عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فهذا النوع السادس والسبعون: في مرسوم الخط، وآداب كتابته.

وهذان نوعان دمجهما السيوطي رحمه الله تعالى، وهما ما يتعلق بمرسوم الخط، وما يتعلق بآداب الكتابة.

ومرسوم الخط أو ما يسمى بعلم رسم القرآن هذا المصطلح استقر على رسم المصحف العثماني.

عدد المصاحف التي كتبها عثمان

وهي ستة مصاحف على الصحيح، مصحف اختصه عثمان لنفسه، ومصحف لأهل المدينة وكان بين يدي زيد بن ثابت ، ومصحف لأهل مكة، ومصحف لأهل الكوفة، ومصحف لأهل البصرة، ومصحف لأهل الشام.

مصادر الرسم العثماني

فهذه هي المصاحف الستة التي كتبها عثمان وأحرق ما سواها، وعنها تناقل الناس ما يتعلق برسم المصحف، فإذا قيل: رسم المصحف فهو يرجع إلى هذه المصاحف الستة، الرسم الأول لهذه المصاحف، وهذه المصاحف الستة لا يعرف منها شيء بقي، وكلما يُحكى أنه بقي منها فلا يثبت بسند صحيح، وإنما الموجود مما ينسب إليها هو مأخوذ عن هذه المصاحف القديمة، ولذا نقول: إن مصدر الرسم العثماني هي المصاحف الستة، وبما أنها غير موجودة فبقي عندنا مصدران: المصدر الأول: هي المصاحف التي بين أيدينا الآن المنقولة عن هذه المصاحف الستة، والمصدر الثاني: هي كتب العلماء في رسم المصحف؛ لأن منهم من نظر في المصاحف القديمة العتيقة، وكتب عن كيفية رسم بعض الكلمات فصار مصدرًا من مصادر الرسم، وبعضهم لا يعرف له أيضًا ترجمة، يعني: ترجمته شحيحة.

من الكتب التي عنيت بالرسم

لكن من أشهر من له عناية برسم المصاحف، مثل أبي عبيد القاسم بن سلام وكذلك الداني ، وكذلك تلميذه أبو داود سليمان بن نجاح ، وجاء بعدهم فئام من الناس لهم عناية برسم المصاحف، ذكر السيوطي رحمه الله تعالى أنه أفرده بالتصنيف خلائق من المتقدمين، وذكر على رأسهم أبا عمرو الداني ، وكتابه مطبوع، وذكر أيضًا كتاب أبي العباس المراكشي ، وكتابه اسمه عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل، وهو أيضًا مطبوع محقق.

وهذا الكتاب فيه تكلف في تعليل الرسم، ويظهر أن المؤلف رحمه الله تعالى قد أثر عليه التصوف في أن ينظر في هذه العلل على الطريقة التي ذكرها، ولهذا لا تكاد تسلم له علة إلا قليلًا؛ لأنه كما سبق أن أشرت إلى أن العلل غير مطردة، بمعنى: أننا لا يلزم أن نبحث عن علل متناسقة في ما رسمه الصحابة، فقد تظهر لنا علل أحيانًا، وأحيانًا قد تكون المسألة من باب الاصطلاح المجرد، ولا يلزم أن يكون هناك علة واضحة، مثل: وَلَأَوْضَعُوا [التوبة:47]، وضعوا بعد (لام ألف) ألفاً وكذلك: لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل:21]، بعد (لام ألف) وضعوا (ألفاً) فمحاولة تعليل وجود هذه الألف الزائدة فيها من التكلفات الشيء الكثير، ولو قيل: إنه اصطلاح لكفى، مثلما يتعارف في الاصطلاح على الزيادة أو النقصان حتى اليوم كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، لكن المقصود التنبيه على أن هذا الكتاب ليس من الكتب النفيسة، ولا هو من الكتب التي يحرص عليها؛ لأن فيه من التكلفات الشيء الكثير، ومن أنفس ما طبع اليوم فيما يتعلق برسم المصحف كتاب أبي داود سليمان بن نجاح وهو تلميذ لـأبي عمرو الداني الذي هو مختصر التبيين لهجاء التنزيل، وقد طبع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وهو أنفس كتب الرسم، وقد تكلم في معاني السور، سورة سورة، وتكلم عن الرسم كلمة كلمة، حتى لا يكاد يخرج عن هذا الكتاب كلمة من كلمات القرآن إلا وتكلم عنها.

