تفسير سورة مريم [1-11]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: كهيعص [مريم:1].

هذه سورة مريم الصديقة أم عيسى عليه السلام، وهي سورة مكية، آياتها ثمان وتسعون آية، وعندما ذهب قوم من المسلمين بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين إلى الحبشة بدينهم؛ فراراً من قهر الكفار لهم، ومن الضغط عليهم، بقيادة جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخي علي رضي الله عنهما، بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد - وكان عمرو لم يسلم بعد - يطلبان من النجاشي أن يسلمهما هذه الفئة التي خرجت عن دين قومها، فقال عمرو للنجاشي : إن هؤلاء يدينون بدين جديد أتى به محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في أرض مكة، ويقول عن ربك: ليس برب وإنما هو عبد، يعني: عيسى ابن مريم، فجمع النجاشي جعفراً والذين جاءوا معه من المهاجرين من مكة إليه فسألهم، فقال لهم: ما الذي أتى به هذا الذي يقول: إنه نبي؟ قال: يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى أن عيسى عبد الله وابن الصديقة مريم ، وإلى أن موسى نبي الله ورسوله، وأنه من أولي العزم من الرسل، وأن الله أنزل على أنبيائه السابقين كتباً وصحائف، وقد أنزل منها التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، ثم قرأ عليه من سورة مريم ما يتعلق بالسيدة مريم .

وإذا بـالنجاشي يقول: إن هذا الذي تتلوه والذي جاء به عيسى لمن مشكاة واحدة، وطرد هذين اللذين أتياه رسولين عن كفار قريش، ورد عليهما هديتهما.

وبسم الله الرحمن الرحيم جزء من آية من سورة النمل، وهي: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، وأما ذكر البسملة والتعوذ في أول السورة فقد اختلف الأئمة هل ثبت بالوحي وفي التلاوة النبوية أو هي للتيمن والتبرك بها، وذكر اسم الله في بداية كل سورة؟

والقراءات في أكثرها تبتدئ السور بالبسملة إلا قراءة المغاربة الذين يقرءون بقراءة ورش ، فيقولون: البسملة إنما هي آية في سورة النمل.

والإمام مالك وأبو حنيفة وقول لـأحمد لم يوجبوها، والشافعي أوجب قراءتها في الصلاة في أول الفاتحة وأول السورة، واستدل على ذلك بأحاديث مستفيضة ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج)، وحديث: (لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وفاتحة الكتاب كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته عندما طلب من نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة كما يريد عليه الصلاة والسلام قال: (استقبل القبلة، وقل: الله أكبر، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين)، فنص على البسملة.

قال تعالى: كهيعص [مريم:1]، اختلف المفسرون في معنى الحروف المقطعة، فقال قوم: كل حرف يدل على اسم من أسماء الله، فالكاف هنا بمعنى: يا كريم! أو يا كافي! والياء بمعنى: يا بديع! والهاء هو الله جل جلاله، وهكذا.

وقال قوم: لكل حرف من هذه الحروف المقطعة عدد من الأعداد يستخرج به معنى من المعاني، وقد قيل هذا فهماً عن صحابة وتابعين، واختلفوا فيه كثيراً، ولم يثبت ذلك في آية من كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعجز الله البشر والخلق كلهم ملائكة وإنساً وجناً عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه أو بآية، والتعجيز لا يزال قائماً منذ 1400 عام، وما زادت الأيام ومضي القرون هذا التعجيز إلا تأكيداً ويقيناً وقطعاً، فطوال هذه القرون لم يستطع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن لا سورة ولا آية، وسيبقى ذلك -على كثرة الكفار والملاحدة- المعجزة الدائمة المستمرة إلى يوم القيامة.

