تفسير سورة مريم [22-34]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22].

أي: شعرت مريم بالوحم وبتغير الحالة، وإذا بها تنتقل من غم وهم إلى غم وهم أكثر، إذ أخذت تتساءل: أنا منفردة في المعبد ولا أحد فيه إلا يوسف ، فماذا سيقول الناس عندما يبلغهم الحمل؟ لعلهم سيقذفونها ويعيرونها ويرتابون في دينها، وهذا الذي خافت منه وقع، فأول من ارتاب وشك خادم المعبد يوسف النجار ، فقال لها يوماً: يا مريم! هل تنبت شجرة بلا حب، ويكون ولد بلا أب؟ قالت: نعم، قد كان آدم بلا أب ولا أم، وكانت حواء بأب فقط، والله قادر على كل شيء، فسكت، وأدرك أنها فهمت عنه، ولم يزدها تصريحاً بما يشكك في دينها.

فقوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22] أي: ابتعدت وزادت خلوة في مكان بعيد، قالوا: إنه بيت لحم، وهناك روايات في السنة النبوية ليست بثابتة ولكن ذلك وافق ما في الكتابين التوراة والإنجيل: أن ذلك قد كان في بيت لحم.

قال تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:23] .

قال البعض: كان الحمل لحظات، وقال البعض: ثمانية أشهر، وقالوا غير ذلك، ولكن من المؤكد أن الحمل كان كالحمل العادي تسعة أشهر كاملة، بالوحم وبالنطفة ثم العلقة ثم المضغة المخلقة وغير المخلقة إلى أن أصبح جنيناً يتحرك، ثم أصبح وليداً فخرج من رحمها.

قال تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] لما جد الجد أدركها الخوف والرعب من قومها، فجاءها المخاض، أي: حملها المخاض وألجأها وكأنه أسرع إليها وفاجأها إلى جذع النخلة، قد كانت قريبة من جذوع نخل قد يبست وماتت ولم يبق إلا غصونها لا تمر فيها، فجاءت إلى جذع من هذه الجذوع واستندت إليه، وليس معها إلا الله، ومع وجع ولادتها ومخاضها وآلام الطلق كانت تعتمد وتتكل على هذا الجذع فقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ [مريم:23] تتمنى لو أنها لم تكن حية لهذا اليوم الذي ستلد فيه بلا زوج، فما الذي سيقول عنها قومها وعشائرها وهي بنت الأنبياء الصالحين! وهي لم تعرف إلا بالعبادة والصلاح والتقوى! وكيف سيقولون عندما يرون الوليد معها، قال تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] أي: كنت شيئاً هالكاً مهملاً لا يلفت نظراً ولا يهتم بوجوده أحد، ولأن أكون هذا الشيء المهمل الذي ينساه الناس ولا يهتمون به ولا يلتفتون إليه خير لي من هذا البلاء والفتنة في الولادة من غير فحل.

قال تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24].

قال أكثر المفسرين: المنادي هو جبريل، فقد كانت هي عند جذع النخلة، وكان هو يشرف على ولادتها من بعيد في أسفل الوادي، وفي هذه الحالة الحرجة نادى جبريل من أسفل الوادي ليقوي معنوياتها ويثبتها ويؤكد لها البشرى التي جاء بها من الله؛ لأنها ستلد نبياً يكون علامة ورحمة ومرجعاً لبني إسرائيل.

وقال مفسرون آخرون: الذي كان يناديها من تحتها هو وليدها عيسى وهو لا يزال طفلاً جميلاً، وإذا بها تسمع نداءه: أَلَّا تَحْزَنِي [مريم:24] أي: يجب أن تستبشري وتفرحي وتقابلي ربك بالسرور والفرحة لا بالحزن والآلام وتمني الموت، فمن سنة نبينا أنه لا يليق بالإنسان أن يطلب الموت من بلاء نزل به، ومع ذلك كثير من السلف الصالح عندما فتنوا في أنفسهم ودينهم دعوا الله بالموت.

وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو عند الفتنة بالدعاء النبوي الصحيح الثابت في الصحيحين وبقية الكتب الستة: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي)، والخير والشر لا يعلم نهايته إلا الله، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن ندعو بالحياة ما دامت الحياة خيراً لنا في ديننا ودنيانا، ونطلب الممات إذا كان الموت خيراً لنا في ديننا ودنيانا، إذ الفتنة في الدين بلية ومصيبة، وقد يرتد الإنسان من أجلها عن دينه، فيكون الموت خيراً له في دينه ودنياه.

وهكذا حصل للسيدة مريم حيث تمنت الموت من هذه الفتنة التي ابتليت بها، من كونها ولدت غلاماً ولا زوج لها، فماذا سيقول الناس؟ فلما ألجأها المخاض إلى جذع النخلة الميت الذي لا تمر فيه؛ تمنت الموت، فناداها من تحتها جبريل أو ناداها عيسى: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24] .