وهناك كتب كثيرة في الرسم، لكن هذا الكتاب من النفاسة بمكان، وفيه من الفوائد الشيء العديد، اسمه مختصر التبيين لإيجاد التنزيل، لـأبي داود سليمان بن نجاح ، طبع في أربع مجلدات، والمجلد الخامس مقدمة للمحقق عن هذا الكتاب، وعن علم الرسم، طبعًا الكتاب حققه الدكتور أحمد شرشال ، وهو من أعلم أهل الأرض برسم المصحف، ومتخصص في هذا المجال منذ أن بدأ دراساته العليا.

ذكر فيما يتعلق بالرسم مقدمة مهمة جدًا، ينبغي أن ننتبه لها، وإن كنا لا نوافق المؤلف على ما طرحه فيها، لكن يغفل عنها كثير ممن يدرسون علم الرسم، وقد تنبه لها الأستاذ الدكتور المحقق: غانم قدور الحمد في كتابة رسم مصحف دراسة لغوية تاريخية هو من أنفس ما كتب في هذا الباب، إن لم يكن هو أنفس ما كتب من جهة الدراسة التاريخية اللغوية، وكتاب الدكتور غانم قدور الحمد رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية مهم جدًا..

الخط الذي أخذ الصحابة منه رسم المصحف

وقد أشار إلى مسألة مهمة في تاريخ الرسم وهي من أين أخذ الصحابة رضي الله عنهم الرسم، أو ما هي الخطوط التي كانت موجودة في جزيرة العرب، وكيف استقاها هؤلاء الصحابة، قبل أن تكتشف كثير من الأحافير، وكثير من الكتابات المدونة القديمة، وكان علماؤنا رحمهم الله تعالى يذكرون أقوالًا، وهذه الأقوال أقوال محتملة، فبعضهم يقول: إنهم أخذوه من الحيرة من الأنباط، والأنباط قوم من العرب قدماء كانوا يستنبطون الماء من الأرض فسموا بالأنباط، وكانوا يسكنون الحيرة وتدمر والمناطق هذه.

وقال بعضهم: إنهم أخذوا الكتابة من خط المسند الذي اشتهرت به حمير في اليمن، والمكتشفات المعاصرة تؤيد القول الأول؛ لأننا إذا نظرنا إلى بعض الخطوط المنسوبة إلى هذه العصور يعني: سنة ثلاثمائة وكسر ميلادي، نجد أن بينها وبين الخط الذي كتب به الصحابة المصحف تقارباً شديداً جدًا، مما يشير إلى أنهم بالفعل أخذوه من شمال الجزيرة، وعلاقتهم بشمال الجزيرة كان فيما يبدو أكثر من علاقاتهم بجنوب الجزيرة، مع أن الله سبحانه وتعالى ذكر رحلتي الشتاء والصيف لقريش، لكن يبدو أن الرحلة إلى الشمال، إلى الشام كانت أكثر، والحضارة أيضًا كانت هناك أشهر من حضارة اليمن التي بادت، بعد أن قطع الله سبحانه وتعالى سبأ، ولم تقم لأهل اليمن قائمة من حضارة بعد انتهاء سد مأرب، فكان آخر حضاراتهم بانتهاء سد مأرب، واستمرت الحضارة في الشمال في العراق والشام وكذلك في مصر.

المقصود من ذلك أنما يتكلم عنه المؤلف في هذه المقدمة هو يشير إلى أصل الخط، ومن أين جاء الخط؟ هناك روايات عندنا تشير إلى أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم، وهذا الكلام مذكور في الروايات والآثار، لكن هذا فيه نظر.

كون الخط توقيفياً أم توفيقياً

ولهذا يقول ابن فارس : الأصل في الخط أنه توقيفي، فإن كان مراده بقوله: توقيفي أنه تعليم من الله مباشرة فهذا فيه نظر؛ لأنه يحتاج إلى دليل، وإن كان المراد أنه بقدر الله وبحكمه وبأمره فهذا لا إشكال فيه. إذا كان مراده بالتوقيفي أنه يدخل في قوله: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:4-5]، فلو أخذنا بمفهوم ابن فارس إذا كان هذا فهمه، فإنه ما من صناعة يقوم بها الإنسان إلا ويمكن أن نحكم عليها بأنها توقيفية بناءً على هذا؛ لأنها من تعليم الله سبحانه وتعالى.

