تفسير سورة مريم [51-57]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:51-53].

بعد أن ذكر الله لنا كيف ولد يحيى وكيف ولد عيسى، ثم ذكر لنا إبراهيم الخليل، يذكر لنا الله جل جلاله موسى، وهو أحد الخمسة من أولي العزم، وهو الذي أوحي إليه بالتوراة، ووصفه الله جل جلاله بعالي الصفات وزاكيها، فأثنى عليه ومجده.

قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ [مريم:51] أي: اذكر في القرآن الكريم موسى فهو كان نبياً رسولاً أوحي إليه بشريعة وأمر بتبليغها، فكان من أنبياء الله الكبار العظام أولي العزم.

قوله: إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا [مريم:51] قرئ (مخلَصاً) و(مخلِصاً)، وكلتاهما قراءتان سبعيتان متواترتان، فـ(مخلَصاً) أي: مختاراً ومصطفىً، أي: مخلَصاً من الشوائب والإجرام والنقائص والعيوب.

و(مخلِصاً) أي: أخلص العبادة لله جل جلاله من غير رياء ولا سمعة ولا شرك خفي، بل كان من عباد الله الدعاة إليه ومن الأنبياء الصادقين.

وموسى مع النبوءة كان رسولاً، إذ لم يوح إليه بشرع فقط، ولكن أوحي إليه بشريعة وأمر بالبلاغ، وأنزل عليه التوراة، وكان كتاباً يجمع الحكم والأحكام والتوحيد والتعظيم والتنزيه وتقدير الأنبياء والرسل، ولكن بني إسرائيل بدلوا وحرفوا وغيروا.

قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52].

أي: اذكر موسى في أعلى حالاته وأسماها وأعظمها: وذلك حال مجيئه إلى الطور وقد رأى ناراً، وقد خرج من عند صهره شعيب، واصطحب زوجته بعد أن وفى بالعهد الذي بينه وبينه، فأخذ موسى زوجته وتركه وأراد الذهاب إلى حيث يريد الاستقلال بنفسه، وبينما كان البرد شديداً رأى ناراً من جانب الطور فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10] أي: لعله يقتبس من النار قبساً ليصطلوا منه وليتدفئوا به، فيذهب عنهم هذا البرد والشدة، فلما وصل إلى الطور نودي من قبل الحق جل جلاله: أنا الله رب العالمين، فألق عصاك، واخلع نعليك.

والله اصطفاه بذلك، وأوحى إليه برسالته وكلمه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وقارون وهامان ، وإلى قومه المستعبدين من بني إسرائيل في مصر؛ ليأمرهم بعبادة الله وحده، وبأن يصحبوه إلى أرض فلسطين، فعندما وجد ذلك قرت عينه وتمت بذلك صفته النبوية، فهو رسول الله وكليمه ونبيه، كليمه أي: كلمه، وهذه صفة خاصة بموسى.

وقد كان ذلك قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلا فنبينا كذلك ليلة أسري به ورفع إلى السماوات العلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم إلى حيث كان قاب قوسين أو أدنى، ما زاغ البصر وما طغى، كلمه ربه وأمره بخمسين صلاة، وبقي يتردد عليه بمشورة موسى، وهو يقول له عند كل نزلة: إن قومك لا يستطيعون ذلك، فاسأل الله التخفيف، حتى أصبحت خمساً في اليوم والليلة وخمسين في الأجر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كلمه الله جل جلاله مرات عديدة حتى أصبحت خمساً.

قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52].

أي: جبل الطور، ويقال له: جبل زبير، وهو في أرض سيناء في مصر، وموسى عندما ناداه الله وكلمه كان الطور على جانبه الأيمن، فنودي من جانبه الأيمن من الطور، وليس موسى أيمن الطور، وإنما الطور أيمن موسى، حيث كان جبل الطور على يمينه.

قال تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] أي: قربه قرب معنىً ونبوءة وتشريف، وإلا فإن الله جل جلاله يسمعه موسى، وموسى سيجيب عن كلام ربه له، نجياً أي: مناجياً، كما تقول: جليس ونجي، ففلان نجي لفلان أي: يناجيه ويحادثه، فكان بذلك موسى نجي الله، كما تقول: جليس ونجي.

فقوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] قربه مناجياً ومتحدثاً معه، ومقرباً إليه بما أولاه من رتبة النبوة العالية والرسالة العظيمة.

قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53].

إن موسى عندما أصبح رسولاً كان بلسانه لكنة، فلا يكاد يفصح ولا يبين، وكان ذلك من أثر الجمرة التي وضعها في فمه وهو طفل صغير في قصر فرعون عندما أخذ يلعب ويعبث بلحية فرعون .

فقال فرعون لزوجه: إن هذا الطفل من بني إسرائيل، ولا شك أنه يريد العبث بلحيتي مهانة ومذلة.

