فقه أحاديث الصيام [6]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وحيهلاً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي: فقه أحاديث الصيام.

أرحب في مطلع هذا اللقاء بضيف البرنامج والذي سيتولى مشكوراً مأجوراً التوضيح والبيان لمسائل هذه الحلقة, أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, أهلاً ومرحباً بكم صاحب الفضيلة!

الشيخ: حياكم الله يا شيخ ناصر ! وحيا الله المستمعين والمستمعات.

المقدم: حيا الله شيخنا الكريم.

ذكرتم سابقاً قاعدة: وهي أن بعض سلف هذه الأمة يرى أن الحكم في التفطير إنما هو للداخل إلى الجسم لا الخارج منه, هل هذه القاعدة يمكن أن تطرد في كل ما يمكن أن يعني الصائم أو الصائمة؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

بداية لعلنا نذكر أن بعض الأشياء أجمع العلماء على أنها مفطرة, وبعض الأشياء داخلة في معنى القياس, وبعض الأشياء داخلة في القياس.

ومما أجمع العلماء عليه: هو أن الأكل والشرب والجماع والحيض والنفاس مما يفطر الصائم ويبطل الصوم, وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم, كـابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع, وابن قدامة في المغني, وكذلك أبو العباس بن تيمية رحمهم الله.

ويدخل في ذلك أيضاً الجنون, فإن العلماء رحمهم الله ذكروا أن الإنسان إذا جن في أثناء النهار فإن صومه يبطل بإجماعهم أيضاً, وعلى هذا فهذه الأشياء قد أجمع العلماء على أنها مفطرة, وأما غير ذلك فإن من أدخلها في الفطر فإنما أدخلها من باب القياس, ومن المعلوم عند العلماء أن القياس إذا كان صحيحاً فإنه معتبر, خلافاً لـابن حزم , فإن القياس مما أجمع العلماء على اعتباره خلافاً لـابن حزم , لكن القياس المعتبر هو القياس الذي يكون مقابلاً وموافقاً للنص, لا مخالفاً له, فإذا خالف القياس عموم الحديث فإن أكثر أهل العلم يرون أن العبرة بعموم الحديث لا بالقياس.

وعلى هذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما ثبت عنه، وكذلك أبو هريرة أنهما قالا: الوضوء مما خرج لا مما دخل, والفطر مما دخل لا مما خرج, وهذا الحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير من حديث أبي هريرة , وكذلك رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عباس , ورواه أيضاً البيهقي و الدارقطني موصولاً, ولم يوافق ابن عباس بعض الصحابة على قوله, فقد ذهب بعض الفقهاء كـابن عمر رضي الله عنهما إلى أن هذه القاعدة ليست على اطرادها؛ ولذا روى مالك في موطئه بسند صحيح عن نافع عن ابن عمر أنه قال: من ذرعه القيء فلا قضاء عليه, ومن استقاء عمداً فليقضِ, مما يدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى أن الفطر من الخروج, وهذا خلاف المعروف عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهذه المسألة -أعني: مسألة القيء- مما أجمع العلماء عليها, كما نقل ذلك ابن المنذر , وكذلك الإمام الخطابي في معالم السنن، وإن كان في نقل الإجماع محل نظر؛ لما نقل عن ابن عباس و أبي هريرة خلاف ذلك.

لكن المقصود من ذلك أننا نعلم أن الأشياء المفطرة تنقسم إلى ما هو مجمع عليه, وإلى ما هو مختلف فيه، والذي هو مجمع عليه: هو الأكل والشرب والجماع والحيض والنفاس, وكذلك الجنون, فإذا ثبت هذا فإن الأكل والشرب مما أجمع العلماء عليه، وقد ثبت في الكتاب والسنة أنه مفطر, فقد قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], وكذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه, فإنما أطعمه الله وسقاه ), وقد جاء في الحديث القدسي الذي قال الله فيه سبحانه وتعالى: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ), فهذا يدل على أن الأكل والشرب وكذلك الجماع -لأنه من الشهوة- مفطر.

ثم اختلف العلماء: ما معنى الأكل؟ فالأكل هو إيصال جامد إلى الجوف من الفم ولو بغير مضغ, ولو لم يتناول عادة, هذا لعله أقرب والله أعلم؛ لأن كل ما أتى في الشرع بلفظ ولم يحدده الشرع فإن العرف أو اللغة هي التي تحدده, فإن العرب تعرف أن الشخص إذا ابتلع خرزة فإنهم يقولون: أكل خرزة, وهذا يدل على أن من ابتلع حصاة أو خرزة ولو لم ينتفع منها البدن فإنه يكون داخلاً في عموم الأكل, وهو داخل في قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], ولا عبرة بالانتفاع, فإن السم لا ينتفع منه البدن, ومع ذلك يفطر بإجماع العلماء.

وأما الشرب فهو: إيصال مائع إلى الجوف ولو عن طريق الوجور, يعني: عن طريق الأنف مثلاً, فإن الأنف بإجماع الأطباء والفقهاء له منفذ إلى الجوف, بدليل ما رواه أبو داود و أحمد من حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).