ولكن نقول: إن الصواب أن هذا من اجتهاد الإنسان الذي وفق الله سبحانه وتعالى الإنسان إليه، وهداه إليه، ولهذا نجد أن محاولة تصوير الإنسان للأحرف وللخط مختلفة من مكان إلى مكان آخر هذا من جهة، وكذلك نجد أنه في بدايات محاولة التعبير عن الكلام بالرموز كانت تستخدم رموز كثيرة جدًا حتى بدأ الإنسان يطور هذه الرموز إلى أن وصلت إلى هذه الحروف التي نراها في شتى بلاد العالم.

المقصود أن هذا هو الأصل تعليم من الله سبحانه وتعالى قطعًا، ولكنه باجتهاد من الإنسان، وهذا الاجتهاد صار يتطور شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم، ولا زال الإنسان يستحدث من الرموز الدالة على معاني الشيء الكثير، والآن الحاسب الآلي ليس منكم ببعيد، فهناك رموز معينة تشير إلى كلمة كاملة وأحيانًا إلى جملة، فهذه هي طريقة أو فكرة هذه الرسوم المتعددة، فهو رسم يدل على حرف، أو رسم يدل على كلمة، أو رسم يدل على جملة، فإذا كان الأمر كذلك، فإذاً نقول: بأن هذا من اجتهاد الإنسان الذي يسر الله سبحانه وتعالى له، ولا يلزم أن يكون الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتبًا على آدم أو رسوماً على آدم كما في بعض الآثار وأنها تفرقت، ولا يلزم أنها تكون بتوقيف مباشر من الله سبحانه وتعالى بل نقول: إنها باجتهاد من الناس.

العلاقة بين الرسم العثماني والإملائي

ثم ذكر بعد ذلك قضية مهمة أيضًا وهي القاعدة العربية: بأن اللفظ يكتب بحروف هجائه مع مراعاة الابتداء به والوقف عليه، فالعرب تراعي الابتداء وتراعي الوقف، وذكر: أن النحاة مهدوا له أصولًا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، وهذه مسألة مهم جدًا، ندرسها تاريخيًا: هل هناك مخالفة بين ما قعده النحاة وبين مصاحف عثمان رضي الله عنه الستة؟ الجواب: نعم، لكن هذه المخالفة ليس لها أصل نقيس عليه عند النحاة قبل الرسم العثماني، بل هي منطلقة من الرسم العثماني؛ لأن الرسم العثماني أو الصحابة لم يخترعوا رسمًا خاصًا للمصحف، وإنما أخذوا هذا الرسم من الأنبار أو الأنباط، ثم بدأ يتطور هذا الرسم عند العلماء الذين جاءوا بعدهم، ويحسنون فيه حتى وصل إلى التقعيد الذي ذكره النحاة، فإذاً تقعيدات النحاة هي نتيجة من نتائج تطور الرسم، لكن كما قلت في البداية: إن الرسم العثماني صار مصطلحًا على ما رسمه الصحابة في المصاحف الستة، واستقر العمل عليها وبقيت هكذا لا تغير، ثم تطور الرسم بعدهم، وقعد النحاة قواعد الإملاء بناء على قواعد النحو، فقواعد الإملاء في الحقيقة راجعة إلى قواعد النحو، ولهذا الذين طوروا الرسم، وقعدوا قواعد الإملاء هم النحاة، وقطعًا هناك مخالفة بين ما طوره النحاة في كتبهم، وبين الرسم العثماني، ولهذا الآن لو أردنا أن نقيس ما كتبه ابن درسويه أو ابن قتيبة أو ما كتبه الفراء وغيرهم من قواعد الإملاء المبنية على قواعد النحو: وقواعد الإملاء الموجودة عندنا اليوم لا تتساوى مع قواعد الإملاء الموجودة عندهم؛ لأنه بدأ يتطور ويتطور حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم، ولهذا ما زال حتى اليوم الرسم يختلف، فطريقة رسم الكلام تختلف فالطريقة الشامية تختلف عن الطريقة المصرية عن الطريقة المغربية.

