تفسير سورة مريم [12-15]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].

هنا حذف يدل عليه السياق، وهذا كما قال ابن مالك في ألفيته النحوية:

وحذف ما يعلم جائز

يَا يَحْيَى أي: بعد أن ولد الوليد، وذلك بعد أن حملت به أمه تسعة أشهر وتحققت العلامة بالإشارة من زكريا لقومه فتم الحمل ثم ولد الوليد، وبعد أن بلغ ثلاث سنين خاطبه ربه وأوحي إليه وهو طفل فقال: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أي: باجتهاد، والكتاب هو التوراة، أي: خذ الكتاب الذي أنزل على موسى ليكون له ولمن جاء بعده هادياً ودالاً ومرشداً، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أي: خذ التوراة باجتهاد وبحرص على تعلمه، وعلى حفظه، وعلى معرفة أحكامه، وعلى معرفة خاصه وعامه، وكن قوياً في طلب العلم وفي حفظه وفي وعيه وفي العناية به، ولا تضع وقتك وزمنك في اللعب وفي النوم وفي ضياع الوقت.

ولقد قيل عن يحيى: إنه طلبه الأطفال ليلعب معهم وهو ابن أربع سنوات فامتنع، وقال: لم أخلق لهذا، ومن هنا سماه الله الحكيم.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12].

يقول جل جلاله: إنه قد آتاه الحكم والوحي والنبوة والرسالة والحكم بين قومه من بني إسرائيل وهو لا يزال صبياً، قالوا: كان ابن ثلاث سنين.

قال تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [مريم:13] أي: كما آتاه الحكم وهو صبي فقد آتاه الحنان، وهو الحنو والشفقة على خلق الله من الفقراء والمساكين والمرضى والمحاويج، وآتاه الحنو في قلوب الناس، فكان لا يراه أحد إلا أحبه وأطاعه واحترمه.

قال تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً أي: آتاه الزكاة في قوته وفي دينه وفي ماله وفي طاعته بحيث زكى جميع أعماله المادية والمعنوية، فإن كان له مال زكى منه، وإن كان له قوة أعطى من قوته، وإن كان له جاه أعطى من جاهه، فمن جملة ما آتاه الله يحيى: الحكم والنبوة والكتاب والرسالة والحنو على الخلق والزكاة والتزكية والتنمية في جميع أعماله المالية والمعنوية.

قال تعالى: وَكَانَ تَقِيًّا أي: كان صالحاً باراً مطيعاً لربه ولأنبيائه السابقين، فلا تعرف عنه معصية قط، وكان عبداً حصوراً لا يعرف النساء ولا يشتهيهن، وقد قيل عنه: إنه لم تعرف عنه زلة لا صغيرة ولا كبيرة، فقد كان من أنبياء الله الكبار الأربعة والعشرين الذين ذكرهم الله في كتابه.

قال تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وكذلك كان زكريا، ثم كان يحيى بن زكريا، فالله يشيد به هنا ويثنى عليه ويرفع من ذكره؛ لنحترمه ونؤمن برسالته ونقدره، ولا نفعل كفعل بني إسرائيل من شتمهم لأنبيائهم، وقذفهم لهم، وطعنهم في أعراضهم وفي أديانهم وفي أخلاقهم، وجعلهم من ذلك كتاباً مقدساً للناس، ومن هنا كان الفساد والكفر والفاحشة ديناً يدعو إليه اليهود ويعيشون عليه ويدعون له، وحيث وجد اليهود وجد الكفر والفساد وكل سوء، فهم الجرثومة البشرية في الأرض.

قال تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ أي: كان باراً بأمه وبأبيه يطيعهما ويحقق رغباتهما ولا يعصيهما في معروف البتة، وكان أبوه زكريا نبياً من أنبياء الله، وكانت أمه من الصالحات القانتات، فكان براً بهما سمعاً وطاعة وخدمة وسعياً في كل ما يجلب الخير لهما.

قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا أي: لم يكن طاغية أو جباراً، إذا غضب قتل أو ظلم أو اعتدى أو شتم أو سعى في سوء، فلم يكن من جبابرة الأرض، بل كان براً رحيماً تقياً صالحاً، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ولم يكن عاصياً، والعصي من أفعال المبالغة، أي: لم يكن عاصياً البتة، والمعنى: عاص، فهو لم يعص أباه ولا أمه البتة، ومن باب أولى لم يعص ربه ولا نبيه.

وهكذا كان يحيى بن زكريا نبياً وابن نبي، فهو سليل الأنبياء إلى إبراهيم عليهم جميعاً سلام الله وصلاته.

قال تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15].

رفع الله جل جلاله السلام والأمان ليحيى في ثلاث حالات يكون الإنسان فيها أحوج ما يكون للأمان والسلامة.

الأولى: في قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ، والوليد عندما يخرج من بطن أمه يخرج إلى عالم لا يعرفه ولا يشعر به، بل وهو في بطن أمه ورحمها يتخيل بعقله الصغير أن العالم كله هو الرحم، وعندما ينزل الوليد إلى الأرض وعالم الدنيا ينزل باك شاكياً متألماً متحسراً، فهو يحتاج إلى الأمان وإلى السلام، فتسعى أمه والمشرفون عليه إلى تهدئة نفسه وإسكاته عن هذا الضجيج والبكاء.

فالله أمن يحيى عند ولادته، فلا يخاف سوءاً ولا مكروهاً، فهو آمن على صحته وعلى حواسه وعلى تحقيق ما دعا أبوه له من النبوة والعلم والتقوى والصلاح.

والثانية: في قوله تعالى: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ والإنسان عند الموت تراه في رعب وفي هلع: هل سينتقل إلى الجنة أم إلى النار، وهل سيكون إلى الرحمة أو إلى العذاب، وهل سيغفر له ربه أو يحاسبه، فتجده على منتهى ما يكون من الرعب والهلع، وفي هذا الموقف الشديد أمن الله نبيه يحيى بن زكريا؛ ليأمن من عذاب الحساب، فهو كما أمن عند خروجه للدنيا، يأمن بوعد الله الحق عند موته وذهابه للآخرة.

قوله: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15] أي: أمنه الله وبشره بالسلامة والأمان عندما يبعث فلا غضب ولا نار ولا حساب، ولا ما يكون عليه أهل المحشر من عذاب وشدة وقهر، في ذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم الذي ترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد يكون يحيى في أمن وسلام من الله جل جلاله، فلا يخاف عذابه ولا مقته ولا غضبه.

قيل: اجتمع يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، وكلاهما في السماء الدنيا، فقال يحيى لعيسى: أنت أفضل مني، وقال عيسى: بل أنت أفضل مني، قال: أنت خلقك الله بلا أب، قال: وأنت خلقك من شيخ هرم وامرأة عاقر لا يلدان عادة، ثم قال عيسى: بل أنت أفضل مني، أنا عندما خرجت للدنيا أمنت نفسي وسلمت عليها فقلت: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33]، وأما أنت فقد أمنك الله، ووعدك بالسلام والأمان، فلم يحوجك لأن تقول ذلك فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، فسكت يحيى وحجه عيسى، ومع ذلك فعيسى أفضل، وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل وليس يحيى منهم، وهما معاً من رسل الله الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، فكلاهما إمامان صالحان، ونبيان معصومان.