فعيسى هو السري النبيل الكريم الشاب الصالح، الذي سيكون علامة وآية من آيات قدرة الله، ويكون رحمة للناس.

فمن قال: إن جبريل هو الذي ناداها، فالمعنى: قد أكرمك بهذا السري، أي: السيد الجليل والنبي الكريم، ومن قال: إن المنادي ولدها عيسى قال: السري هو النهر الصغير، أي: الجدول الجاري من الماء، فقوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24] أي: قد جعل وادياً جارياً بالماء.

قال تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25] تُساقِطْ أو تَسَّاقَطْ، وأصلها: تتساقط، وكلتا القراءتين سبعيتان متواترتان.

والنخلة الحية ذات السعة والتمر لا يعبر عنها بالجذع، ولكن بقدرة الله جعل الله ذلك الجذع نخلة حية ذات تمر وثمر في غير وقته، وجعل الماء تحتها حتى لا تتعب ولا تتكلف وهي نفساء من ساعتها، فتبحث عن الماء وعن الطعام وهي في خلوتها ليس معها أحد إلا الله، فحول الله الجذع إلى نخلة حية تحمل لذيذ التمر وشهيه، وجعل تحتها نهراً جارياً عذباً سلسبيلاً، فقال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25] أي: مجنياً يتساقط بين يديك شهي المطعم.

قال تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [مريم:26] أي: كلي من الرطب واشربي من الجدول وقري عيناً ولا تحزني، يقال: فلان قرت عينه، أي: برد دمعها، ويكون ذلك عند الفرح والبشريات، ويقال: سخنت عينه، ولا يكون ذلك إلا عند الأحزان، إذ يكون الدمع ساخناً، فإذا قيل: قرت عينه فهو خبر عن أفراح ومسرات وبشائر، وإذا قيل: سخنت عينه فهو دعاء بالبلاء والامتحان، حتى يتساقط الدمع منه وهو ساخن لحزنه وألمه.

وهنا قال الله لها أو قال جبريل عن الله: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [مريم:26] أي: لا تحزني ولا تقلقي، فهذا الطعام والشراب من الله، ومن المعلوم أنه قد مضى معنا في سورة آل عمران أن زكريا زوج أختها كان يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقاً، فيقول لها: أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] فتقول: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، فكان هذا قبل أن يأتيها الوحي، فكانت تأتيها فاكهة الصيف في وقت الشتاء، وفاكهة الشتاء في وقت الصيف كرامة من الله لها ورعاية، وهذا من باب أولى عندما أصبحت نبية أم رسول ونبي من أولي العزم.

فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]؛ لتريح نفسها من كثرة السؤال والجواب، ومن كثرة الفضوليين: من أين لك هذا الوليد؟ وكيف ولدتيه؟ أزنيت يا مريم؟ أيليق هذا بك؟ من أبوه؟ أيليق بك أن تجعلي أباك وأمك موضع سوء وريب عند الناس؟ فقال الله لها: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا [مريم:26] ومعنى ذلك: أنها لم تمنع من كلام الملائكة، فكانت تكلم جبريل ويكلمها؛ لأنهم يعلمون قصتها وحقيقة ولادتها، ولكن البشر لا يعلمون ذلك، ولن يعلم الكثيرون ما داموا معرضين.

فأمرها الله جل جلاله ألا تخاطب إنسياً قط، وتشير بأنها نذرت لله صوماً ألا تكلم اليوم إنسياً؛ والصوم: هو الإمساك، فيقال: صام عن الطعام، أي: أمسك عنه، وصام عن زيد، أي: أمسك عن مخاطبته، وصام عن الكلام، أي: لم يتكلم، فهي أشارت إليهم بأنها نذرت لله صوماً، وكان ذلك في شريعتها، أما في شريعتنا فإن ذلك لا يجوز.

يروى أن أبا بكر جاءته امرأة ساكتة فكلمها فلم تجب، وألح عليها فلم تجب، ونهرها فلم تجب، فعندما أكثر عليها أخذت تشير فقال لهم: ما بالها؟ قالوا: إنها نذرت الإمساك عن الكلام، فهددها بالتعزير والضرب إن بقيت كذلك فتكلمت، فلا يوجد في شريعة الإسلام الصيام عن القول إلا ما كان عن القول الباطل وقول الزور، كما قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فالكلام الكثير لغو باطل لا خير فيه.

