عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

النوع السابع والسبعون من كتاب الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي في معرفة تفسيره وتأويله، وبيان شرفه والحاجة إليه.

وفي هذا النوع كان كلامه رحمه الله تعالى قليلاً، أقل من المتوقع، فقد كان المتوقع أن يكون الحديث أطول من ذلك، وقد ذكر فيه ما يتعلق بالتفسير والتأويل، وبيان شرفه والحاجة إلى التفسير.

معنى التفسير والتأويل

أما ما يتعلق بالمصطلحات، فقد ذكر معنى التفسير في اللغة، وكذلك معنى التأويل، ورد كل معنًى إلى أصله اللغوي، والصحيح أن التفسير أصله من مادة (فسر)، بمعنى: بين وكشف ووضح، و(التأويل) أصله من الأَوْلِ وهو الرجوع، هذا هو الأصل اللغوي، أما الأقوال الأخرى التي ذكرها -خصوصًا في التفسير- أنه مقلوب من: (سفر) فهذا كلام غير دقيق، فما دام أن للكلمة معنًى ظاهراً في اشتقاقها، فلا يصح أن تجعل من مادة أخرى، وإن تقارب المعنيان، فإن معنى السفر والتفسير متقارب، وتقارب هاتين المادتين في المعنى لا يلزم منه أن تكون إحداهما أصلًا للأخرى.

وأما القول الثاني الذي ذكره في معنى التأويل، وأنه بمعنى: الإيالة وهي السياسة، فهذا أيضًا فيه تكلف في جعل هذا هو أصل المادة، ولهذا قال: (كأن المؤول ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه)، وهذا فيه نوع من التكلف الذي لا نحتاج إليه، ما دام المعنى الأول واضحًا، في أن المراد به الرجوع.

أقوال العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل

وأما ما يتعلق بالفرق بين التفسير والتأويل فقد ذكر طائفة من أقوال أهل العلم، إلا أنه لم يعتنِ في هذا الباب بذكر أقوال السلف رحمهم الله، ولا بذكر معنى التأويل في لغة القرآن ولا في السنة؛ ولهذا لم يعرج على المعنى الثاني فأهمله، والمعنى الثاني هو ما تؤول إليه حقائق الأشياء، فإن كانت أمرًا فتأويلها فعلها، وإن كانت نهيًا فتأويلها تركها، وإن كانت خبرًا فتأويلها وقوعها، وهذا النوع من التأويل هو المصطلح الغالب في لفظ التأويل في القرآن، ومثله قوله سبحانه وتعالى: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، فمعنى قوله: تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ )) أي: ما آلت إليه الرؤيا، أو قل: هو تحققها على أرض الواقع، فهذا يسمى تأويلًا، وهذا المعنى هو الغالب على لفظ التأويل في القرآن، ولم يرد التأويل بمعنى التفسير وهو المعنى الأول، وهو الذي أشار إليه من قول أبي عبيد القاسم بن سلام وطائفة، أنه بمعنى هذا القول، أي قول أئمة اللغة، وهو أيضًا قول جماعة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، فجعلوا التأويل بمعنى: التفسير؛ ولهذا يقال: إن تعريف التأويل في اللغة لا يخرج عن أحد هذين المعنيين، إما أن يكون المراد به التفسير، وإما أن يكون المراد به ما تؤول إليه حقائق الأشياء، فهذا هو معنى التأويل، وما عدا ذلك من تعريفات التأويل، فهي تخصيصات وتحكمات، وغالب ما قيل في هذه التفريقات بين التفسير والتأويل يرجع إلى أحد هذين المعنيين، وهذا الموضوع طال فيه الكلام وكثر؛ بسبب عدم معرفة هذا الأصل، وهو معنى التفسير في اللغة وفي القرآن وفي السنة، فوقعت هذه التفريقات الاصطلاحية التي تخصص، أو تتحكم في مدلول هذين اللفظين.

