إنهم فتية آمنوا بربهم


الحلقة مفرغة

يشترط في زكاة الأنعام أن تبلغ نصاباً، وأن يحول عليها الحول، وأن تكون سائمة، وقد جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أنصبة كل من الإبل والبقر والغنم مفصلة، وهناك أحكام تتعلق بزكاة الأنعام كحكم الأوقاص، والجمع بين مفترق، والتفريق بين مجتمع، وحكم الخليطين، وضم بعض الجنس الواحد إلى البعض الآخر، وبيان ما هو الذي يؤخذ في الزكاة والذي لا يؤخذ، فينبغي معرفة ذلك كله.

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فعنوان هذه المحاضرة: إنهم فتية آمنوا بربهم.

وخير ما عمرت به خير البيوت -المساجد- ذكر الله عز وجل، وأن تعمر بتلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وتدارسه: (فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يذكرهم تبارك وتعالى فيمن عنده إنه سميع مجيب.

هذه السورة العظيمة سورة يرددها المسلم ويقرؤها كل أسبوع، وهذا يعني أن فيها كثيراً من المعاني التي يحتاج الناس إلى تكرارها وإلى إعادتها، إننا دون أن نخوض في جدل وتساؤل عن الحكمة وراء تكرار هذه السورة وقراءتها كل جمعة دون أن نصل إلى إجابة لهذا السؤال فإننا نوقن أنه لم يؤمر بتكرار هذه الآيات وقراءتها إلا أن فيها معاني يحتاج الناس إلى أن يتذكروها، وأن يذكروا بها، وأن يتدبروها، وألا تغيب عنهم، هذه السورة العظيمة سميت بهذا الاسم: سورة الكهف، لأن فيها قصة هؤلاء الفتية الذين شهد الله لهم بالإيمان، وأثنى عليهم تبارك وتعالى.

وهذا الحديث الليلة ليس تفسيراً لهذه الآيات، فلست مختصاً بهذا العلم وهذا الميدان الذي له رجاله وفرسانه، إنما هو وقفات وإشارات لبعض الدروس والعبر التي ينبغي أن نستفيدها من هذه القصة، وبين يدي الحديث حول هذا الموضوع أرى أننا بحاجة إلى أن نؤكد على هذا المعنى التربوي الذي يرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، ونرى أن اهتمامنا به وعنايتنا به لا يتناسب مع المكانة التي أولاها القرآن إياه، فالقرآن الكريم مليء بالقصص، والله تبارك وتعالى أخبر أنه يقص علينا أحسن القصص في هذا الكتاب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وأخبر تبارك وتعالى أن في قصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب، وأنه حديث صدق وحق: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111] نعم؛ لأن القصص يدخل فيها الأساطير والخرافات والأقاويل، أما كلام الله عز وجل فيتنزه عن ذلك.

إن هذا القرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى أنزله الله عز وجل على عباده من فوق سبع سموات حين يكون مليئاً بالقصص والإشارة إليها والتعقيب عليها، فإن هذا يعطي المربين درساً مهماً في شأن القصة وأهميتها في التربية، وحين ندرك هذا المعنى نرى أننا نهمل شأن القصة أو أننا لا نعتني بها كما ينبغي، وأولى القصص التي ينبغي أن نعتني بها؛ هي ما جاء في كتاب الله عز وجل وما قصه الله تبارك وتعالى في كتابه، وهو دليل على أهمية هذا الموضوع وعلو شأنه.

إن كل واحد منكم يستطيع أن يطرح تساؤلاً حول موضوع يختار للحديث عنه، وقد يرى أن هذا الموضوع ليس ذا بال وليس ذا أهمية، ومن حقه أن يرى هذا الرأي، وأن يرى أن غيره أولى منه، لكن أن يقول امرؤ: إن قصة جاءت في كتاب الله أو قصها النبي صلى الله عليه وسلم ليست ذا بال فهذا أمر لا يمكن أن يجرؤ عليه مسلم ولا يقوله، وهي قضية لا مجال فيها للنقاش والجدل.

قصة جاءت في كتاب الله، تعني أننا بحاجة إلى أن نتدبرها، وأن نقف عند معانيها، وأن نقيس حالنا بحال أولئك الذين قص الله عز وجل علينا شأنهم، قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم تعني أن لها شأناً ولها قيمة، فهي قضية تتجاوز مجرد الحديث التاريخي البحت الذي يعنى بتسطير الأخبار والروايات والأحداث، وحين نقرأ في كتاب الله ونحلل أساليب عرض القصة نرى أن القصة لا تأتي قصة مجردة تحكي أحداثاً إنما تأتي القصة وفي ثناياها الإشارة إلى العبر والعظات والدروس المهمة التي ينبغي على الناس أن يعوها.