فقالت له زوجه: إنه طفل صغير لا يميز بين الجمرة والتمرة، فاختبره إن شئت.

فجاء بتمرة وجمرة، وأشار إليه ودفعه ليحمل إحداهما، فألهمه الله على أن يحمل الجمرة ورماها في فيه فحرقته في لسانه، وتركت آثارها على لسانه، فأثرت في فصاحته، وبذلك أنجاه الله من قتل فرعون ، وكان فرعون يقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل من الذكران، وكان يترك النساء والبنات على الحياة ليكن جواري وإماءً وخدماً في بيوت الفراعنة.

وعندما اعتذر لربه للكنة لسانه رجاه أن يرسل معه أخاه هارون وزيراً، قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:30-32] فقد كان هارون أسن منه في العمر، وأفصح منه في المنطق، وأسلم منه لساناً وأبلغ كلاماً.

ولذلك يقول في آية أخرى: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء:13] أي: أرسل له؛ ليكون رسولاً وزيراً معيناً معي، واستجاب الله دعاءه، وقد قيل: لم يكن أخ بركة على أخ له مثل موسى، فقد طلب له أعلى المقامات وأعظمها، طلب له من الله أن يشركه معه في النبوءة والرسالة، فاستجاب الله له.

وقد قال عليه الصلاة والسلام لـعلي رضي الله عنه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) كما في الصحيح، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعلي : أنت وزير من وزرائي ومعين من معيني وساعد من سواعدي، ولكنه لا نبي بعدي، أخوتك لي كأخوة هارون من موسى إلا أن هارون كان نبياً ولن يكون بعدي نبي.

وهكذا كان علي مع النبي عليه الصلاة والسلام الوزير والمعين والمسدد والمحارب والمقاتل، والمتنقل بين أقطار الجزيرة يدعو لله ولرسوله بأمر رسول الله، ولم تكن هناك غزوة ولا معركة إلا وحضر فيها وبذل نفسه وحياته، ولكن الحياة كانت عنده أقوى من حضوره المعارك فجرح ولم يمت.

فقال الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] أي: من رحمته لموسى ومساعدته في الدعوة والكلام والبيان لـفرعون وقارون وهامان وبني إسرائيل المستعبدين، أن أكرمه بأخيه شريكاً في الرسالة والنبوءة، فكان كما طلب ورجا، فكان ذلك من رحمة الله بموسى وهارون، وكانت هبة من الله وعطية ومنحة.

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] أي: حال كونه نبياً ورسولاً، فأمر بأن يؤدي مع موسى الكتاب المنزل عليه وهو التوراة والصحائف العشر، فيقوم مع موسى بدعوة قومه إلى الله وعبادته.

وقصة موسى مفصلة قد مضت في غير ما سورة من السور الماضية في النصف الأول من كتاب الله، وهنا ذكرها اختصاراً وإشادةً ولفت نظر؛ لأنه كان من كبار الأنبياء والرسل، ومن أولي العزم منهم.

قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:56-57] يقول الله: واذكر يا محمد! في القرآن الكريم المنزل عليك إدريس، وإدريس هو جد والد نوح عليهما السلام، وهو أول من خط بالقلم، واخترع الكتاب، والكتابة وما تشمل من خزن المعاني هي في حد ذاتها تكاد تكون نبوءة قائمة بنفسها ورسالة مستقلة، فهذه الشرطات على الورق تشمل كل شرطة معطوفة وملتوية ومنحنية ومرتبطة بغيرها جميع المعاني التي كانت في الكون من قبل.

فتجد الإنسان يولد في حقبة من الدهر، ثم يعمر بضع سنوات وتجده إذا أكرم بالتعلم والقراءة والكتابة يلازم قراءة الكتب ومطالعتها، وإذا به يعيش مع الأولين والآخرين، ومع الكون قبل أن يكون ومعه بعد فنائه، ومع أنبياء الله ورسله الصالحين، ومع الجبابرة والطغاة الجاحدين، كل ذلك وهو لم يجاوز مكانه ولم يخرج عنه.

فكان إدريس أول من اختط بالقلم، وأول من عُني بعلم الحساب وعلم النجوم، وأول من عني بلبس الثياب الصوفية والقطنية وأول من خاطها، وكان الناس قبله شعوباً بدائية كالإفريقية اليوم، وكهؤلاء الأقزام الذين يوجدون في أشتات من الأرض يلبسون جلوداً على أبدانهم أو أجزاءً من أبدانهم أو على عورتهم: القبلية والدبرية فقط، وهكذا كانوا قديماً.