ثم ذكر عن ابن حبيب النيسابوري أنه بالغ في الرد على من قال بأن التأويل بمعنى التفسير، حين قال: قد نبغ في زماننا مفسرون، لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، ولكنه لم يذكر أنه أنكره بعينه، لكنه ساقه بمساق الإنكار، فإن كان ابن حبيب ينكر أن يكون التأويل بمعنى التفسير، فهو محجوج باللغة وبأقوال أئمة السلف في هذا.

وأما ما ذكره عن الراغب الأصفهاني من أن التفسير أعم من التأويل، وأن أكثر استعماله في ألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، فهذا أيضًا تفريق اصطلاحي، وليس بتفريق دقيق، بمعنى أننا نقول: إن التأويل في تأويل المفردات.

وهو الذي استخدمه ابن جرير الطبري في قوله: (القول في تأويل قوله تعالى)، فإذا قلنا: ما تأويل قوله تعالى كذا، فهو كقولنا: ما تفسير قوله تعالى كذا؟ والذي ذكره الراغب الأصفهاني هو نوع من التحكم في المصطلحات، ولو كان مصطلحًا خاصًا فلا إشكال في ذلك، بشرط ألا يؤثر على المعاني؛ لأن المصطلحات إذا أثرت على المعاني أو غيرت الحقائق، فإنها لا تقبل، ويعترض عليها، أما إذا كانت مجرد مصطلحات والفارق فيها فني فليس فيه إشكال.

مثال آخر على هذا، قال بعضهم: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا.

والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معانٍ مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة، فلو تأملنا هذا وأردنا أن نطبق عليه معنى التفسير، فإذا كان عندنا الآن لفظ لا يحتمل إلا معنًى واحداً، وسميناه تفسيراً، وكان عندنا لفظ يحتمل أكثر من معنى، ووجهناه إلى أحد المعاني، وسميناه تأويلاً، فإنه في حقيقته لم يختلف عن معنى التفسير، ففي النهاية هو تفسير.

إذاً قولهم: هذا تأويل، وهذا تفسير، مجرد اصطلاح، فلو قال قائل: هذا هو الفرق لا غير، لقلنا: هذا تحكم، بل هو نوع من التخصيص وهو اصطلاح، لكن ليس هذا هو الفرق الصحيح.

أيضًا: ما ذكره عن الماتريدي أنه قال: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ معنى معيناً، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ معنى معيناً، قال: فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله، وهو نفس التفريق الماضي، وإن كان فيه نوع من الإطالة في التعبير، ومعنى كلامه أن التفسير جزم، والتأويل احتمال، لكن نحن ننظر في النهاية إلى من فسر سواء جزم أو احتمل.

فإذاً هذا أيضًا نوع من التخصيص للمصطلح، ولو كان الماتريدي رحمه الله تعالى يرى أن هذا هو الفرق لا غير، فإنه يدخل في باب التحكم، والماتريدي رحمه الله تعالى بنى كتابه تأويلات أهل السنة، على هذا التفريق بين التفسير والتأويل، ولهذا أورد من التأويلات الأشياء الكثيرة جدًا؛ لأنها عنده من باب ترجيح أحد المحتملات التي يرى أنها من باب التفسير بالرأي، فيرجح أحد المحتملات عنده، وأحيانًا قد يذكرها بلا ترجيح، فكان لهذا التفريق أثر في كتاب الإمام الماتريدي تأويلات أهل السنة، والكتاب مطبوع، وكله مليء بالتأويلات، من أول الكتاب إلى آخره، وتأويلاته مبنية على هذا التعريف الذي ذكره، وعلى التفريق بين التفسير والتأويل، وكما قلت فهي لا تخرج عن أحد المعنيين المشهورين: إما أن تكون بمعنى التفسير، وإما ما تؤول إليه حقيقة الشيء.