فإذاً كل هذه الاختلافات التي نراها اليوم هي صورة من اختلاف التنوع الذي وقع في الرسم، والذي امتد عبر القرون، ولهذا إذا سألت أي عالم بالمخطوطات ممن يتعامل مع المخطوطات وسألته أن يعطيك درساً مثلًا في الإملاء عبر العصور، فإنه يستطيع أن يعطيك بناءً على المخطوطات التي عنده، يعني: أنه كيف تكتب.. فبعضهم لا يكتب الهمزة، يعني يكتب (ما) يريد (ماء) وإذا حضر (الما) ولا يكتب الهمزة، وبعضهم تجده يكتب الهمزة، وبعضهم يكتب الهمزة بطريقة معينة، فإذاً هذه كلها اصطلاحات، وبناءً عليه ما كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم لم يكن توقيفًا، وإنما كان اصطلاحًا أيضًا.

اختلاف الخطوط في المصاحف العثمانية

والذي جعل خطوط الصحابة تختلف، أو الرسم يختلف من مصحف إلى مصحف، أو من موضع إلى موضع: هو اختلاف التنوع في الرسم، والذي جعله يختلف عمن جاء بعدهم هو تطور الرسم.

فهذه قاعدة مهمة ينبغي أن ننتبه لها وهي: أن اختلاف الرسم في المصحف الواحد بين موضع وموضع، أو اختلاف الرسم بين مصحفين من المصاحف العثمانية راجع إلى اختلاف التنوع، هذا هو الأصل، ولما نقول: راجع إلى اختلاف التنوع، لا يعني: أننا لا نبحث عن العلل مثل ما فعل بعض العلماء، بل نقول: نعم، بعض الرسم علـله واضحة، ولكن بعض الرسم لا يمكن إدراك العلة فيه، وكل ما يحكى فيه من العلل فإنه متكلف، ولهذا أعيد وأقول: هذا من باب اختلاف التنوع في الرسم، ودائمًا أذكر مثالاً (شئون) كيف تكتب؟ هل نكتبها على النبرة، أو نكتبها على (واو)، فيه خلاف بين الإملائيين، وكذلك لفظة (الرحمن) المغاربة يكتبونها بألف، ونحن نكتب بلا ألف، ولو نظرت ستجد أمثلة كثيرة من هذا الباب.

فلا نقول: إن من كتب الألف في (الرحمان) خالف الأصل، أو نقول: إن من حذف الألف خالف الأصل؛ لأنه ليس هناك أصل مقيس عليه، وإنما هذا من باب اختلاف التنوع.

وبناء على هذا: فإن تخطئة أي عالم من علماء المتأخرين: مثل ما حكي عن الفراء ، بل هو قول الفراء و ابن قتيبة و ابن خلدون هؤلاء الثلاثة ادعوا الخلل في رسوم الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ليس بصحيح؛ لأنهم بادعائهم هذا يلزم أن يثبتوا أصلًا يقيسون عليه، ولم يكن في عهد الصحابة إلا أصل واحد، هو الذي يقاس عليه وهو رسم المصحف، بل إننا وجدنا أن المخطوطات التي توصل إليها في عهدهم أو قريبًا من عهدهم توافق رسم المصحف، فهناك مخطوطات اكتشفت، أوراق ليست كثيرة، أوراق البردة في عام تسعين مكتوبة، نجد أنها توافق رسم المصحف، من جهة الحذف والزيادة وغيرها، وكأن هذا هو الإملاء المتعارف عليه عندهم، وكذلك بعض الأحجار التي وجد عليها كتابات نفس القضية توافق رسم المصحف، مما يدل على أن هذا هو الرسم المتعارف عليه عندهم، ثم تطور بعد ذلك شيئًا فشيئًا، فإذاً قوله: إن هناك مخالفة في بعضها، نقول: ليست مخالفة وإنما هي تطور في الرسم، والتطور من نتائجه مخالفة السابق، لكن لا نسميها مخالفة، ولكن نعرف أن المصاحف العثمانية ثبتت واستقرت لا تغير، ولهذا الإمام مالك مثل ما ذكر عنه لما سئل: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، وهذا يكاد يكون اتفاق عند العلماء أنه إذا كتب أحد المصحف فإنه يكتبه على الكتبة الأولى، بمعنى: أنه يكتبه مرسومًا بالرسم العثماني، لكن لا يعني هذا أن جميع المصاحف التي بين أيدينا مما هو موجود من مخطوطات العلماء المتقدمين والخطاطين أنه كتب على الرسم العثماني، بل هناك مخالفات لكن الكلام الآن على الأصل، ولهذا العلماء المحررون إذا كتبوا مصحفًا وهم علماء في الرسم، فإنهم يحررونه على أصول وقواعد، أما الخطاطون فحالهم مثل حال الخطاطين اليوم، قل أن تجد خطاطًا يحسن النحو، أو يحسن أيضًا التاء المربوطة أو التاء المفتوحة الذي هو ضبط الإملاء؛ لأن عنايته بالنظر الجمالي، فبعض خطاطي المصاحف أو خطاطي المسلمين المتقدمين الذين كتبوا المصاحف كتبوها على الإملاء المعروف عندهم، وهي مصاحف كاملة، فميزتها في جمالية الخط، ولكنها من جهة الرسم غير معتبرة.

