خطب ومحاضرات
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وقفنا عند النوع السادس والثلاثين في معرفة غريبه، وهذا النوع قد تكلم عنه صاحب البرهان الزركشي ، وكذلك السيوطي في التحبير.
كتب غريب القرآن التي أفردته بالتصنيف
ذكر في بداية كلامه من أفرده بالتصنيف على عاداته، وذكر منهم أبا عبيدة و أبا عمر الزاهد و ابن دريد .
و أبو عبيدة لا زال الذي يبدو لي أن المراد بكتابه غريب القرآن مجاز القرآن، لكن هل له كتاب اسمه مجاز القرآن وكتاب آخر اسمه غريب القرآن؟ هذا يذكره بعض الباحثين، ويستند إلى بعض النقول المذكورة عن أبي عبيدة ، وهي غير موجودة في المجاز، ولكن أبو عبيدة رحمه الله تعالى له كتب متعددة، فقد يكون ذكر شيئاً من هذا في بعض هذه الكتب، ولا يلزم أن يكون له كتاب آخر في الغريب، لكن على العموم لا نستطيع أن ننفي نفياً قاطعاً، ولا أن نثبت إثباتاً قاطعاً أن لـأبي عبيدة كتاباً، أو ليس له كتاب في غريب القرآن، و أبو عمر الزاهد كتابه مطبوع اسمه ياقوتة الصراط، و ابن دريد كما ذكر المحققون له كتاب في غريب القرآن ولم يكمله.
قال: [ ومن أشهرها: كتاب العزيزي ]، بضم العين نسبة لـابن عزيز صاحب كتاب غريب القرآن، الذي يسمى نزهة القلوب، وهذا الكتاب عند المتقدمين يعتبر كتاباً نفيساً؛ لأن مؤلفه أقام على تأليفه خمس عشرة سنة يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنباري ، وأبو بكر من كبار علماء اللغة الكوفيين، وكان ابن عزيز يقرأ على شيخه هذا الكتاب، ولكن هذا الكتاب بعد أن صدرت كتب بعده لا يعد بهذه المثابة التي ذكرها له المتقدمون، وقد جاء بعده ما هو أفضل منه، وحتى إن ترتيبه رحمه الله تعالى لم يكن ترتيباً على السور، ولا ترتيباً على اشتقاق المادة، وإنما هو ترتيب على اللفظة كما هي ملفوظة، ثم يرتبها على الفتح والضم والكسر، فيجعل المفتوح باباً، والمكسور باباً، والمضموم باباً، وهذا يحدث صعوبة في الوصول إلى الكلمة، والأولى أن تكون على ترتيب المصحف، أو أن تكون على أصل الاشتقاق؛ لأنه أيسر في الوصول.
وذكر كتاباً لـأبي حيان وهو الذي يسمى: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب، وهو مطبوع ومحرر، وفيه وجازة، ويمكن أن يجعل متناً يستفاد منه في غريب القرآن، وذكر أيضاً كتاب الراغب الأصفهاني المفردات، وهذا من أنفس كتب غريب القرآن؛ لأن فيه تحذيرات للراغب رحمه الله تعالى، وفيه مسألة مهمة جداً، وهي المجال العقلي في تحديد دلالة المفردة بناءً على سياقات العرب، هل يمكن الاجتهاد في تحديد تقييدات في مدلولات اللفظة في اللغة من خلال سياقات العرب أو لا؟ وهذا مما تميز فيه الراغب الأصفهاني أن بين الألفاظ فروقاً لا ترادف، ولهذا دائماً يدقق ويميز في اللفظة حتى يحاول أن يضع لها حداً، ما المراد بكذا، ما المراد بكذا.