المصطلح الحادث للتأويل وأثره

وقد ظهر في التأويل المصطلح المتأخر وهو: تقديم القول المرجوح على القول الراجح؛ لقرينة أو لدليل يقترن به، وهذا أيضًا فيه نوع من التخصيص، ومن جزم به أنه من مرادات الله فقد أخطأ في تفسير قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، ومن جزم أيضاً بأنه هو الفرق بين التأويل والتفسير فهو أيضًا نوع من التحكم، ولكن لو قال: إن هذا تفريق اصطلاحي خاص عندي، فهذا إذا كان لا يغير الحقائق العلمية فلا إشكال فيه، ولكن الملاحظ أن هذا التعريف غير بعض الحقائق العلمية، فتعريف التأويل هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى معنًى مرجوح لقرينة أو لدليل يقترن به، فهذا الصرف وقع فيه تأويل بعض الأسماء، وتأويل كثير من الصفات، ثم زاد الأمر فوقع عند بعض المنتسبين للإسلام تأويل لبعض أمور المعاد، ثم زاد الأمر فجاء قوم من الفلاسفة وجعلوا أغلب أحوال المعاد إن لم يكن كلها هي من باب التأويل أيضاً، فدخلوا من باب التأويل فأولوا هذه الحقائق التي وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى، فيما يتعلق بالأخبار الغيبية من أمور المعاد.

فإذاً نقول: إن هذا التعريف أثر تأثيرًا علميًا؛ ولهذا يعترض عليه، لكن لو قام الدليل في موطن ما على أننا صرفنا اللفظ عن معناه الراجح في نظرنا إلى معنًى مرجوح لقرينة أو لدليل، فإن النتيجة في النهاية تكون تفسيراً.

فالخلاصة: أن كل من قال بقول فإنه الغالب لا يخرج عن أن يكون راجعاً إلى معنى التفسير، أو معنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وإن ادعى المفرق أن بينهما فرقاً.

ما يلاحظ على تعريف البغوي للتفسير

وأما التعريفات التي ذكرها عن البغوي والكواشي في التأويل: أنه قال: صرف الآية إلى معنًى موافق لما قبلها وبعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط، وهذا التعريف لو نزلنا عليه معنى التفسير لكان نوعاً من التفسير؛ لكن البغوي وتبعه الكواشي في هذا أراد أن ينبه على نوع من التفسير، سماه بالتأويل، وجعل ضابط ذلك هو ما تحتمله الآية من خلال السياق، يعني: الموافق للسياق تحتمله الآية، ما قبلها وما بعدها، وأنه لا يكون مخالفًا للكتاب والسنة، لكن في النتيجة والمآل هو تفسير.

وأما ما ذكره الإمام السيوطي رحمه الله تعالى من التعريفات في تعريف التفسير، فإنها انطلقت من مادة كتب التفسير، لا من ماهية التفسير، وهناك فرق في التعريفات التي انطلق إليها من مادة كتب التفسير، وبين التي انطلق إليها من ماهية التفسير، فكتب التفسير تشتمل على عدة علوم، بل هي المجال الأوسع والأرحب لتطبيقات علوم القرآن؛ ولهذا أول تعريف ذكره، أنه قال: (علم نزول الآية وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها)، فاشتمل التعريف على جملة من علوم القرآن.

وأما التعريف المشهور عن أبي حيان الأندلسي، أنه قال: (التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك)، ثم بدأ يشرح التعريف، ونلاحظ على سبيل المثال قوله: وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، قال: هو علم القراءة، وعلم القراءة لا علاقة له بعلم التفسير، علم القراءة مرتبط بالقراءات، فلا يقال للمفسر: كيف ننطق هذه اللفظة أو كيف نقرؤها، لكن نقول له: ما معنى: هذه اللفظة، فـأبو حيان رحمه الله تعالى انطلق من مادة كتب التفسير، مع أنه لا يعرف في التفسير كتب كثيرة حاولت أو اجتهدت في جمع ما يتعلق بالقراءت برمتها مع التفسير، نعم هناك عناية لبعض العلماء مثل المهدوي في التحصيل، أو مكي في كتابه في التفسير، لكن هذه العناية أو الزيادة أو المبالغة لم تجعل كتبهم مكانًا لمعرفة جميع أحوال القراءة؛ لأن ما قاله الإمام إنما يؤخذ من أفواه القراء ولا يؤخذ من المفسرين؛ لأنه ليس من مهمة المفسر أن يعلمك كيفية القراءة، إنما من مهمة المفسر أن يعلمك: ما معنى الآية كذا؛ ولهذا إذا انطلقنا من الماهية فإنه كما ذكر هو في أول الكلام: أن التفسير في الحقيقة كشف وإيضاح وبيان، والمفسر هنا: هو كلام الله سبحانه وتعالى، والمراد بتفسيره هو كشف معاني هذا الكلام.

فيكون التفسير في حقيقته بيان معاني القرآن، فإذا تبينت معاني القرآن فإنما هي في التفسير انتهت بكشف معناها، لكن لا يعني هذا أننا لا نبحث في غيرها، فإذا جئنا إلى آية من الآيات، وعلمنا معناها فقد انتهى دور التفسير، فمثلًا لما نأتي إلى قوله: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، لو قلت ما معنى: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ؟ فتقول مثلًا: قد استجاب، إذا جعلت السمع بمعنى الاستجابة، قد استجاب الله سبحانه وتعالى للتي كانت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زوجها.

فليس من مهمتك أن تقول لي: (قد سمع) فيها قراءتان، القراءة الأولى: قَد سّمعَ )) والثانية قَدْ سَمعَ ))؛ لأن هذه القراءة لا أثر لها في المعاني فلا يبحث فيها المفسر، لكن إذا اختلفت المعاني بسبب القراءة، فهي من مهمات المفسر مثل: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون:67]، و تُهْجِرُونَ )) يختلف المعنى فتكون من مهمات المفسر.

فإذاً لا تكون القراءة من مهمات المفسر إلا إذا ارتطبت بالمعاني، وهذا الذي يرتبط بالمعاني من جهة القراءة أقل من الذي لا يرتبط بالمعاني، ولكي نتبين كيف يمكن أن نخرج بتعريف، فإذاً نخرج بتعريف ماهية التفسير من خلال المعنى اللغوي، ومن خلال ما هو المراد من المفسر في هذا الإطار، بعد أن ينتهي بيان المعنى، ولا يعني ذلك أن نتوقف أو أن نقول للمفسر توقف، لا، بل له أن يجتهد في غيره من العلوم، ولكن نحن نتكلم عن حدود ومصطلحات ما يتعلق بماهية التفسير، أو ما المراد بالتفسير.

أما ما يتعلق بالمصطلحات، فقد ذكر معنى التفسير في اللغة، وكذلك معنى التأويل، ورد كل معنًى إلى أصله اللغوي، والصحيح أن التفسير أصله من مادة (فسر)، بمعنى: بين وكشف ووضح، و(التأويل) أصله من الأَوْلِ وهو الرجوع، هذا هو الأصل اللغوي، أما الأقوال الأخرى التي ذكرها -خصوصًا في التفسير- أنه مقلوب من: (سفر) فهذا كلام غير دقيق، فما دام أن للكلمة معنًى ظاهراً في اشتقاقها، فلا يصح أن تجعل من مادة أخرى، وإن تقارب المعنيان، فإن معنى السفر والتفسير متقارب، وتقارب هاتين المادتين في المعنى لا يلزم منه أن تكون إحداهما أصلًا للأخرى.

وأما القول الثاني الذي ذكره في معنى التأويل، وأنه بمعنى: الإيالة وهي السياسة، فهذا أيضًا فيه تكلف في جعل هذا هو أصل المادة، ولهذا قال: (كأن المؤول ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه)، وهذا فيه نوع من التكلف الذي لا نحتاج إليه، ما دام المعنى الأول واضحًا، في أن المراد به الرجوع.