ولعل قائلاً أن يقول: كيف هذا الإعجاز؟ ومن أي شيء القرآن؟ أليس عربياً والعربية يعلمها عشرات الملايين من العرب ومن غيرهم؟

فنقول: هو كذلك، ومع هذا أعجز كل هؤلاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء مثله أبداً، ومن هنا كان الإعجاز، أي: عجزوا واعترفوا بعجزهم بأن كلام الله لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو بشبيهه أو بقريب منه. يقول الزمخشري وتحمس لقوله أكثر المفسرين في عصرنا علماً وبياناً ويقيناً وأكدوه بالأدلة التي لا ترد: إن هذا القرآن الكريم صنع الله، تكلم الله به، وأوحى به إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من حروف الهجاء العربية، وعليها كانت بنيته، وعليها قام قيامه، وعليها كان كتاباً جامعاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك إن استطعتم أن تؤلفوا من هذه الحروف سورة أو آية فافعلوا، وقد حاول بعض الكفرة كـالمتنبي الكذاب ومسيلمة الكذاب وغيرهما ذلك، فما أتوا إلا بالباطل من القول، والهراء والغث مما لا تكاد تقبله أذن.

قال تعالى: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:1-2].

تقدير الكلام: ذكر الله وذكر ربك عبده زكريا برحمته، أي: هذا اشتمل على ذكر الله رب زكريا لعبده زكريا برحمة منه، حيث استجاب دعاءه، وحقق طلبه، ورزقه الولد على عقر زوجته وكبر سنه، وعلى اشتعال رأسه شيباً، وعلى وهن عظمه، وعلى ذهاب أكثر ما يمكن أن يطمع فيه بالولد.

ولقد رحم الله عبده زكريا بأن استجاب دعاءه ورزقه الولد على كبر منه، وعلى عقر امرأته وكبر منها كذلك.

قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي: في هذه السورة ذكر الله رب زكريا عبدَه زكريا؛ رحمة منه ورضي عليه بأن حقق طلبه، وأجاب رغبته، فاستجاب لدعائه الخفي.

وقد قرئ زكرياء بالمد وبالقصر، والقراءتان سبعيتان متواترتان، وزكريا أحد عظماء أنبياء ورسل بني إسرائيل، وكان من أعاظم أنبيائهم طاعة ووحياً وإشرافاً على التوراة، وعملاً بها، وتحقيقاً لأحكامها، ونشراً لها، ودعوة إلى الله في السر والعلن، وفي الصبا والشيخوخة.

قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:2-3].

أي: كانت الرحمة عندما نادى زكريا ربه نداء خفياً سراً في آخر الليل، حيث رفع يديه لله قائلاً: يا رب! وهو يضرع إليه ويكتم دعوته؛ إما لأن الدعاء كان في الليل في الثلث الأخير من الليل، حيث (ينزل الله جل جلاله إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داع فاستجيب له، هل من مظلوم فأنصره..) ، إلى آخر الحديث المتواتر القدسي، أو دعا ربه دعاء أخفاه عن قومه وعن أتباعه؛ خوف أن يكون في هذا الطلب رعونة وشيء لا يليق بمثل زكريا في سنه أن يطلبه، إذ العادة تأبى ذلك، وقد رفع زكريا يديه ضارعاً لله، سائلاً له، راغباً في تحقيق طلبه ورغبته، بأن يكرمه بغلام يرثه ويرث نبوة آل يعقوب.