فولدت مريم وهي عند جذع النخلة، وأخذت تهز إليها النخلة فتتساقط رطباًً، وتشرب من الجدول عند رجليها، ومن هنا قال علماؤنا: الرطب خير الطعام للنفساء، كما أن العسل خير الطعام للمرضى، فالله جل جلاله أمرها عن طريق جبريل ألا تنطق ولا تتكلم مهما رأت أحداً من البشر، وتشير بأنها قد نذرت الصيام عن الكلام.

ولكن بعد ذلك حملت وليدها على كتفها: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:27] جاءت قومها وهي تحمل وليدها، جاءت العابدة التقية الصديقة البكر العذراء التي لا زوج لها، جاءت تحمل وليدها وإذا بالقوم يقومون إليها كالأوباش فقالوا: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28]، نادوها وهي تحمل الوليد وقالوا لها: يا مريم! لقد جئت شيئاً عظيماً أتيت جرماً وذنباً جليلاً.

قال تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28] أي: لم يكن أبوك فاحشاً ولم يكن سيئاً ولا زانياً، قال تعالى: وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28] وكذلك أمك كانت صالحة قانتة لم تكن زانية ولم تكن مسافحة، فمن أين أتيت بهذا البلاء وبهذه الفرية العظيمة؟

قوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] زعم قوم وأبعدوا في ذلك أنها أخت هارون أخي موسى نبي الله، فالأخوان نبيان ورسولان: موسى وهارون، وهذا زعم من لم يعرف عن سير وتاريخ الأنبياء شيئاً، فلقد كان ما بين موسى وهارون وما بين أيام مريم القرون السحيقة.

وقال قوم: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] أي: كان فيهم رجل يسمى هارون، وكان يضرب به المثل في صلاحه وتقواه وعبادته، فكانت تشبهه، فأخذوا يهزءون بها ويقولون: ما هذا الوليد الذي أتيت به على كتفك؟ وكلا القولين ليس بصحيح.

والقرآن نزل بلغة العرب، فالعربي يقول للقرشي: يا أخا قريش! أي يا من أنت تنتسب إلى قريش، ويقول للتيمي: يا أخا تيم! ويقول للعربي عامة: يا أخا العرب!

كذلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27] أي: أن المبذرين كانوا إخوة للشياطين في أعمالهم؛ لأنهم انقلبت حقيقتهم من إنس إلى جن فأصبحوا إخوة لهم من الأب والأم، والشبه يكون في الخير والشر.

فـمريم عليها السلام معروف عنها أنها ابنة الأنبياء والرسل، وأنها من سلالات موسى وهارون إلى يعقوب فإسحاق فإبراهيم عليهم الصلاة والسلام.

فقوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] أي: يا ابنة الأنبياء! يا من تنتسب إلى الصالحين من قومها، ما هذا البلاء الذي أتيت به؟

قال تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، والبغي: الزانية، وامرأ سوء أي: فاحش سيئ لا يصلح، بمعنى كانت بيئتك صالحة وأبواك صالحان، فمن أين هذا البلاء وهذه الفاحشة؟!

قال تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29] أي: لم تجبهم، فقد أمرها الله ألا تكلم اليوم إنسياً، أي: تصوم عن الكلام وتنقطع عن الحديث مع أي إنسان.

فقوله: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29] أي: إلى عيسى، وإذا بهم يصيحون: أتهزئين بنا؟ أتطلبين منا مخاطبة الأطفال، ألم يكفك ما أتيت به من فحشاء وبغي؟

وإذا بالمشار إليه عيسى يتكلم، وبذلك كان عيسى سلسلة معجزات وسلسلة غرائب وعجائب منذ أن خرج إلى أن رفع إلى السماء.

قوله تعالى: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29] إما أن يكون في المهد بجانبها في المكان الشرقي القصي من قومها، وإما أن يكون المهد حضنها، قالوا لها: أتهزئين بنا؟! كيف تطلبين منا أن نكلم صبياً لا يزال في المهد، ومتى كان الصبيان في المهد يتكلمون؟!

قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33] .

حاضرهم بمحاضرة وأعطاهم درساً، فوقفوا مندهشين: متى كان الأطفال في المهد يتكلمون؟

ففي هذه الآيات رد على اليهود الذين اتهموا أمه بالزنا، وقالوا عنه: هو ابن يوسف النجار ، كذبوا وأفكوا لعنات الله عليهم تترى، وكذب النصارى عندما زعموا أنه الإله، وأنه الرب، وأنه ابن إله، وأنه ثالث ثلاثة، فكذبوا وفجروا، عليهم كذلك لعنات الله تترى.

فكان أول ما قال من الدرس الذي أعلنه بين المحبين والمبغضين، وبين المؤمنين والكافرين أن قرر حقيقة من الحقائق: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] فرغم ما رأيتم مني وما سترون بعد، فأنا عبد لله وخلق من خلقه، أرجو رحمته ومغفرته، وأعوذ من نقمته وعذابه.