ابن الصلاح كما قال عنه أنه يقول: إذا رأيت في كتب التفسير قال أهل المعاني، فالمراد به المصنف في معاني القرآن، كـالزجاج ، و الفراء ، و الأخفش ، و ابن الأنباري ، وعلم المعاني في الحقيقة أوسع من علم الغريب؛ لأنه يشتمل على الغريب، ويزيد أساليب العرب في خطابها، ولهذا يكثر عندهم تقول العرب بناءً على أنهم يحكون كيف يتكلم العرب بكلامهم ويفصلونه، ومن أنفس كتب التفسير التي استفادت من كتب معاني القرآن كتاب البسيط للواحدي ، وقد استفاد من كتب المعاني في تفصيلها للكلام العربي الموجود في القرآن، يعني كيف يفهم القرآن من جهة الأسلوب العربي؟ وهو في الحقيقة أوسع من أن يكون في غريب القرآن.
الآثار الدالة على العناية بغريب القرآن
ثم ذكر بعض الآثار التي تدل على العناية بغريب القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً إليه: ( أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه )، وهذا الأصح فيه أنه موقوف، وليس مرفوعاً، والمراد بالإعراب كما قال السيوطي : إن المراد بإعرابه معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه، وهذه فائدة في المصطلحات، بمعنى أننا لو قرأنا هذا الأثر: ( أعربوا القرآن ) فإن الأذهان تتجه إلى علم النحو، وليس المراد؛ لأن علم النحو لم يقم إلا متأخراً، فعلم النحو في الحقيقة هو جزء من معنى قوله: ( أعربوا القرآن )؛ لأن المراد به إقامة عربيته من جهة الألفاظ يعني النحو، وكذلك من جهة المعاني، فهو أوسع من ذلك.
توقف الصحابة في معرفة معاني بعض ألفاظ القرآن الكريم
وذكر أيضاً بعض الآثار التي تدل على أن الصحابة وإن كان نزل القرآن بلغتهم إلا أنهم توقفوا في ألفاظ لم يعرفوا معانيها، وذكر رواية عن أبي بكر وهي مشهورة في قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] أنه لما سئل عن الأب وهو لا يعلم معناها، قال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وكذلك أيضاً ما روي عن عمر رضي الله عنه في الآية أو في اللفظة نفسها، قال: قد عرفناها أي: الفاكهة، فما الأب؟ ثم رجع لنفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر .
وذكر عن ابن عباس أنه كان لا يعلم معنى (فاطر السموات) حتى أتاه أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها، وكذلك ابن عباس لما سئل عن (حناناً) لم يجب فيها شيء.
وكذلك ورد عنه أيضاً أنه قال: والله لا أدري ما (حناناً)، وكذلك ورد عنه أنه قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعاً: (غسلين)، و(حناناً)، و(الأواه)، و(الرقيم).
وإذا رجعنا إلى الروايات التي ذكرت عن ابن عباس نجد أنه فسر هذه الألفاظ، وهذا يدل على أنه كان لا يعلم ثم علم بعد ذلك، وذكر غيرها من الآثار الواردة في توقف الصحابة عن بعض الألفاظ.
سبب جهل الصحابة معنى بعض ألفاظ القرآن
وهنا قد يقول قائل: هل يعقل أن الصحابة الذين نزل بلسانهم القرآن أن يتوقفوا في فهم مدلولات بعض الألفاظ؟
هذا مذهب لبعض المتأخرين يرى أن هذا الكلام لا يصح، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه إذا ثبتت الآثار بهذا فإننا نعمد إلى معرفة السبب، فإذا رجعنا إلى السبب نجد أنه يأتينا مسألة وهي: هل القرآن كله نزل بلغة قريش خاصة، أو نزل بلغة قريش وهناك بعض لغات العرب فيه؟ هذه الآثار تشير إلى هذا المعنى، بمعنى أن البعض لا يتصور أن قريش وهؤلاء من قريش الذين كانت العرب تأتيهم، والوفود تأتيهم، ويأخذون من أحسن ألفاظها، ويتخاطبون بأحسن ألفاظها لا يتصور أنهم يجهلون هذه المعاني، وهذا الكلام من حيث الجملة صحيح، لكن قد يحصل للأفراد أن يجهلوا بعض المعاني، وهذه ليست مشكلة، حتى ولو كان من أكابر الصحابة، هذا ليس فيها أي مشكل، فإذاً نثبت من خلال الآثار أنه وقع عند بعض الصحابة جهل لبعض المعاني، فعلم منهم من علم، وجهل منهم من جهل، والجهل لا يؤثر في هذا، ونقول: إنه لعله من أسباب جهلهم أنها لم تكن من لغة قومهم التي كانوا يتخاطبون بها، فـابن عباس رضي الله عنه وهو قرشي وعاش في المدينة ثم عاد إلى مكة لا يلزم أنه رضي الله عنه سمع كل ما كان يتخاطبوا بها أهل الجاهلية، ويتقاولونه فيما بينهم، فإن كان سمعهم أبو بكر فترات من الزمن و عمر فلا يلزم أن يكون سمعهم ابن عباس ، فجهله لبعض المعاني محتمل، فإذاً نقول: أن الصواب في هذا هو التعامل مع الآثار كما وردت، وإثبات ما ورد منها، ونستشف من هذه الآثار هذه الفائدة، إما بالاستئناس أو الاستنباط من هذا الأثر، أن نقول: إن هذه الألفاظ لم تكن من لغتهم المباشرة.
