أرشيف المقالات

تأملات فى سورة القيامة - إيمان الخولي

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
إن هذه السورة تبين لنا مدى الارتباط بين النفس البشرية ويوم القيامة   من بدايتها إلى نهايتها لتبين طبيعة النفس  وليقف الإنسان مع نفسه وقفة فى الدنيا قبل أن يقف يوم القيامة بين يدى ربه إنها الرسالة التى تبثها سورة القيامة
تبدأ الآيات بالقسم بيوم القيامة وإنه لحق والإيمان به حق وإنه ليوم عظيم لا يجد الإنسان نفسه إلا يلومها على ما فعلت لما فعلت كذا وكذا وحرى به أن يفعل ذلك فى الدنيا قبل الآخرة حيث ينفع العمل أما يوم القيامة فلا ينفع مال ولا بنون  فعن الحسن البصري: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه..

يقول تعالى :" { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13"}
يقسم الله عزوجل بيوم الحساب والنفس التى توقظ الإنسان من غفلته  على أن البعث حق  تلك القضية التى غابت عن كثير منا وسط معارك الحياة  ترى الإنسان بأفعاله وتكبره وظلمه لنفسه ولغيره يحسب أنه لن يُبعث من بعد الموت فتأتى الآيات  لتبين لنا أنه ليس مجرد جمع للعظام فحسب إنما هو أرقى من ذلك وأعقد فى التركيب ألا هو تسوية البنان وهى أطراف الأصابع فإن كنت تعجب من البعث بعد الموت بلى تبعث وتركب من جديد بدقة  وإحسان   ولكنها  حجة يتعلل بها الإنسان ليفعل ما يشاء من معاصى وفجور مستبعد أن يأتى يوم ليُحاسب فيه على أعماله وهذا أصل كل ظلم وطغيان  ينسى صاحبه أنه سيأتى يوم يقف بين يدي ربه يأخذ منه الحق   ثم  يأتى ذلك اليوم حين تتغير أنظمه الكون يُخطف البصرمن شدة الهول  ويخسف القمر وتجمع الشمس والقمر على غير المعهود ماذا ينتظر الانسان حينها؟ تراه يصرخ أين المفر؟ وكأن كل شئ يحدث بسرعة لا وقت  فلا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه فلماذا لا تسارع إلى التوبة وتفر إليه فى الدنيا قبل الآخرة لتعرف أن النجاة الحقيقة بمعرفته والتعلق به
ولكن أين يذهب ؟........
ليس هناك من حصن يتحصن به أو شفيع يشفع له  فلماذا لا ينتبه من البداية ؟  حينها ينبأ الإنسان بما قدم من عمل فى حياته وما أخر ألم تسأل نفسك يوما ماذا تركت  من أثر ؟ أتركت عملاً صالحاً وولد يدعو لك ؟ أم ورثت أبناءك الحقد والكراهية للناس وقطيعة الرحم  ؟
يقول تعالى :" {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} "..
ها هو يعود لنفسه وهو  أعلم بما فعل فى الحياة الدنيا يبحث عن عذر فلا يجد ومهما قدم من أعذارلا تُقبل  فقد انتهى الوقت فاليوم حساب ولا عمل
يقول تعالى :" { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} "
ثم تتنتقل الآيات للحديث عن الوحى وكيفيه تلقيه وإثبات أنه من عند الله وأنه المتكفل بجمعه وحفظه فى صدرك وأن ييسر لك أداءه كما أُوحى إليك وعليه البيان والتوضيح   والآيات تبين مدى حرص النبى على  تلقى الوحى وخشيته أن ينسى منه شيئاً
ثم تواجه الآيات الإنسان بحقيقة نفسه " {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} "
كم هى محبة للدنيا مستمسكة بها تهمل الآخرة ولا تسعى لها سعيها إنها الحقيقة التى يهرب من مواجهتها لتنصلح نفسه لكن هيهات هيهات ...
   وسميت الدنيا هنا بالعاجلة إيحاء بقصرها وسرعة انقضائها وتتناسب مع طبيعة النفس البشرية وهى استعجال كل شىء " {وكان الإنسان عجولا } " وقد بينت لنا الآيات ضرورة التوازن فى حياة الإنسان بين الدنياو الآخرة بل أن الأصل أن يعمل للآخرة  ولا  ينسى نصيبه من الدنيا إذ يقول تعالى :" {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} " [القصص: 77 ]
وليس العكس نجد الناس تعمل للدنيا ليل نهار وتنسى الآخرة وإنه مخلوق من أجلها إما جنة وإما نار  
ثم يأتى أجمل مشهد فى حياة كل مسلم تقى يراقب الله فى الدنيا ويخشى أن ينظر إليه فيراه على معصية ليكون الجزاء من جنس العمل فى الآخرة  غاية النعيم فى الآخرة أن ينظر المولى عزوجل لك نظرة تنسى معها  شقاء الدنيا وكل ما مر بك من ابتلاء  فينضر الوجه وتدب فيه  الحياة من جديد  " {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} ."