فإذا ثبت هذا فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في مسألة ما إذا لم يكن أكلاً أو شرباً من حيث اللغة, ولكنه في معنى الأكل والشرب, مثل إذا استعطى بدهن أو غيره، فوصل إلى دماغه، فهل وصول الشيء إلى الدماغ أو وصول الشيء إلى الحلق يفطر، أم العبرة بدخوله إلى الجوف الذي فيه التغذية؟

في ذلك خلاف عند أهل العلم، فذهب أبو حنيفة و الشافعي و أحمد إلى أن كل ما وصل إلى الدماغ فإنه يفطر، فسواء وصل إلى الدماغ، أو وصل إلى الحلق، فإنه يفطر، وعلى هذا جعلوا الجوف يشمل الدماغ والحلق وإن كان طريقاً إلى الجوف الأعظم.

وذهب مالك إلى أن العبرة بالوصول إلى الحلق، فلو وصل إلى الدماغ ولم يصل إلى الحلق فلا عبرة به.

والقول الثالث في المسألة هو اختيار أبي العباس بن تيمية ، وعليه الفتوى في زماننا من مشايخنا الأفاضل، وهو أن العبرة بوصول الشيء إلى المعدة، الذي به تغذية البدن، فإذا وصل شيء إلى الدماغ، أو إلى الحلق، فلا يفطر الصائم، لكن إن وصل إلى الجوف فإنه يفطر؛ لأن الأنف له منفذ إلى الجوف، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، ومن المعلوم أن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام كما قال أبو العباس بن تيمية ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان مما يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة، وكان هذا مما اشتهر وعلم، فلما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقله أحد من الصحابة، لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف، علم أن هذا ليس مما أوجبه الله على الأمة، ومن المعلوم: أن الذين أوجبوا الفطر في مثل هذه الأشياء، إنما أوجبوها بالقياس، ومن المعلوم: أن القياس في مثل هذه الأشياء مما تختلف فيه الأنظار، فإن بعض العلماء رأى أن الكحل إذا وصل إلى الحلق فإنه يفطر بدعوى: أن للعين منفذاً، ومن المعلوم: أن الأطباء لا يرون أن للعين منفذاً، ثم إنهم قالوا: إذا تنخع الإنسان أو تنخم فوجد طعمه، فإنه يفطر، وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة لم يجز، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: لم يجز إفساد الصوم لمثل هذه الأقيسة لماذا؟ لأمور كثيرة:

أولاً: أن القياس وإن كان حجة إذا توفرت فيه شروطه وانتفت موانعه، لكننا يجب أن نعلم أن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص، فإذا جاء القياس موافقاً لما دل عليه النص، سواءً بدلالة ظاهرة أو دلالة خفية فإنه يقبل، أما إذا جاء القياس مخالفاً لما علمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الشيء، ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام، ولا واجب، وأن القياس المثبت لما خالف ظاهر القرآن أو ظاهر السنة يكون قياساً فاسد الاعتبار، أو قياساً فاسداً، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة.

الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، كما أشار إلى ذلك الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفي العلم بأن هذا مما لم يوجبه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على الأمة، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين عليه الصلاة والسلام الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس التطيب بالطيب الذي أجمع العلماء على أنه لا بأس بذلك، كذلك الإدهان وغيره.

ومن المعلوم: أن النص والإجماع أثبت الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائماً، وقياسهم على الاستنشاق أقوى الحجج الدالة على أن كل ما كان له منفذ: كالأنف والفم ونحو ذلك فإنه يدخل في الفطر، وما عدا ذلك فإنه ليس داخلاً فيه، وليس له منفذ إلى الجوف.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

هل يفهم من كلامكم -أحسن الله إليكم- أن ما ينفذ إلى الجسم إنما هما طريقان الأنف والفم فقط، أما العين فالصحيح أنها ليس لها منفذ إلى الحلق أو إلى الجوف؟

الشيخ: من المعلوم أن المنافذ أنواع: إما أن يكون منفذاً عن طريق الفم، وإما أن يكون منفذاً عن طريق الأنف، أو يكون منفذاً عن طريق العين، أو يكون منفذاً عن طريق الأذن، أو يكون منفذاً عن طريق القبل أو الدبر، هذه ستة أو خمسة منافذ، الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم: أن العبرة بما كان منفذاً في الأنف أو الفم أو الأذن إذا كانت الطبلة الوسطى قد انخرقت كما يقول الأطباء، فإن لها منفذاً، أما الأصل إذا كان الإنسان سليماً فإنها ليس لها منفذ، ولعلنا نؤخر التفصيل الدقيق في مثل هذه المسائل إلى حلقة أخرى؛ لتكون أكثر استيعاباً وأكثر شرحاً.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم سماحة الفضيلة! على هذا التوضيح والبيان لمجمل ما ذكر حول المفطرات، وأيضاً ما يمكن أن يقال فيما ينفذ إلى الجوف وهو أيضاً له تعلق كبير في الحكم بتفطير الصائم.

أشكر صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، في ختم هذا اللقاء، بعد شكر الله جل في علاه، وأشكر لكم أيضاً متابعتكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.