وكان عندما طلب الولد - كما قال عن نفسه - قد انتشر الشيب فيه، والشيخوخة ظاهرة عليه، وقد رق عظمه، وأضعفت الشيخوخة باطنه، وكانت امرأته على كبر سنها عاقراً لا تلد، ومع كل هذا لم ييأس من ربه ومن دعوته ومن تحقيق الولد رحمة من الله له. قال تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:3-4] أي: كان الذي قاله ونادى به ربه وضرع إليه أن قال: رب إني أدعوك لشيء أرجو تحقيقه ونواله على ما بي من هذه الحال، فأنت القادر على كل شيء، فامرأتي عاقر، والعاقر: هي التي لا تلد وهي صغيرة، ومن باب أولى إن كانت كبيرة، وقد رق حالي، فقد سقطت أسناني، ولصقت عظامي بجلدي، والشحم قد ذاب، واللحم أصبح هشاً، ومع هذا قد اشتعل رأسي شيباً، وأصبح مشتعلاً مضيئاً كما تضيء النار والأضواء؛ لكثرة الشيب، ولكثرة بياضه، وغلبته على السواد من شعره، فقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: رق وضعف، وسقطت الأنياب، وزالت الأسنان، وأصبحت العظام لا تكاد تحمل الجسد إلا بمشقة، ولا تتحمله الرجلان إلا برجل ثالثه من عصا يتكئ عليها أو إنسان يعتمد على عاتقه، وأنا مع هذا السن والشيخوخة الفانية فإن امرأتي عاقر من الأصل لا تلد.

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5] أي: أكرمني بولد يتولاني من بعدي، ويحمل اسمي وعلمي ونبوتي وعملي في الدعوة إلى الله.

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6].

لا يليق بالنبي أن يأسف ويهتم بالمال بعده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، فما تركه الأنبياء يعتبر صدقة على المؤمنين، فالمؤمنون كلهم له وارث، يرثون ماله وعلمه، ومن هنا كان العلماء ورثة الأنبياء كما قال ذلك صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فمعنى الآية: يَرِثُنِي أي: يرث نبوتي، أي: اجعله نبياً مثلي يرث علمي، واجعله عالماً مثلي يرث مني الدعوة إلى الله.

قوله: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أين يعقوب من زكريا؟! فيعقوب هو الجد الأعلى لسلالة أنبياء بني إسرائيل، وهو إسرائيل، وليس هناك مجال لكي يرثه، وإنما مقصوده: ارزقني ولداً صالحاً يقوم مقامي في النبوة والتبليغ للوحي، ودعوة الخلق إليه، ومحاربة الشرك والوثنية وفساد الأخلاق.

ثم قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: اجعله يرضيك في أمرك ونهيك، ويرضيني في البر والطاعة، ويرضي الناس برحمته وشفقته وخدمتهم ودعوتهم إلى الله، فيكون مرضياً عنه عند الله وعند الناس، فهو لا يطلب الولد فقط؛ لأنه قد يأتي الولد ولا يكون كذلك، وهو في هذه الحالة لا يريده ولا يسعى إليه ولا يحب مجيئه.

وقال قبل ذلك: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4] أي: لم أكن يوماً بدعائك يا رب! شقياً، أي: مبعداً بائساً غير مستجاب الدعوة، أي: عودتني بكرمك وبرحمتك وبفضلك أن تجيب دعائي وتستجيب ندائي وتحقق دعواتي، فلا تغير علي عوائدك الطيبة في هذا الدعاء، حتى ولو كنت شيخاً فانياً، وكانت امرأتي عاقراً، فأنت القادر على كل شيء، فافعل ذلك يا رب!

ثم عقب بعد ذلك بقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم:5] أي: خاف الموالي بعده، والموالي هم أبناء العم والعصبة والأنصار والإماء والعبيد؛ فهم الأقارب بالدم وبالصهر وبولاء العبودية والرق، فهو يقول عنهم كلهم: إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم:5] أي: خاف بعد موته أن يخلفه هؤلاء، ولا يكون منهم نبي ولا رسول ولا داعية إلى الله، فهو يدعو الله ألا يخيب رجاءه وألا يرد دعاءه في أن يرزقه ولداً يرثه في النبوة والكتاب.

قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى [مريم:7].

هذا من بلاغة القرآن وفصاحته وإعجازه، فإن معنى الكلام: إنه دعانا فاستجبنا له وحققنا طلبه، وناديناه: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7] أي: أبشر يا زكريا! بغلام سميناه قبل خروجه، بل وقبل علوقه بالرحم، سميناه يحيى، ولم يكن لهذا الاسم من قبل سمياً، والمعنى يحتمل أمرين:

إما أنه ليس له شبيه في العبودية والتقوى والطاعة والصلاح، وإما أن هذا الاسم (يحيى) لم يسبق أن سمي به إنسان من قبل قط.