ومالها لا تنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟  ولك أن تتخيل أن الانسان إذا نظر إلى شئ من خلق الله من بحار وجبال ومساحات شاسعة من الخضرة او أزهار ندية وطيور ترفرف  بجناحيها يأسره المنظر وتسعد به النفس  وتزيد بهجة القلب وتعالج النفوس من أسقامها بدون طبيب كل هذا وهو جمال خلق من خلق الله ناقص فمابالك بجمال الخالق ذى الجلال والإكرام  إنها  لمنتهى السعادة التى يرنو إليه المسلم ويعيش من أجل هذه اللحظة ا لتى ترسم على وجهه نضرة النعيم وعلى الجانب الآخر تجد المحرمين من النظر إلى وجهه يوم القيامة من نسوا الله فى دنياهم فأنساهم أنفسهم 
" {ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة"}  تراها عابسة كالحة يظهر عليها مظهر الهلع والفزع من سوء ما يحل بها تيقنت بالعذاب الواقع بها والفقر فى اللغة هى الوسم الذى يفقر به على الأنف  والفاقرة هى الداهية التى تقسم الظهر إنهم المحرمون حقا وأى شقاء   بعد الحرمان من لذة النظر إلى وجه الله تعالى  هل توقف الإنسان بعد كل ما عرفه من اللهث وراء العاجلة وأعاد ترتيب أوراقه وعمل لآخرته ؟!
ثم يأتى مشهد الموت الذى ينهى كل شىء ينهى تلك الصراعات  مع النفس ومع الغير  " {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) (29) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) } " [ القيامة]
إنه الموت لا ينتظر حتى تتغير وتعود إلى ربك ليس عنده عزيز لا يلتفت إلى صرخات الناس من حولك ولا لخوفك من المصير المنتظر وكأن الإنسان كان فى غيبوبة  طوال حياته ثم انتبه حين حضره الموت الموت الذى لا حيلة لبشر فيه ترسم الآيات صورة الروح وقد بلغت التراقى فى اللحظات الآخيرة وها هم ذوو المحتضر حوله يبحثون عن طريقة  لإنقاذه بأدوية وعلاجات وأجهزة تنفس أو براق يرقيه  يقول البقاعى :{من راق} استفهام استبعاد: أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء فى نظرهم إلا في الرقى،ولكنه الموت لا حيلة فيه إنه الفراق عجزت  كل  الحيل عن الشفاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
وفى قوله " {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ "} فعن ابن عباس يقول : آخر يوم في الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله .
إنه  مشهد المساق إلى المولى عزوجل حقا يحتاج الإنسان لمن يسوقه إلى آخرته إنها النهاية التى يغفل عنها معظم الناس وهل آمن وصدق وعمل عملاً صالحا ؟هل اتعظ الانسان بالموت  فتأتى الآيات التى نزلت فى كل غافل لاه فى الدنيا ليس بمغفول عنه إذ يقول تعالى :" { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) } "وذكر الصلاة لأنها  الصلة التى إذا انقطعت انقطع عنه الإمدادات الربانية  وماتت روحه وهو بين الأحياء فلم يكتف بعدم التصديق والإعراض لكنه سعى بالإفساد  والصد عن سبيل الله
ثم يأتى التهديد والوعيد " {أولى لك فأولى} "  أى أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك وكيف تمشى هذه المشية متبختراً وقد كفرت بربك قيل أنها نزلت فى أبى جهل كان لا يؤمن بالله ويصد الناس عن سبيله ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر 
"أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ " ويأتى السؤال وكأنه تعجب من حال الإنسان الذى يعيش بلا هدف  وكأن هذا هو اعتقاد كثير من الناس وكأنه يستبعد هذا الأمر وهو البعث بعد الموت فتذكره الآيات بنشأته الأولى كيف كان أصله الأول من نطفة ثم علقة ومنها كان الخلق والنشأة يذكره بها حتى لا تغيب عنه طيلة حياته أنه خُلق لحكمة وأن كل شىء يحدث له بقدر الله وليس عبثا فيعمل ويستعد لهذا اليوم ولا تأخذه زخارف الدنيا وزينتها عن هذه الحقيقة .
قال تعالى: { {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} }   أليس الذى انشأه من عدم قادراً على أن يعيد النشأة من جديد ويبعث فيك الروح من جديد إنها رسالة يقين وأمل أن الله يبعث الموات ويحي القلوب بعد موتها ويقبل التوبة ويعفو عن كثير
وفى النهاية سورة القيامة توقظ الإنسان من غفلته وتحيى عنده  النفس اللوامة ليعرف الهدف من حياته وأنه لم يخلق عبثا ولن يترك سدى .

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن