه المسألة عندنا بعض الفوائد التي ذكرها المحققون، وهم يتكلمون عن قضية النسخ والدليل على ذلك، فذكروا آية: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة:106].. إلى أن قالوا: [فإن الله فعّال لما يريد له الحكمة البالغة فيما يرفع أو يثبت من تلاوة أو حكم، ولا يخفى أن منسوخ التلاوة ليس من القرآن، وإن ثبت بأسانيد صحيحة لمخالفته رسم المصحف وفقدانه شرط التواتر فيه.

الرد على من يقول: إن بعض الصحابة تركوا كتابة بعض الآيات في المصحف

أقول: وبهذا يكون فقد خصوصيات الآية القرآنية من جميع الجوانب التي ذكرناها قبل قليل].

أيضاً ذكروا في قضية ما ذكرناه قبل قليل: من القول أن عمر رضي الله عنه لم يستطع أن يثبتها.

قالوا: ثم إن هذا مخالف لما وعد الله من تكفله بحفظ القرآن، والنسخ لا يقع إلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يتصور أن يذهب بعض القرآن على جميع الصحابة. هذا تعليق على قول عمر رضي الله عنه، قالوا: هذا باطل من القول.

وهذا تنبيه صحيح ينتبه له، وهي مسألة مهمة لعلي أيضاً أستطرد فيها.

في حال المناقشة مع المستشرقين؛ لأنهم يذكرون مثل هذه الآيات أو غيرهم من الملحدين يجب أن ننتبه إلى هذه المسألة وهي مسألة الإجماع، والرجوع إلى اصطلاح القوم، كيف تستطيع أن تستدرك على هؤلاء بعد هذه المدد المديدة وهم كانوا مجتمعون متوافرون وأحرص منك على إثبات ما هو من كتاب الله سبحانه وتعالى، فهم أحرص مني ومنك ومن كل الناس على أن يثبتوا ما ثبت أنه قرآن، فكيف يغفلونه جميعاً ويتركونه؟ فهذا لا يمكن ولا يتصور إطلاقاً، ولو ثبت عندنا يقيناً أن مجموعة من الناس بمثل ما كان الصحابة رضي الله عنهم وبالطريقة التي عملوها، وفي نفس الظروف التي كانت عندهم واجتمعوا على كتابة منقولات عن أحد الأشخاص، ثم ذكر بعد ذلك بعض المنقولات وأهدروها جميعاً! لا شك أن هذا طعن في هذا المنقول المتأخر.

قصدي من ذلك أنه يجب أن ننتبه إلى الأسلوب العقلي في مناقشة هذه القضية مع هؤلاء، وأرجو أن تكون واضحة.

أنواع النسخ باختصار مع إمكانية إضافة نوع

عندنا أيضاً استدراك قبل أن ننتقل من هذا، وهو ضرب رابع، الآن لو رجعنا إلى الضرب الأول الذي ذكره ما هو؟ نسخ التلاوة والحكم معاً.

الضرب الثاني: نسخ التلاوة وبقاء الحكم.

والضرب الثالث: نسخ التلاوة دون الحكم.

هذه قسمة ثلاثية، ويمكن أن تكون القسمة رباعية ويكون الضرب الرابع: نسخ التلاوة والحكم معاً، مثال ذلك: تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، وروي من طرق متعددة، وهذا أحد الروايات: كانت الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن، وقولها: ولم يقدر منها إلا على ما هو الآن ممكن أن يخرج أنها تقصد: إنه لم يكتب منها إلا الثابت، ونقول: أن غير الثابت هذا أصلاً لم يقدر، فهذه لا شك أنها لم يقدر عليها لا عثمان ولا غير عثمان .

وكذلك الصحابي الذي أراد أن يقرأ آيات أُنزلت فلم يستطع، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها قال: ( إنها قد نسخت )، يعني: تركت، وهو أحد معاني قوله سبحانه وتعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يعني: من النسيان أنها تنسى.

فهنا آيات نسيت تماماً فالآثار تدل على وجود آيات نسيت تماماً، فإذاً هذا ضربٌ رابع يُنتبه له.

هنا يجب أن ننتبه إلى مسألة مهمة جداً وهي: أننا يجب أن ننطلق في مثل هذه التقسيمات من الأمثلة، ولهذا لا بد أن نستقرئ الأمثلة أمامنا ثم نستخرج هذه الأنواع.