ولكن إدريس حضرهم وعلمهم، فاخترع لهم القراءة والكتابة، ونبههم إلى أخذ الثياب من القطن والصوف، واخترع لهم خياطتها ولبسها، ونبههم إلى علم الحساب وإلى علم النجوم، وإدريس نبي من أنبياء الله العظام، وكان ما تعلمه توقيفياً، أي: بوحي من الله لتعليم خلقه وعباده ما يعود عليهم بالخير العميم في حياتهم ومستقبلها.

قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:56] فصديق صيغة مبالغة من كثرة الصدق، أي: كان صادقاً في كل كلامه وإشاراته ومعاركه، وكان لا يخطر على باله أن يقول ما ليس بواقع لا إشارةً ولا تلميحاً، ولا تصريحاً من باب أولى.

اختلاف المفسرين في رفع إدريس هل هو حسي أم معنوي

قال تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57] .

قال البعض من المفسرين: إنه رفع معنوي وإن كان في الواقع حسياً، فقد رفع إلى الجنة حيث يعيش اليوم، ومنذ توفي وهو في الجنان.

وقال قوم: ليس هو في الجنان، ولكن المقام العلي نبوءته ورسالته ورحمة الله له، وإلا فهو ميت في الأرض.

ورويت هنا إسرائيليات مصدرها كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وقد تسللت هذه الإسرائيليات إلى كتب التفسير والعلوم مطلقاً.

روى ابن عباس عن كعب بسند لم يصح: أن إدريس خرج مرة في يوم مشمس شديد حره، وإذا به يعود وقد وجد من تلك الشمس وشعاعها حراً وألماً ووجعاً، فقال: يا رب! إن كان يوماً لم أحتمل فيه شدة الشمس وشعاعها وحرارتها، فكيف بالملك المكلف بحملها وهو يحملها في يوم كان مقداره خمسمائة عام؟!

فخفف الله على هذا الملك حامل الشمس، فشعر بذلك فقال: ربي! ما الذي حدث، شعرت اليوم بخفة حملي لهذه الشمس؟

قال: نبي من أنبيائي من البشر اسمه إدريس دعاني أن يُخفف عنك فاستجبت له.

قال: يا رب! اجمعني به، فاجتمع به، وقال: يا إدريس! أنا ملك من ملائكة الله، أنا المكلف بحمل الشمس، ما حملك على الدعاء بالتخفيف لي؟

قال: شعرت بثقلها وحرها وشدة إشعاعها، فقلت: إذا عجزت أنا عن وجودي فيها اليوم فكيف بمن يحملها؟

فقال: لك عندي طلب، فاطلبه مني أفعله لك.

قال: ألك صلة بملك الموت؟

قال: نعم.

قال: اطلب لي من ملك الموت أن يؤخر أجلي؛ لأزداد طاعة وعبادة لربي وتقرباً، وعلى ذلك احملني من الأرض المكلف بها، وخذني إلى أعلى مكان.

قال: آخذك إلى السماء الرابعة من السماوات فحمله، وبينما هو يستأذن الملائكة المكلفين بأبواب السماء الرابعة وجد ملك الموت، فقال: عنك أبحث، جئتك شفيعاً لإدريس نبي الله بأن تؤجل موته؛ حتى يزداد قرباً من الله وطاعة، فانظر متى يموت، فنظر في السجل الذي بين يديه. وقال: كان ينبغي أن يكون في هذه الساعة ميتاً، ولكن العجب عندي أنني مأمور بأن آخذ روحه في السماء الرابعة.

فقال: هو ذا، وإذا به يلتفت إليه فيجده ميتاً، فيلقي به في السماء الرابعة حيث مات.

وقال قوم: نبيان من أنبياء الله لا يزالان حيين في الأرض، ونبيان حيان في السماء، أما النبيان الحيان في الأرض: الخضر وإلياس، وأما النبيان الحيان في السماء: فعيسى وإدريس، فهذا قول بأنه استجيب له وبقي حياً، وسيبقى إلى يوم النفخ بالصور يوم لا تبقى نفس منفوسة.

على أنه من الثابت في قصة الإسراء النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسري به إلى السماوات السبع إلى سدرة المنتهي، ثم إنه كان قاب قوسين أو أدنى، فاجتمع بإدريس في السماء الرابعة، وهل اجتمع به حياً أو ميتاً، على كل اجتمع بروحه، والروح لا تموت.

والأمر كما يقول الحسن البصري : خلقنا للأبد، وإنما هي نقلة من دار إلى دار، كمن يرتحل في الأرض من حي إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، فنحن ننتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة إلى دار البقاء.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:56-57] فنقول: معنى العلو هنا: معنوي وهو حسي، أما المعنوي فهو قد رفع برتبته وبنبوءته وبرسالته إلى أن كان بها في المقام العلي بين الخلق، وهو علو حسي بأن رفع إلى السماء الرابعة ولقيه هناك نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو رفع وعلو حسي ومعنوي معاً.