فقه العبادات [13]


الحلقة مفرغة

المقدم: نود أن تحدثنا عن عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم عليه السلام، وما حكم القول بقتله وصلبه؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أنه أحد الرسل الكرام، بل أحد الخمسة الذين هم أولوا العزم، وهم: محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، والذين ذكرهم الله تعالى في موضعين من كتابه، فقال في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وقال في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].

وأن عيسى عليه الصلاة والسلام بشر من بني آدم مخلوق من أم بلا أب، وأنه عبد الله ورسوله، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يكذب، وأنه ليس له من خصائص الربوبية شيء، بل هو كما قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59].

وأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر قومه بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وإنما قال لهم ما أمره الله به: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117].

وأنه -أي: عيسى عليه الصلاة والسلام-خُلق بكلمة الله عز وجل، كما قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

وأنه ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رسول، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6].

ولا يتم إيمان أحد حتى يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مبرأ ومنزه عما وصفه به اليهود الذين قالوا: إنه ابن بغي، وأنه نشأ من زنا والعياذ بالله، وقد برأه الله تعالى من ذلك.

كما أنهم -أي: المسلمين- يتبرءون من فريق النصارى الذين ضلوا في فهم الحقيقة بالنسبة إلى عيسى بن مريم، حيث اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وقال بعضهم: إنه ابن الله. وقال بعضهم: إن الله ثالث ثلاثة.

أما فيما يتعلق بقتله وصلبه؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد نفى أن يكون قتل أو صلب نفياً صريحاً قاطعاً، فقال عز وجل: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:157-159].

فمن اعتقد أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قتل وصلب فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فقد كفر. فنحن نؤمن بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب، ولكننا نقول: إن اليهود باءوا بإثم القتل والصلب، حيث زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وهم لم يقتلوه حقيقة، بل قتلوا من شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على واحد منهم فقتلوه وصلبوه، وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم، فاليهود باءوا بإثم القتل بإقرارهم على أنفسهم وإثم الصلب، والمسيح عيسى بن مريم برأه الله تعالى من ذلك وحفظه ورفعه سبحانه وتعالى عنده إلى السماء، وسوف ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يموت في الأرض ويدفن فيها، ويخرج منها كما يخرج منها سائر بني آدم، لقول الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وقوله: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25].

المقدم: نريد أن نعرف إلى كم افترقت الأمة الإسلامية بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم؟

الشيخ: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار إلا واحدة، وهي من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وهذه الفرقة هي الفرقة الناجية التي نجت في الدنيا من البدع وتنجو في الآخرة من النار، وهي الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة التي لا تزال ظاهرة قائمة بأمر الله عز وجل.

وهذه الفرق الثلاث والسبعون التي واحدة منها على الحق والباقية على الباطل حاول بعض الناس أن يعددها وشعَّب أهل البدع إلى خمس شعب، وجعل من كل شعبة فروعاً ليصلوا إلى هذا العدد الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم.

ورأى بعض الناس أن الأولى الكف عن التعداد؛ لأن هذه الفرق ليست وحدها هي التي ضلت، بل قد ضل أناس ضلالاً أكثر مما كانت عليه من قبل، وحدثت بعد أن حصرت هذه الفرق اثنتين وسبعين فرقة، وقالوا: إن هذا العدد لا ينتهي ولا يمكن بانتهائه إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة.

فالأولى أن نجمل ما أجمله النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ثم نقول: كل من خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو داخل في هذه الفرقة، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى عصور لم نعلم منها الآن إلا ما يبلغ العشرة، وقد يكون أشار إلى عصور تتضمن فروعاً كما ذهب إليه بعض الناس، فالعلم عند الله عز وجل.

المقدم: الفرقة الناجية لها خصائص ما هي أبرز خصائص الفرقة الناجية؟

الشيخ: أبرز خصائص الفرقة الناجية: هي التمسك -كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام- بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، هذه الأمور الأربعة تجد الفرقة الناجية دارجة فيها، ففي العقيدة تجدها متمسكة بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص في ربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته.

وفي العبادات تجد هذه الفرقة متميزة في تمسكها التام وتطبيقها فيما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام في العبادات في أجناسها وصفاتها وأخبارها وأزمنتها وأمكنتها وأسبابها، فلا تجد عندهم ابتداعاً في دين الله، بل هم متأدبون غاية الأدب مع الله ورسوله، لا يتقدمون بين يدي الله ورسوله في إدخال شيء من العبادات لم يأذن به الله عز وجل.

وتجدهم أيضاً في الأخلاق متميزين عن غيرهم بحسن الأخلاق، بمحبة الخير للمسلمين، بانشراح الصدر، بطلاقة الوجه، بحسن المنطق.. إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسنها.

وفي المعاملات تجدهم يعاملون الناس بالصدق والبيان اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).

فهذه الميزة والعلامة لأهل السنة والجماعة هي الفرقة الناجية التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

المقدم: لكن هل يلزم تكامل هذه الخصائص في الأمور الأربعة: في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات دون نقص، وإذا نقصت يخرج الإنسان من هذه الأمة الناجية أو الفرقة الناجية، أم أن النقص لا يخل؟

الشيخ: النقص من هذه لا يخرجها عن كونها من الفرقة الناجية، لكن لكل درجات مما عملوا، ربما في جانب التوحيد أو جانب البدع ربما يخرجها عن الفرقة الناجية، مثل أن يدخل في عباداتها، أو أن يكون الإخلال بالإخلاص، فقد يخرجها عن هذه الفرقة الناجية، وكذلك في البدع، لكن في مسألة الأخلاق والمعاملات لا يخرجها من أن تكون من الفرقة الناجية.