الإشكالية عندنا نحن أننا ننطلق من قواعد ثم نذهب نبحث عن المثال، وهذه كقضية علمية مجردة هي أحد أنواع الخطأ في الوصول إلى الحق، ونبه عليها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في المقدمة في أصول التفسير، لما ذكر ضلال بعض أهل البدع في تفسير القرآن كان من أهم أسبابها أنهم قرروا قواعد وذهبوا يبحثون فيها عن أدلة.

قد يقول قائل في مثل هذا المثال: وأنت كيف تستدرك هذا الشيء؟ نقول: لا. هذا الاستدراك له أمثلة واضحة جداً، فنحن نكمّل ما ذكره العلماء من خلال الأمثلة الواضحة والبيّنة في هذا الموضوع.

فيجب أن ننتبه إلى هذه الحيثية، وهي: أننا حينما نريد أن نقرر بعض القضايا باستقراء الأمثلة سيبين لنا: هل التقسيمات الموجودة عندنا تامة أو تحتاج إلى إكمال، وقد يكون بعض العلماء أشار إلى هذه، لكن من خلال ما ذكره السيوطي لم يذكر إلا هذه الأنواع الثلاثة.

وعندنا أيضاً من الأمثلة التي ذكرها ما ذكر أبو الحسين المنادي في كتاب الناسخ والمنسوخ قال: ومما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر وتسمى سورتي الخلع والحفد.

وهذه أيضاً من القضايا التي يدندن حولها المستشرقون كثيراً، وهذه بعض الصحابة يثبتها في مصحفه. وكما قلنا: أي شيء يثبت في مصاحف الصحابة فإنه ليس حجة على المصحف المجمع عليه. وهذه قاعدة مهمة.

فإذا ثبتا أنهما كانتا سورتين نزلتا على النبي صلى الله عليه وسلم نثبت بأنها مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم لكنها نسخت، وكما قلنا سابقاً: إن الذي له حق النسخ هو الذي أنزل هذه السور وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106]، والقراءة الأخرى (ننسأها) النسخ والإنساء، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أيضاً ينسونها كاملة فهذا كله من جهة الله سبحانه وتعالى، وهذه قاعدة يُنتبه لها في النسخ: أن الأصل فيه أن النسخ يكون عن الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يقول أحد: إن هذه الآية تنسخ هذه الآية باجتهاد مطلق كما ذكر ابن الحصار .

الأصل في باب النسخ من حيث النقل والعقل

ومن كلام ابن الحصار يمكن أن نقول: إن الأصل في هذا الباب -الناسخ والمنسوخ- أنه نقلي؛ يعني كما ق

ويمكن أن نأخذ مما طرحه رحمه الله تعالى أنه أراد بالناسخ والمنسوخ التعريف الاصطلاحي عند الأصوليين، وقد اختلف الأصوليون في تعريفه، لكن أركانه: أن يكون عندنا آية، وتنسخ -يعني: يرفع حكمها بآية أخرى-، بشرط التراخي، بمعنى أن تكون آية نزلت أولاً ثم جاءت هذه عقبها فنسختها، يعني: نسخ حكم شرعي بحكم شرعي آخر متراخٍ عنه.

فهذا أحد تعريفات النسخ عند الأصوليين، ولهم كلام في تحديده ونقاش طويل، لكن هذه صورة تقريبية لتعريف النسخ عندهم.

يقول الإمام رحمه الله تعالى: [قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسّر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ].

وأحب أن نلاحظ قوله: (لا يجوز أن يفسّر) لأنا سنحتاجها لما نتكلم عن هذا العلم هل هو من علوم التفسير أو لا؟

قال: [ وقال علي لقاصٍ] علي هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت].

القاص هذه مهنة كان يمتهنها بعض السلف، وبدأت تقريباً في جيل التابعين الذين كانوا معاصرين للصحابة، فكانوا يقصون، وليس المراد بالقصص هنا ما يفهم الآن من القصص عندنا، وإنما يدخل فيه المواعظ والأخبار والآداب، وكذلك بيان بعض الأحكام، فإذاً مهمة القاص، فهي مهمة الواعظ ويدخل فيها أيضاً جوانب من قضايا الفقه.

فـعلي رضي الله عنه يقول لهذا القاص: (أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت).

ولو سألنا: ما مراد علي رضي الله عنه بالناسخ والمنسوخ؟ فسيتبادر إلى ذهننا التعريف الاصطلاحي، ولكن سيتبين لنا فيما بعد أن مفهوم الناسخ والمنسوخ عند علي رضي الله عنه أوسع من التعريف الاصطلاحي.