ولهذا فحديثي سيكون عبارة عن جملة من الوقفات لا يجمعها جامع إلا أنها وقفات حول هذه القصة العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجل.

أول قضية تستوقفنا حول هذه القصة: أنهم كما أخبر الله عز وجل فتية، فقال الله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وقال عز وجل: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمة لم تأت اعتباطاً كقضية تاريخية، يعني: أنت حينما تكتب مثلاً قصة تقول: كان محمد أباً لأسرة فقيرة.. إلى آخره فاسم محمد هذا لا يعني شيئاً بالنسبة للكاتب ولا يعني دلالة، وحينما يقول: كان شاباً.. كان شيخاً طاعناً في السن فربما لا يعني دلالة حتى عند صاحب القصة؛ لكن كلام الله عز وجل لا يمكن أن تأتي فيه كلمة عبثاً، فحينما يأتي وصف هؤلاء بأنهم فتية في موضعين والقصة أجملت أولاً في ثلاث آيات، ثم فصلت: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:9-12] بعد هذا الإجمال قال الله تبارك وتعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

إذاً: هذه الكلمة لا تأتي عبثاً، ولا تأتي مجرد وصف لا قيمة له، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟ يعني: دلالات عدة، أول هذه الدلالات: هي سنة الله عز وجل في هذه الدعوة، وهي دعوة التوحيد: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، فهذه أمة واحدة بدءاً بنوح وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجدداً وحاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة واحدة ودعوة واحدة.

وجاء هذا التعقيب وهذا الوصف بعد ذكر قصص الأنبياء في سورة الأنبياء، بعد أن ذكر الله عز وجل نوحاً ولوطاً وزكريا وإلياس وسائر الأنبياء أخبر أنها أمة واحدة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، فهي سنة أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله عز وجل يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، ولهذا قال قوم نوح: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] هم أولئك الفئات السذج بسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق.

وقال الله عز وجل عن أتباع موسى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس:83] فهم ذرية، فأقران موسى ليسوا من الذين آمنوا بموسى، بل الذين آمنوا به الذرية، واستنبط ابن كثير رحمه الله من هذه الآية قال: يخبر الله عز وجل أنه لم يؤمن لموسى إلا فئة قليلة من قومه وهم الشباب، وكذلك أتباع الأنبياء.

وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره، وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك، فالعشرة المبشرون بالجنة وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام كان خمسة منهم دون العشرين في أعمارهم، ويعجب القارئ بهذه السير: كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم، وربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة، وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من هذه الطبقة من الشباب: سعد بن أبي وقاص والزبير بين العوام وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.. وغيرهم كثير، بل أول من أسلم من أهل المدينة والأنصار وأول من يحفظ إسلامه كان غلاماً صغيراً وهو إياس بن معاذ ، قدم مع قومه، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يطلبون الحلف فقال: (ألا أدلكم على خير مما جئتم إليه؟ فدعاهم إلى الإسلام، فتكلم هذا الغلام وقال: هذا والله خير مما جئنا إليه) فزجره أحدهم، ثم قال: فكانوا يسمعونه يسبح ويهلل فما كانوا يشكون أنه مات مسلماً.

وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب رضي الله عنه إلى بيعة العقبة واجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس وهو على دين قومه يطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم، جاء هنا ناصراً ومعيناً للنبي صلى الله عليه وسلم وليس متهماً الآن فيما يقول، فلما تفرس في وجوه القوم قال: هؤلاء لا نعرفهم، هؤلاء أحداث!

هذه وقفة مهمة أشار إليها الحافظ ابن كثير أيضاً في تفسيره لهذه السورة، فقال: فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل.

وهذا يعني أن الصحوة التي تعم أرجاء العالم الإسلامي في عرضه وطوله اليوم، أنها حين قامت على أكتاف الشباب فهي ليست ظاهرة شاذة وحالة شاذة كما يحلو للبعض أن يصوروا ذلك، ويروا أنها إنما قامت على أكتاف هؤلاء السذج (بادي الرأي)؛ إنها وإن اختلف القائلون مقولة: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27].