قال تعالى: آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] أي: علمه التوراة، ومن هنا يقول النصارى: العهد القديم والعهد الجديد، ويعنون بالعهد القديم التوراة، وبالعهد الجديد الإنجيل، فهم يهود أولاً، ثم زادوا إفكاً وأكاذيب في الإنجيل عندما حرفوه وبدلوه وغيروه عما أنزل عليه.

فقوله: آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] أي: آتاني التوراة وأنا في هذا العمر، وعلمني وأقرأني وفهمني إياه.

قوله: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] أي: جعله نبياً وهو لا يزال طفلاً، ولا يتكلم بهذا إلا الأنبياء، ولا يتكلم الأطفال بهذه اللغة، فتلك معجزة وعلامة وآية من آيات الله.

قال تعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31] أي: جعله مبارك الطلعة، ومباركاً في بيته وقومه، ومباركاً في السماء وعند النزول إلى الأرض.

قال تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:31] أي: أمره الله وأكد عليه في الوصية بأن يصلي لله صلاة كانت من شريعته، أي: أوصاه بالطاعة والعبادة والتهجد والسجود والركوع والابتهال إلى الله.

وَالزَّكَاةِ [مريم:31] أي: أوصاه أن يزكي من ماله وقوته وقدرته، والزكاة: التنمية في كل شيء، فتكون الزكاة في المال والمواد، وتكون في المعاني كالشجاعة والنبل والغيرة والكفاح وكل ما يتعلق بذلك، فالآية تشمل كل هذه المعاني.

قال تعالى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31] أي: أوصاه ما دام حياً أن يصلي لله، وأن يزكي لله، ولا ينقطع عن ذلك مدة حياته، كما قال الله لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، واليقين: هو الموت، أي: كن يا محمد! عابداً صالحاً زاهداً آمراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، ودم على ذلك إلى أن يأتيك الموت.

قال تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32] أوصاه بأن يكون براً بأمه لا يعصيها في معروف، بل يحسن معها القول والعمل والأدب.

قال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32] أي: لم يجعلني من جبابرة الأرض: أقتل عند الغضب، وآخذ المال عند الغضب، وأعتدي على أموال الناس ونسائهم وأرزاقهم، فلم يجعلني جباراً شقياً، ولا شك أن كل جبار شقي، والشقي: هو البعيد عن الرحمة، السيئ الفاسد الظالم الجائر، وأنبياء الله قد أكرمهم الله من ذلك.

قال تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33] قال ما بلغه الله أن يقوله بأن السلام والأمان عليه يوم ولادته، إذاً: فعيسى ليس رباً، فالرب لا يولد، وهو القديم بلا بداية الآخر بلا نهاية، أما عيسى فقد كانت له بداية وستكون له نهاية.

فقوله: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مريم:33] أي: الأمان واليمن والسلامة من وسواس الشيطان وظلم الإنسان والفساد الحاصل بينهم، وسيموت كذلك، والإله لا يموت، فهذا كله مما يؤكد أنه ليس برب كما زعم النصارى، وإنما هو عبد لله ونبي رسول يولد ويموت، ويسلم كذلك من العذاب والنقمة والغضب.

قوله تعالى: وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33] أي: ويوم البعث عندما يحيا مرة ثانية عليه الأمان من الله، والأمان من الغضب واللعنة ودخول النار، فهو آمن من كل ذلك، فالله يرحمه ويرضى عنه ويدخله الجنة، ويكرمه بما يكرم به الأنبياء والمرسلين.

قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34].

ذلك كل ما تعلق بـمريم منذ ابتعادها عن أهلها في مكان قصي، ومنذ حملها لعيسى وولادتها له إلى أن جاءت به تحمله، فتكلم الصبي في المهد وقال عنها قومها ما قالوا.

فذلك حال عيسى ابن مريم قَوْلَ الْحَقِّ [مريم:34] لا كما قال اليهود لعنهم الله: إنه من سفاح، ولا كما قال النصارى لعنهم الله: إنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فكل ذلك كذب وفجور.

فقوله تعالى: قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] قول الحق: مفعول مطلق، أي: ذلك القول مما قاله الله وقرره وبينه، فعيسى نبي رسول من الخمسة أولي العزم، وذلك بيان ما كانوا يمترون فيه ويتشككون ويرتابون، وليسوا على يقين مما يزعمون ويرتابون.

فعيسى الذي يتشككون في حقيقته وهويته وإنسانيته وعبوديته لله ليس إلا عبداً لله، ولد كما يولدون، وسيموت كما يموتون، ويبعث كما يبعثون، ذلك الحق الذي يزيل الريب والشك من أنفس هؤلاء وكل الأحزاب.