ضرورة معرفة غريب القرآن للمفسر
وذكر ضرورة هذا العلم للمفسر، فقال: معرفة هذا الفن للمفسر ضروري، ثم ذكر كلاماً في البرهان للزركشي ، ثم ذكر بعض المراجع والكتب في اللغة.
السؤال الذي يرد: هل ما قاله السيوطي رحمه الله تعالى: إن هذا الفن ضروري للمفسر، يدخل في مرتبة الضروري أو لا؟
الجواب: نعم؛ لأنه يتوقف عليه فهم القرآن، فهو أول لبنات معرفة التفسير؛ لأن عدم معرفة الغريب يورث الجهل بالمعنى، فما من آية إلا ويكون فيها معاني ألفاظ، فلو جهلنا معنى (الحمد)، أو معنى (الرحمن)، أو معنى (الرحيم)، أو معنى (الصراط) فإننا سنجهل المعنى العام للآية، فإذا ما من آية تخلو من مفردة، سواءً كانت هذه المفردة فيها غرابة علينا، أو لم يكن؛ لأن الغرابة نسبية، فالغريب عندك قد لا يكون غريباً عند غيرك، إذاً هذا الفن لا شك أنه ضروري جداً للمفسر، وأنه لا تكاد تخلو منه آية.
أهم الكتب التي ألفت في غريب القرآن
والكتب التي ذكرها هي كتب منتقاة وإن كان هناك غيرها، وقد يكون أهم منها، فمن أهم الكتب التي لم يذكرها كتاب مقاييس اللغة لـابن فارس اللغوي، هذا الكتاب من أنفس كتب المتقدمين، ابن فارس توفي سنة ثلاثمائة وخمس وتسعين، ويكاد أن يصدق على هذا الكتاب ما يقال: لم يسبق لمثله، ولم يلحق أيضاً بمثله؛ لأنه لم يأت أحد بعده يستطيع أن يؤلف على منواله، ولا ألف قبله أحد على منواله، وإن كان يوجد شذرات من الأفكار التي جمعها ابن فارس وكتب فيها هذا الكتاب، ميزة هذا الكتاب هو تأصيل مدلولات المفردة، أو المادة اللغوية، مثلاً مادة ركب كمادة إلى ما تعود؟ مادة سكب إلى ما تعود؟ هذا في اللغة، لا شك أن هناك مدلولات مرتبطة بالقرآن كثيرة، فيستفيد منها المفسر حينما يعود إليها.
منهجية ابن عباس في تفسير القرآن
وأيضاً مما ذكر أن من أهم ما يمكن أن يرجع إليه ما ثبت عن ابن عباس وأصحابه، وساق ما هو من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال: خاصة فإنها من أصح الطرق عنه، وعليه اعتمده البخاري في صحيحه، ورتبه على السور، فهل ابن عباس رضي الله عنه عندما يفسر، يفسر من جهة اللغة فقط، أو من جهة اللغة والسياق، أو من جهة اللغة والسياق وأيضاً التفسير على المعنى؟ يفسر من هذه الجهات كلها، فقد نجد أن ابن عباس يفسر اللفظة بالدلالة العربية المعروفة، وأحياناً يفسر اللفظة بما هي فيه في السياق، وأحياناً يفسر اللفظة تفسيراً بالمعنى وليس تفسيراً على اللفظ، فيقع منه ذلك، ويقع من غيره من مفسري السلف وهو كثير عندهم، ثم أيضاً هو موجود عند بعض المتأخرين، لكنه كثير عندهم.
وممن اعتنى بهذا وذكره في مقدمة كتابه أيضاً الواحدي في البسيط، وهو يشير أحياناً إلى هذه القضية، فيقول: وهذا تفسير على المعنى، ثم جاء بعده ابن عطية واقتفى أثره في هذا، فهل استفاد ابن عطية من كتاب الواحدي أو لا؟ لا نستطيع أن نجزم، لكن هذه الفكرة التي هي فكرة التفسير على اللفظ، والتفسير على المعنى، والتنبيه على أن بعض التفسيرات الواردة عن السلف خارجة عن المدلول اللغوي تنبه إليها الواحدي ، وأشار إليها في المواطن، وكذلك نبه إليها ابن عطية وأشار إليها في المواطن، ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى ذكرها في مواطن أيضاً، لكن هؤلاء أكثر منه ذكراً وانتباهاً وعنايةً بها، ثم بعد ذلك نقل منهما قد يكون تأثر بهما ناقلاً، لكن محرراً الواحدي و ابن عطية أكثر المفسرين فيما رأيت تحريراً لهذه القضية قضية التفسير السياقي، أو التفسير على المعنى.
بناءً على هذا نقول: إن ما ساقه المؤلف رحمه الله تعالى من سورة البقرة إلى آخر القرآن يقع فيه إشكال من هذه الجهة، هل نحمل تفسيرات ابن عباس كلها على أنها تفسيرات لغوية معجمية؟ بحيث أننا لو أردنا نركب معجماً فإننا نرجع إلى هذه المعاني التي ذكرها، أو يدخلها التفسير السياقي؟ على سبيل المثال لما قال: (مطهرة) قال: من القذر والأذى، لما قال: (مطهرة) ثم يكمل من القذر والأذى، هل هو فسر معنى التطهر أو التطهير؟ هل فسر المدلول؟ هذا ليس فيه تفسير للمدلول، يعني قوله: من القذر والأذى ليس فيه تفسير للمدلول، لكن لما يقول: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ [البقرة:49]: نقمة، فتفسير البلاء بمعنى النقمة هذا مدلول لغوي.
مثال آخر: قال: (صفوان): حجر، هل كل حجر صفوان؟ الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، والصفا والصفوان واحد، ما الذي يتميز به الصفوان؟ أنه أملس، وأنه كبير، فإذاً أهم شيء عندنا الصفة الأولى، صفة الملاسة، فلو قال: الحجر الأملس يكون دلالة، فتعبيره أن (الصفوان) الحجر يكون تفسير بجزء من المعنى، وليس بكل المعنى، فإذاً هذا ليس تفسيراً دلالياً مطابقاً.
عندنا مثال آخر ونقف عليه: في قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ [الإسراء:4]، (وقضينا) قال: أعلمنا، هل القضاء من حيث المدلول هو الإعلام؟ طيب الإعلام ما علاقته بالقضاء؟
من لوازمه، يعني من لوازم القضاء الإعلام، بمعنى أنه إذا قضى فإنه سيعلم، يعني لما قال: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ [الإسراء:4]، أي: أعلمناهم، فيكون من لوازم القضاء في هذا السياق.
نقف عند هذا القدر من كتاب الإتقان.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه | 3938 استماع |
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] | 3815 استماع |
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه | 3596 استماع |
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه | 3587 استماع |
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن | 3544 استماع |
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده | 3539 استماع |
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله | 3482 استماع |
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس | 3443 استماع |
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته | 3422 استماع |
عرض كتاب الإتقان (38) - النوع التاسع والثلاثون في معرفة الوجوه والنظائر | 3412 استماع |