وكونهم أيضاً شباباً وفتية يعطي درساً مهماً وتساؤلاً مهماً نطرحه اليوم ونحن نعيش أزمة في عالم الشباب الذين يتعلقون اليوم بالأمجاد والبطولات الزائفة والبطولات الزائفة التي يصنعها الأعداء، أو تكون نتاج إغراق الأمة في لهو وعبث فارغ، لا يعدو أن يفرغ قضية الأمة الكبرى والأساس من مضمونها ليخرج جيلاً إنما تتعلق البطولة والأمجاد لديه بتوافه الأمور، أليس الشباب اليوم في العالم الإسلامي وهم يعيشون هذه الأزمة أحوج أن يبرز أمامهم هذا النموذج وهذا البديل؟

ويتساءل المسلم اليوم بمرارة وأسى: أيعرف شباب المسلمين اليوم عن شأن أهل الكهف، وعن شأن أصحاب الأخدود، وعن شأن الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون عن أهل الفن واللهو والعبث الباطل الزائل؟

إن الإجابة على هذا التساؤل إجابة مُرَّة، وهي تطرح مطلباً ملحاً لكل من ولاه الله مسئولية في تربية وتوجيه الأمة أجمع أن الأمة اليوم والشباب بوجه أخص يعانون من أزمة قدوة، وها هو البديل إن كنا جادين وصادقين، فلماذا لا تبرز هذه النماذج للشباب على أنهم هم المثل الأعلى؟

إذا كان الشباب يبحثون عن البطولات والإنجاز والأمجاد فها هو إنجاز أولئك الشباب ومجدهم الذي يستعلون على شهواتهم وعلى رغبات الدنيا، ويستعلون على الفتن التي تأتيهم من هنا وهناك فيعلنون إيمانهم بالله عز وجل: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:14-15].

وأي مجد -أيها الشباب- وشأن أعلى من أن يتعلق الشباب بالمثل العليا؟ أن يتعلق الشباب بالقضية الكبرى التي خلقوا من أجلها؟ وألا تصرفهم الفتن والصوارف ويثبتوا أمامها في سبيل قضية كبرى، أيقارن هذا المجد بأمجاد الدنيا الزائفة التي يتطلع إليها الشباب اليوم؟ واسأل شباب الأمة اليوم عن قدوتهم، عن مثلهم الأعلى، عن الشخصية التي يتمنون أن يصلوا إليها، عن أمنيتهم في الحياة لتدرك المرارة والأسى وتدرك الحاجة الملحة إلى مثل هذا النموذج الذي لا يتطرق إليه الشك ولا الكذب، إنه نموذج يعرضه أمامنا كتاب الله عز وجل.

ثالثاً: ارتباط هذه القضية بالشباب تعطي الشاب الذي يعيش اليوم غربة ثقة بنفسه وثقة بطريقه، ويشعر اليوم وهو يرى ربما أنه يسير على طريق يخالفه الناس من هنا وهناك يشعر أن له امتداداً بعيداً يتجاوز هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها؛ ليدخل ضمن هذه الدائرة الشباب الصادقون من سلف الأمة، والشباب الصادقون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوز تاريخ الأمة المحمدية ليشمل تاريخ تلك الأمم الموحدة منذ أن أهبط الله عز وجل آدم إلى أن تقوم الساعة، فيشعر الشاب حينئذ بالاعتزاز وهو ينتمي إلى هذا المنهج، ويرى أنه لا يعيش غربة، وأنه لا يعيش حالة شاذة، وإن بدا من خلال النظرة القريبة العاجلة التي يعيشها وينظر إليها اليوم غريباً شاذاً، إنه حين يقرأ كتاب الله عز وجل ويرى هذا النموذج البعيد على تلك القرون المتطاولة على مدى التاريخ فيرى أن له إخوة ساروا على الطريق نفسه، لا شك أن هذا يدعوه إلى الثبات والثقة بالطريق الذي هو عليه، ولسان حاله وهو يقرأ هذه النماذج أن يقول: لست وحدك في الميدان ولست وحدك على الطريق، وإن أصابك ما أصابك ورأيت ما رأيت فاصبر فإنه طريق طويل، إنه طريق يتجاوز مدى الزمان، ويتساءل: أين الشباب العابثون اللاهون التائهون الذين متعوا أنفسهم بالشهوات؟ أو أين أولئك الشباب الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا أسر عصرهم وزمانهم، أين هم على مدى التاريخ؟ وماذا حفظ التاريخ عنهم؟ أما أهل الكهف فهاهم على مدى التاريخ يتحدث الناس ويتساءلون عنهم وعن أسمائهم، وعن اسم ذاك الكلب الذي صحبهم، أين الكهف الذي عاشوا فيه..؟ إلى آخر تلك التساؤلات، وإن كانت طائفة من هذه التساؤلات تساؤلات غير جادة، إلا أن هذا يعني أن أولئك حفظ شأنهم وبقي شأنهم وبقيت قيمتهم، وما عند الله عز وجل لهؤلاء ولغيرهم من المؤمنين الصادقين أعلى وأتم من هذا الذكر الذي بقي في الدنيا.