فالمقصود من هذا: أننا ننتبه إلى أننا حينما نناقش هذا نقول: إن هذا الرسم اجتهادي، هذا هو الأصل فيه، والصحابة لم يخترعوا ولم يبتدعوا رسمًا معينًا، ولم ينزل عليهم من السماء رسمًا معين، ولم يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسموا رسمًا معين، فكل هذا ليس عليه أي دليل، وإنما الدليل يدل على أنهم اعتمدوا ما يتعارفون عليه من الرسم، ولما كتبوه واستقر على ما كتبوه جاء الإجماع، فالأصل هو الاجتهاد، ثم انتقل هذا الاجتهاد فكان إجماعًا، ولهذا نحن نعتد بالإجماع في رسم المصحف، ولم يثبت التوقيف إطلاقًا، حتى إن الذي يدعي أنه كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الكتابة وإنه قد أقرهم على ذلك، وهذا لا نحتاجه، وإنما الصحيح أن نقول: إنه جاء من جهة الإجماع، ونحن نلتزم الإجماع، فلا يجوز مخالفة المصحف مثل ما ذكر الإمام مالك ، وهو أيضاً رأي الإمام أحمد وغيره من العلماء: فيحرم مخالفة مصحف عثمان رضي الله عنه، وإذا قيل مصحف عثمان فالمراد به جميع المصاحف الستة.

فإن قيل: هل يحرم أن يكتب المصحف بغير الرسم العثماني؟

فيقال: نعم، يحرم على من أراد أن يكتب مصحفًا أن يخالف مصحف عثمان ، بل يكتبه على الرسم العثماني.

أما ما هو أقل من مصحف فلا يحرم، مثلًا سورة أو آية، أو كذا فلا، سورة اختلفوا: هل يصح كتابتها بالرسم الإملائي أو لا؟ أما أن يكتب مصحفًا ينشر بين الناس فهذا لا يكتب إلا على الرسم العثماني.

قواعد الإملاء المستنبطة من الرسم العثماني

والقواعد التي استنبطها العلماء من هذه المصاحف الستة هي ست قواعد: قاعدة الحذف، ويقابلها قاعدة الزيادة:

والثالثة والرابعة: قاعدة الهمز والبدل.

والخامسة: قاعدة الوصل والفصل.

والسادسة: ما فيه قراءتان كتب على إحداهما.

والمؤلف بدأ يذكر هذه القواعد اتباعًا، ويمكن أن تقرأ هذه القواعد وتراجع، وأصعب هذه القواعد على الإطلاق إملاءً ورسمًا هي قاعدة الهمز، هو أصعبها، حتى في الإملاء اليوم هو أصعب شيء الهمز، فهمزة الوصل تحذف إذا وقعت بين لامين مثل: وَلَلدَّارُ [الأنعام:32]، لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96].