والمعنى الأول ليس صحيحاً ولا يمكن أن يتم، فلقد سبقه نوح وجده الأعلى إبراهيم، وكانا أفضل منه؛ لأنهما من أولي العزم، فلا يصح إلا المعنى الثاني، وهو أن: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: لم نسم أحداً قبل وليدك هذا الذي استجبنا لك به بهذا الاسم (يحيى).

وقوله: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ البشرى تكون بالوعد بالخير أو بزوال الوعيد من الشر، وقلما تستعمل في الشر، فإن استعملت كانت للهزء والسخرية.

وقوله: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ أي: بولد، وهو الطفل، اسْمُهُ يَحْيَى أي: العلَم الذي يحمله والسمة والعلامة التي سيعرف بها: هي يحيى.

فإذا بزكريا لشدة فرحه وسروره يكاد تأخذه حالة المرتاب، إذ كيف يكون هذا وأنا شيخ وامرأتي عاقر؟! فأخذ يقول للملائكة المبشرين له عن الله: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم:8] أي: كيف يكون هذا الولد؟ وعن أي طريق سيأتيني؟ وهل سيكون مني ومن صلبي ومن امرأتي العاقر؟ وهل سيكون هذا وأنا في هذه الحال أو تزوجني زوجة صغيرة وتزيد في قواي وصحتي أو تصلح هذه العقيم أو ماذا؟ وهذا كقول إبراهيم لله تعالى: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، وكذلك زكريا كان هو الطالب والراغب والداعي والراجي، وعندما بشرته الملائكة بتحقيق طلبه واستجابة دعائه أخذ يعجب ويتساءل: كيف سيتم ذلك؟

قَالَ رَبِّ أَنَّى أي: كيف قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا (كانت) هنا من أفعال الاستمرار، أي: كانت ولا تزال، كقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:96] أي: كان ولا يزال، واسمها في لغة العرب فعل استمرار، وأفعال الاستمرار هي وأخواتها مادام وما يزال.

وقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا عتي: جمع عات، يقال: عُت وعِتِ كصُلِ وصِلِ وكجُثي وجِثي.

وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ أي: أصبحت أعظم وأكبر وأسن، فقد كان يكاد يمشي منحنياً، ويكاد يحمل نفسه حملاً، وكان قد تجاوز المئات من السنين، وكانوا في الزمان الأول يعمرون القرون، وقد ذكر هذا في التوراة وفي الإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل، وقال القرآن المهيمن مثل ذلك، فأخبر عن نوح أنه لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فإذا كانت مدة الدعوة إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً فكم كانت سنه وكم عمر عاش؟

قال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9].

أي: أجابته الملائكة الذين أوحوا له بذلك عن الله: (كَذَلِكَ) أي: وأنت على هذه الحال من السن والعتي والكبر ومن عقر المرأة سيصلح الله صلبك، ويصلح رحم زوجتك، فتصب فيه نطفة صالحة، وسينشأ الولد غلاماً زكياً في رحم هذه العاقر، وسينتج ذلك وليداً نبياً صالحاً صديقاً براً تقياً.

وقوله: قَالَ كَذَلِكَ إي: قال الملك الآتي بالوحي وهو جبريل عليه السلام: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: قال الملك لزكريا: يقول لك ربك: ذلك عليه شيء هين، أي: أهون، والله جل جلاله إنما أتى بهذه التعابير بحسب اللغة التي نزل بها القرآن، وهي اللغة العربية، وإلا فالكل على الله هين سواء إيجاد الشيء من العدم أو إيجاده بعد ذلك من غير العدم ولذلك قال له ربه: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أي: تذكر يا زكريا! أصل خلقتك وأصل أبيك الأول وأمك الأولى، وأمم خلقتهم؟ فهل كان لهم أب صغير أو كبير؟ وهل كانت لهم أم صغيرة أو كبيرة؟ فلقد خلقت آدم من التراب، وخلقت حواء من ضلع من آدم، وخلقت عيسى من أم بلا أب، فلا يعجزه شيء جل جلاله من أن يخلق من العاقر ومن الشيخ الذي بلغ من الكبر ومن السن عتياً وكبراً وفناء أن يخلق منهما الولد الصالح.