وهو أيضاً يعني قضية أخرى مهمة: أن الإيمان والدين يرفع المرء مراتب، ويتجاوز الاعتبارات التي يضعها الناس لدنياهم، فهذه فئة من الشباب خالفوا قومهم وشذوا عن منطق قومهم وما هم عليه، فذهبوا وأووا إلى غار فباتوا فيه مدة طويلة ثم بعد ذلك ماتوا، فماذا يعني ذلك؟ لقد أعلى الله شأنهم، وأثنى عليهم، وشهد لهم بالإيمان وزيادة الهدى.

فهكذا الإيمان والصلة بالله عز وجل، إنها تتجاوز كل الاعتبارات التي يعليها الناس اليوم من الجاه والنسب والمال وسائر المطامع التي يسعى إليها الناس، تتجاوز ذلك كله لتبقى هي الرصيد الذي لا يزول ولا يفنى.

درس آخر ووقفة أخرى: الله تبارك وتعالى قال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، بدأ بهذا المعنى، وهذا فيه إشارة وإيماء ولمز بالمشركين الذين لم يؤمنوا، وجاءوا يتساءلون عن شأن أهل الكهف: ما شأنهم؟ حدثنا عن فتية كانوا في غابر الزمان، فجاءت أول إشارة لهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، وأنتم ما شأنكم وقد كفرتم بربكم؟

وقفة أخرى: الله عز وجل قال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وهي قضية مهمة كثيراً ما يشير إليها القرآن، وقد نغفل عنها، وهي أن الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق، يقول تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:4]، وفي قراءة: (قاتلوا في سبيل الله)، فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].

إذاً: أيها الإخوة، فالهداية والتوفيق من الله عز وجل لها أسباب، ومن أعظم أسباب الهداية والتوفيق: اجتهاد المرء في العمل الصالح والإيمان وتقوى الله تبارك وتعالى؛ فقال الله عز وجل: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

أيضاً: معنى آخر نحن أحوج ما نكون إليه اليوم في هذا العصر الذي أصبحنا نرى الناس يتهاوون صرعى على جنبات الطريق ذات اليمين وذات الشمال ويكيدون ويضلون عافانا الله وإياكم، والحديث اليوم الذي يسيطر على كثير من الشباب الصالحين الأخيار هو السؤال عن الثبات والهداية، وتأتي الإجابة هنا: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:13-14].

فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، والأمر أولاً وآخراً بيد الله تبارك وتعالى مقلب القلوب، فالثبات بإذن الله والتوفيق والربط على القلوب إنما هو بيد الله عز وجل، وقد جعل الله تبارك وتعالى لذلك أسباباً، فحين يشعر الشاب اليوم أن الفتن قد بدأت تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، ويشعر بالخطر والخوف على إيمانه فعليه أن يدرك أن الله عز وجل هو الذي يربط على قلوب المؤمنين الصادقين حين يفعلون السبب: آمنوا بالله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم إذ قاموا فقالوا، قالوها صريحة: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:14-15].

فلا يخشى الشاب حين يؤمن بالله ويصدق مع الله عز وجل، بل يوقن بأن الله عز وجل سيثبته ويعينه ويربط على قلبه.

وقفة أخرى أيضاً: يقول الله عز وجل عنهم: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

فذكر هؤلاء توحيد الربوبية والألوهية: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14] إنها دعوة واحدة وهي دعوة جميع الأنبياء: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وما أرسل الله عز وجل من رسول إلا أوحى إليه تبارك وتعالى بهذه الكلمة؛ أوحى إليه: إني لا إله إلا أنا فاعبدون، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات).

فقضية التوحيد هي قضية الأنبياء، هي قضية الأنبياء منذ آدم ونوح وهود وصالح، فكل هؤلاء ومن تلاهم ومن لم يقص الله علينا شأنهم كانت مقولتهم لقومهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ [الأعراف:59]، وهي أيضاً مقولة أهل الكهف الذين آمنوا بالله وزادهم هدى.