وقوله في القاعدة السادسة: ما فيه قراءتان، قال: مراده هنا غير الشاذ، ثم ذكر أمثلة لهذه القراءات، ولكن هنا أيضًا فائدة ننتبه لها وهي أنه لا يلزم أن كل ما قرئ على قراءتين أنه كتب بالرسمين في مصحفين، بمعنى: أن الصحابة لما نستقرئ عملهم نجد أن بعض ما له قراءتان كتبوه في مصحف بقراءة وفي مصحف آخر بقراءة، مثل: (وصى وأوصى)، (تجري من تحتها) فكتبوا في مصحف بوجه، وفي مصحف آخر بوجه، وفي بعضها كتبوه بوجه واحد يحتمل القراءتين مثل ما ذكره المؤلف هنا، وفي بعضها كتبوه بوجه لا يحتمل إلا قراءة واحدة، مثل: لِأَهَبَ [مريم:19]، حيث كتبت بوجه لا يحتمل قراءة (ليهب).

الأصل في القراءة الرسم أم الحفظ

فهذه ثلاثة أوجه في أوجه الكتابة. وهذا إذا استقرأناه نعلم يقينًا أن الصحابة رضي الله عنهم إنما وضعوا الرسم للدلالة على المقروء، وليس للحكم على المقروء، وهذه القاعدة مهمة جدًا، ونحن لا ننطلق من الرسم لنقرأ، وإنما ننطلق من المحفوظ لنقرأ، فالرسم إنما هو لضبط المحفوظ، فهذه الفكرة مهمة جدًا؛ لأن المستشرقين دخلوا من هذا الباب وبدأوا يشككون في بعض القراءات من جهة الرسم، وادعوا أن بعض الصحابة يجهلون القرآن فيقرؤونه على حسب ما كتب، وهذا طبعًا لا شك أنه إما جهل مطبق من هؤلاء المستشرقين، وإما أنه من التلبيس والتضليل؛ لأن الصحابة بل إلى عصرنا هذا، قبل أن تنشأ المطابع، ما كان المسلمون يستطيعون الحصول على مصاحف، وكان من أراد أن يتعلم القرآن يذهب إلى مقرئ ويقرأ عليه، ويكتب في الألواح ثم يمحوها، فلم تكن الأوراق موجودة، والمشكلة أننا نتصور أن المصاحف كانت موجودة عندهم مثل ما نجدها في المسجد؟!

يمكن لو أتى أهل الجمعة كلهم لوسعتهم هذه المصاحف، والواقع خلاف هذا، فإذاً كانوا يعتمدون على المحفوظ فهو الأصل، والمرسوم إنما هو للدلالة عليه، فمخالفة المرسوم للمحفوظ لم تكن ذات أثر؛ لأن القارئ لا يقرأ من المصحف مباشرة، وإنما يتعلم اللفظ وتكون المرسومات هذه دالة عليه فقط، ولهذا مثلًا كما قلت سابقاً: قراءة: (( لأهب )) لا يمكن أن تتوافق مع قراءة (ليهب)، وهي رواية عن أبي عمرو و ورش ، وكذلك: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] بالضاد أخت الصاد، ولم تكتب بغير ذلك، وفيها قراءتان بالظاء وبالضاد متواتران وكذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، كتبت بالصاد، ولا يمكن أن يرسم الإشمام في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فما دام غير ممكن أن يرسم فمعنى ذلك: أنه تلقى بالمشافة.

إذاً المقصود من ذلك أن ننتبه إلى هذا المقام لم يلتزم الصحابة الإشارة إلى كل قراءة بالرسم، وإنما أشاروا إلى بعضها؛ لأن الأصل عندهم هو المحفوظ، وهذا لا بد أن يتقرر، فإذا تقرر هذا فلا يقع عندنا أي إشكال فيما يتعلق بقضية الرسم.

لعلنا نقف عند هذا ونكمل إن شاء الله الفروع التي أشار إليها المؤلف وما يتعلق بآداب الكتابة في الدرس القادم.

وهي ستة مصاحف على الصحيح، مصحف اختصه عثمان لنفسه، ومصحف لأهل المدينة وكان بين يدي زيد بن ثابت ، ومصحف لأهل مكة، ومصحف لأهل الكوفة، ومصحف لأهل البصرة، ومصحف لأهل الشام.