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا فإن كنت ستعجب فاعجب من كونك خلقت من أصل خلق البشرية ولم تكن شيئاً موجوداً، فقد كانت عدماً وتراباً، ولم تكن حواء لا من تراب ولا من ذكر ونطفة ورحم، وإنما خلقت من ضلع من أضلاع آدم، كما قال تعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] أي: من النفس الأولى آدم.

ثم إذ بزكريا من تشوقه للغلام ولظهوره أراد أن يعلم وقت صبه في الرحم وكينونته، ووقت مضغته وتحركه، فقال: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً [مريم:10] أي: اجعل لي علامة أدرك بها وأفطن إلى أن الولد قد صب في الرحم وأخذ يتخلق وينتقل من طور إلى طور: من نطفة إلى علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى جنين ذي روح إلى الولادة، فاجعل لي علامة استعلم بها وأميز بها وقت وجود هذا الجنين في رحم هذه العاقر.

فقال الله: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، قال: علامتك أنك ستعجز عن النطق والكلام مع الناس ثلاثة أيام وأنت سوي، فلست أخرس ولا أعمى ولا أطرش، ولكنك تعجز عن النطق وعن الكلام من غير مرض ولا عيب فيك، فعندما تشعر بهذا فتلك هي العلامة على أن يحيى قد وجد في رحم زوجك.

وقال بعض المفسرين: سوياً، أي: ثلاثة أيام متتابعات، ولكن الذي رجحه المفسرون والمعنى له أكثر قبولاً: إن الله أعجزه عن النطق فكانت تلك علامة، وأما كونه من نفسه يسكت ولا يجب ولا يتكلم إلا إشارة فهذا يحتاج أيضاً إلى علامة سابقة ليتصرف هكذا.

وكون ذلك سيكون خلقة من الله فتلك العلامة لا تحتاج إلى علامة جديدة، ففي الصباح الذي يحاول فيه النطق والكلام فيجد نفسه عاجزاً عن النطق والكلام فتلك العلامة.

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا أي: لا تستطيع كلامهم وأنت سوي البدن والأعضاء من اللسان والسمع والبصر، فتعجز عند محادثة الناس وعن النطق، ولا تعجز عند الذكر والعبادة والطاعة.

وفي الآية طي وحذف يدل عليه السياق: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ [مريم:11] أي: دخل خلوته ومحراب عبادته، وأغلق عليه الباب يتعبد ويضرع شاكراً وحامداً وضارعاً إلى أن يتم هذا، ثم بعد ذلك خرج، كما قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11] أي: أشار إليهم، فبعد زمن تم الحمل وخرج من خلوته ومعبده وفتح الباب المغلق، فأشار إلى قومه وأتباعه: أَنْ سَبِّحُوا أي: أن اعبدوا الله بُكْرَةً أي: صباحاً وَعَشِيّاً أي: مساء، أي: سبحوه مهللين ومكبرين ومسبحين وقائمين وقاعدين، واعبدوه بأنواع العبادات وخاصة التسبيح والذكر والتنزيه والتعظيم، وزيدوا على ما أنتم عليه من العبادات والطاعات والقيام لله خالصاً له من غير رياء ولا سمعة ولا شرك.

فقوله تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي: خرج مشيراً لهم وقد عجز لسانه عن النطق، فظهرت العلامة والأمارة التي بينه وبين ربه، فخرج وهو سوي اللسان لا يستطيع النطق، وإنما يشير إشارة.