والتوحيد الذي يأخذ هذا القدر وهذه القيمة هو التوحيد بمفهومه الواسع، لا بالمفهوم الضيق الذي يحصره كثير من الناس في قضايا معرفية بحتة، إن كثيراً من المسلمين اليوم يشعرون أنه من الخلل بالتوحيد أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، أو أن يقول: لولا الله وفلان، ونعم، هذه أمور ينبغي أن يحذر منها الناس، وأبواب الشرك الأصغر والأكبر ينبغي أن يحذر منها الناس ويعوها، لكن أولئك الذين يحذرون من قول: ما شاء الله وشئت قد يقول أحدهم في الثناء على مخلوق بلسان الحال لا بلسان المقال:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار

إن أهل التوحيد لا يليق أبداً أن يكون في قلوبهم تعظيم لغير الله عز وجل، إن أهل التوحيد لا ينبغي أن تمتلئ قلوبهم إلا بالتوجسه لله تبارك وتعالى، وأولئك الذين تعلقوا بالدنيا وتعلقوا بالشهوات وصارت هي الحاكم الأول لكل ما يريدون، أولئك الذين صارت الدنيا هي كل شيء لديهم ينبغي أن يراجعوا توحيدهم، إنهم لو عظموا الله ووحدوا الله عز وجل وامتلأت قلوبهم بتوحيد الله تبارك وتعالى وتعظيمه لما تجرءوا على ذلك.

وأولئك الذين يتجرءون على شرع الله عز وجل فيحرم الله أمراً تحريماً صريحاً واضحاً فيتجرأ أولئك على إباحته على رءوس الأشهاد، أولئك ما قدروا الله حق قدره، وما وحدوا الله عز وجل حق توحيده، وأولئك الذين يتجرءون على مقام الألوهية فيشرعون ما لم يأذن به الله، أولئك قد طعنوا في توحيدهم، وقد جعل الله عز وجل هاتين القضيتين قرينتان: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، فقضية العبادة لا يتقرب بها المسلم إلا إلى الله عز وجل، وكما أنه لا يصلى ولا يسجد إلا لله عز وجل فلا يحكم إلا شرع الله تبارك وتعالى، والفصل بينهما خلل في قضية التوحيد، إذاً فكانت قضية التوحيد هي قضية هؤلاء.

جانب آخر أيضاً له أهميته: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، وهو عظم شأن الدعاء في التوحيد، وقد سماه الله عز وجل عبادة، فإبراهيم عليه السلام يقول: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48-49]، فسماه الله عز وجل عبادة، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].

وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لماذا كان الدعاء هو العبادة؟ ولماذا صار الدعاء قرين التوحيد؟

والجواب: إن الدعاء يعني توجه القلب لهذا الذي يدعوه المرء، فحين يدعو المرء غير الله فهذا يعني: أنه يرجو غير الله، يعني: أنه يعظم غير الله عز وجل، يعني: أنه يشعر أن قضيته بيد فلان أو فلان، أما أولئك الذين يخلصون دعاءهم لله تبارك وتعالى فأولئك لا يرون لبشر عليهم فضلاً، ولا يرون لبشر عليهم منة، ولا يرجون من بشر نوالاً، ولا يخافون من بشر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

جانب آخر ووقفة أخرى: يقول هؤلاء: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائماً أن يحكم ما نقوله في كل قضية، والحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة أولئك يفرون من منطق الحجة والبرهان، ولا يخشى الدليل ولا الحجة ولا البرهان ولا الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون، ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم ودعوتهم، أما أهل الحق فلا يخشون من ذلك، بل إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرءوا على الشرك فقال: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في القرآن إلا في موضع الذم والنهي، بل جاء التشبيه البليغ لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق فقال الله عز وجل: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:171]، كمثل الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها، فالغنم تسمع صوت الراعي لكن لا تفقه ما يقول، تسمع دعاء ونداء يدعوها فتسير وراءه وتمشي وراءه، ولا يسوغ أبداً أن نتربى على أن نكون قطيعاً نسير وراء كل ناعق، وأن تتربى الأمة على أن تكون قطيعاً ينعق لها هنا وهناك فتسير، فالأمة رباها القرآن على: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، والذي عنده برهان وسلطان يمكن أن يطرحه، ويقول: هذا ما عندي، وأنتم: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف:4]، هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، هذا هو المنطق الذي ينبغي أن يسود في دعوتنا، ينبغي أن يسود في تربيتنا، ينبغي أن تتربى عليه الأمة حتى تكون أمة مستقلة واعية، هل من مصلحة الأمة أن تكون أمة يغيب عنها الوعي؟ أن تكون أمة مغفلة؟ أن تكون كالقطيع؟ إذا كنا كذلك فنحن نريد أن تكون الأمة (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء)، وما وصف الله عز وجل الأمة بأنها قطيع يسير وراء من ينعق به ويدعوه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2590 استماع
الشباب والاهتمامات 2465 استماع
وقف لله 2326 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2259 استماع
كلانا على الخير 2222 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
يا فتاة 2185 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2089 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2085 استماع