وأما ما يتعلق بالفرق بين التفسير والتأويل فقد ذكر طائفة من أقوال أهل العلم، إلا أنه لم يعتنِ في هذا الباب بذكر أقوال السلف رحمهم الله، ولا بذكر معنى التأويل في لغة القرآن ولا في السنة؛ ولهذا لم يعرج على المعنى الثاني فأهمله، والمعنى الثاني هو ما تؤول إليه حقائق الأشياء، فإن كانت أمرًا فتأويلها فعلها، وإن كانت نهيًا فتأويلها تركها، وإن كانت خبرًا فتأويلها وقوعها، وهذا النوع من التأويل هو المصطلح الغالب في لفظ التأويل في القرآن، ومثله قوله سبحانه وتعالى: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، فمعنى قوله: تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ )) أي: ما آلت إليه الرؤيا، أو قل: هو تحققها على أرض الواقع، فهذا يسمى تأويلًا، وهذا المعنى هو الغالب على لفظ التأويل في القرآن، ولم يرد التأويل بمعنى التفسير وهو المعنى الأول، وهو الذي أشار إليه من قول أبي عبيد القاسم بن سلام وطائفة، أنه بمعنى هذا القول، أي قول أئمة اللغة، وهو أيضًا قول جماعة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، فجعلوا التأويل بمعنى: التفسير؛ ولهذا يقال: إن تعريف التأويل في اللغة لا يخرج عن أحد هذين المعنيين، إما أن يكون المراد به التفسير، وإما أن يكون المراد به ما تؤول إليه حقائق الأشياء، فهذا هو معنى التأويل، وما عدا ذلك من تعريفات التأويل، فهي تخصيصات وتحكمات، وغالب ما قيل في هذه التفريقات بين التفسير والتأويل يرجع إلى أحد هذين المعنيين، وهذا الموضوع طال فيه الكلام وكثر؛ بسبب عدم معرفة هذا الأصل، وهو معنى التفسير في اللغة وفي القرآن وفي السنة، فوقعت هذه التفريقات الاصطلاحية التي تخصص، أو تتحكم في مدلول هذين اللفظين.

ثم ذكر عن ابن حبيب النيسابوري أنه بالغ في الرد على من قال بأن التأويل بمعنى التفسير، حين قال: قد نبغ في زماننا مفسرون، لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، ولكنه لم يذكر أنه أنكره بعينه، لكنه ساقه بمساق الإنكار، فإن كان ابن حبيب ينكر أن يكون التأويل بمعنى التفسير، فهو محجوج باللغة وبأقوال أئمة السلف في هذا.

وأما ما ذكره عن الراغب الأصفهاني من أن التفسير أعم من التأويل، وأن أكثر استعماله في ألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، فهذا أيضًا تفريق اصطلاحي، وليس بتفريق دقيق، بمعنى أننا نقول: إن التأويل في تأويل المفردات.

وهو الذي استخدمه ابن جرير الطبري في قوله: (القول في تأويل قوله تعالى)، فإذا قلنا: ما تأويل قوله تعالى كذا، فهو كقولنا: ما تفسير قوله تعالى كذا؟ والذي ذكره الراغب الأصفهاني هو نوع من التحكم في المصطلحات، ولو كان مصطلحًا خاصًا فلا إشكال في ذلك، بشرط ألا يؤثر على المعاني؛ لأن المصطلحات إذا أثرت على المعاني أو غيرت الحقائق، فإنها لا تقبل، ويعترض عليها، أما إذا كانت مجرد مصطلحات والفارق فيها فني فليس فيه إشكال.

مثال آخر على هذا، قال بعضهم: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا.

والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معانٍ مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة، فلو تأملنا هذا وأردنا أن نطبق عليه معنى التفسير، فإذا كان عندنا الآن لفظ لا يحتمل إلا معنًى واحداً، وسميناه تفسيراً، وكان عندنا لفظ يحتمل أكثر من معنى، ووجهناه إلى أحد المعاني، وسميناه تأويلاً، فإنه في حقيقته لم يختلف عن معنى التفسير، ففي النهاية هو تفسير.

إذاً قولهم: هذا تأويل، وهذا تفسير، مجرد اصطلاح، فلو قال قائل: هذا هو الفرق لا غير، لقلنا: هذا تحكم، بل هو نوع من التخصيص وهو اصطلاح، لكن ليس هذا هو الفرق الصحيح.

أيضًا: ما ذكره عن الماتريدي أنه قال: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ معنى معيناً، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ معنى معيناً، قال: فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله، وهو نفس التفريق الماضي، وإن كان فيه نوع من الإطالة في التعبير، ومعنى كلامه أن التفسير جزم، والتأويل احتمال، لكن نحن ننظر في النهاية إلى من فسر سواء جزم أو احتمل.

فإذاً هذا أيضًا نوع من التخصيص للمصطلح، ولو كان الماتريدي رحمه الله تعالى يرى أن هذا هو الفرق لا غير، فإنه يدخل في باب التحكم، والماتريدي رحمه الله تعالى بنى كتابه تأويلات أهل السنة، على هذا التفريق بين التفسير والتأويل، ولهذا أورد من التأويلات الأشياء الكثيرة جدًا؛ لأنها عنده من باب ترجيح أحد المحتملات التي يرى أنها من باب التفسير بالرأي، فيرجح أحد المحتملات عنده، وأحيانًا قد يذكرها بلا ترجيح، فكان لهذا التفريق أثر في كتاب الإمام الماتريدي تأويلات أهل السنة، والكتاب مطبوع، وكله مليء بالتأويلات، من أول الكتاب إلى آخره، وتأويلاته مبنية على هذا التعريف الذي ذكره، وعلى التفريق بين التفسير والتأويل، وكما قلت فهي لا تخرج عن أحد المعنيين المشهورين: إما أن تكون بمعنى التفسير، وإما ما تؤول إليه حقيقة الشيء.

وقد ظهر في التأويل المصطلح المتأخر وهو: تقديم القول المرجوح على القول الراجح؛ لقرينة أو لدليل يقترن به، وهذا أيضًا فيه نوع من التخصيص، ومن جزم به أنه من مرادات الله فقد أخطأ في تفسير قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، ومن جزم أيضاً بأنه هو الفرق بين التأويل والتفسير فهو أيضًا نوع من التحكم، ولكن لو قال: إن هذا تفريق اصطلاحي خاص عندي، فهذا إذا كان لا يغير الحقائق العلمية فلا إشكال فيه، ولكن الملاحظ أن هذا التعريف غير بعض الحقائق العلمية، فتعريف التأويل هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى معنًى مرجوح لقرينة أو لدليل يقترن به، فهذا الصرف وقع فيه تأويل بعض الأسماء، وتأويل كثير من الصفات، ثم زاد الأمر فوقع عند بعض المنتسبين للإسلام تأويل لبعض أمور المعاد، ثم زاد الأمر فجاء قوم من الفلاسفة وجعلوا أغلب أحوال المعاد إن لم يكن كلها هي من باب التأويل أيضاً، فدخلوا من باب التأويل فأولوا هذه الحقائق التي وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى، فيما يتعلق بالأخبار الغيبية من أمور المعاد.

فإذاً نقول: إن هذا التعريف أثر تأثيرًا علميًا؛ ولهذا يعترض عليه، لكن لو قام الدليل في موطن ما على أننا صرفنا اللفظ عن معناه الراجح في نظرنا إلى معنًى مرجوح لقرينة أو لدليل، فإن النتيجة في النهاية تكون تفسيراً.

فالخلاصة: أن كل من قال بقول فإنه الغالب لا يخرج عن أن يكون راجعاً إلى معنى التفسير، أو معنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وإن ادعى المفرق أن بينهما فرقاً.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه 3931 استماع
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] 3814 استماع
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه 3593 استماع
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن 3541 استماع
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده 3537 استماع
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله 3481 استماع
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] 3477 استماع
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس 3442 استماع
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته 3418 استماع
عرض كتاب الإتقان (38) - النوع التاسع والثلاثون في معرفة الوجوه والنظائر 3410 استماع