كلانا على الخير


الحلقة مفرغة

الركن الرابع من أركان الإيمان هو الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى الناس ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بهم، وقد ذكر الله تعالى بعض رسله في القرآن الكريم، ومن لم يذكرهم أكثر وأكثر، وقد دلت على هذا الركن العظيم الأدلة من الكتاب والسنة، كما دل العقل على ضرورة إرسال الرسل لدعوة الناس وهدايتهم، فيجب الإيمان بهم جميعاً، وأن خاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فهذه المحاضرة هي امتداد للدروس التربوية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي، وقد وعدت أن أستأنف هذه الدروس خلال الإجازة وتكون مفرقة على المراكز الصيفية داخل الرياض وخارجها، وبمشيئة الله سبحانه وتعالى مع بداية العام الدراسي تعود هذه الدروس إلى مكانها وزمانها.

وهذا هو الدرس الثامن وهو بعنوان: كلانا على خير، وقد اعتدت وأنا أحرص قدر الإمكان على أن يكون العنوان واضحاً، وتكون له دلالة واضحة على المضمون، حتى يعرف من يقرأ إعلان المحاضرة أو من يقرأ عنوان الشريط مضمون ما فيه، لكن هذه المحاضرة قد نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة حتى نحدد موضوعها.

وهذا العنوان عبارة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقد كتب إليه أحد العُبّاد يُنكر عليه اشتغاله بالعلم ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك رحمه الله: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُب رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.

فالإمام مالك يقول لصاحبه: إن الأعمال تتفاوت، والله سبحانه وتعالى قسم الأعمال بين الناس، فرُب رجل فُتح له في باب ولم يُفتح له في آخر، وإن كنت أنا على طريق وأنت على طريق آخر فكلانا على خير وبر، فكل هذه الطرق تؤدي إلى المقصود والمطلوب، وحين نلقي نظرة عجلى وسريعة على الجهود المبذولة لإحياء الأمة وإيقاظ الأمة نجد أن هناك أساليب متنوعة وطرقاً شتى.. فتجد من عُني بالعلم وأخذ على عاتقه إزالة غشاوة هذا الجهل المتفشي في الأمة، فسلك سبيل العلم تعلماً وتعليماً ودعوة إليه، ورأى أن إيقاظ الأمة إنما يكون من خلال هذا الباب.

والثاني رأى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فسخّر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة والعامة والخاصة فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يُسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله عز وجل العذاب عن الناس.

وثالث قد تألم لحال وواقع من استهواهم الشيطان فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخّر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم من خلال وسائل وطرق وأساليب شتى، فكل وقته وجهده مسخّر لأولئك الذين ضلوا عن صراط الله وسلكوا سبيل الانحراف والغواية.

ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية، فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع الأموال من فلان وفلان فينفقها في أوجه الخير على الأرامل والمحتاجين، ولنشر الدعوة والجهاد..، إلى غير ذلك من أبواب الإنفاق، فهذا شأنه وهذا ديدنه.

والخامس قد استهوته حياة الجهاد، فحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلما سمع هيعة لبى وطار) فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، ويوماً تراه هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح، ورأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأن الجهاد هو السبيل لرفع الذل عن هذه الأمة.

والسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً فسخّر جهده لدعوة غير المسلمين.

والسابع سخّر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابة وخطابة وتأليفاً فصار يتحدث عن مشكلات الأمة، وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله سبحانه وتعالى.

وآخر هؤلاء من رأى أن الأمة عدتها وأملها إنما هو في شبابها وجيلها الناشئ، فسخّر وقته لتربية الشباب، وإعدادها وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة، وهكذا ترى أبواباً من الخير، وألواناً من الخدمة لهذا الدين والدعوة له، أبواب واسعة تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفهامهم، فنتساءل هنا:

هل نضيق ذرعاً بهذه الاجتهادات؟ أم هل نرى أن هذا من الخلاف والتنافر والخلل؟ أم أن نبحث عن طريق واحد لأن الحق لا يتعدد، وصراط الله المستقيم إنما هو واحد، والسبيل لإنقاذ الأمة سبيل واحدة واضحة!

أو أن هناك منطقاً آخر من التفكير ينبغي أن نفكّر فيه هو أن هذه الجهود كلها مطلوبة، وهذه الجهود لا بد من القيام بها، فلا بد أن يقوم فلان بهذا العمل، والآخر بذاك، والثالث بالعمل الآخر..، وهكذا لا بد أن ندخل جميعاً من أبواب متفرقة، ولا بد أن نسد جميعاً هذه الثغور وأن نقف على هذه الفصول، قد نستعجل فنحكم بهذه النتيجة فنقول: إن هذا هو ما ينبغي أن نتعامل من خلاله مع مثل هذا الواقع، مع مثل هذه الجهود المبذولة للدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإحياء الأمة، فنتساءل حينئذ: لماذا نصل إلى هذه النتيجة؟ لماذا نقول إن هذه جهود خيّرة، وجهود مطلوبة؟ لا بد أن تُسلك جميعاً، وينبغي أن يسلك كل امرئ ميداناً من هذه الميادين، وأن لا يعيب بعضنا على بعض، فكلانا على خير وبر.

فننتقل إلى هذه النقطة وقد نطيل فيها قليلاً لأهميتها..

إذاً اتفقنا نحن على أن المطلوب هو أن نقبل هذه الاجتهادات جميعاً، وأن تقوم هذه الجهود جميعاً وتتضافر، وأن يكون لسان كل واحد من العاملين لهذا الدين على أي ثغر من هذه الثغور ما قال الإمام مالك رحمه الله: كلانا على خير وبر.

للأمور الآتية:

قول الله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)

أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد، بل لا بد أن ينفر من كل طائفة، ومن كل قوم، ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه طائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، ولن تخرج للجهاد إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها، بل إن هذا مسلك غير مطلوب أن تنفر الأمة جميعاً فيترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي.

اختلاف أبواب الجنة باختلاف الأعمال

ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه، فالحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة.. فيدعى كل امرئ من خلال عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما كان يؤدي الصلاة المفروضة! لا، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، لكن أولئك الذين اشتهروا بالصلاة من خلال الاستزادة من النوافل، فصار شأنه الذي يُشتهر به ويُعرف به الصلاة، والآخر قد أقبل على الصدقة، والآخر قد أقبل على الصيام..، وهكذا.

اختلاف الطاقات والمواهب البشرية

ثالثاً: الناس معادن وطاقات ومواهب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الناس يتفاوتون تماماً كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، فالمعدن مثلاً يُحصل عليه شائب يحتاج إلى تنقية فتجد أن ما تحصل عليه من هذا المعدن، قد تكون نسبة الشوائب فيه كبيرة، والآخر أقل، والآخر أكثر..، وهكذا.

ثم المعادن تتفاوت فيما بينها فالذهب له قيمة ليست كقيمة الفضة، والفضة لها قيمة ليست كقيمة سائر المعادن، ثم ما دون الذهب والفضة من المعادن يحتاج إليه فيؤدي، أدواراً لا يمكن أن تؤديها الذهب والفضة، فيستفاد من هذه المعادن في صناعات وأمور لا يمكن أن تغنينا عنها الذهب والفضة، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، وكذلك الناس يتفاوتون، وكما قال الله سبحانه وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف فكذلك تربيتهم، فمثلاً إنسان ولد في بادية ونشأ فيها وعاش فيها، والثاني عاش في قرية، والثالث عاش في مدينة.. لا شك أن منطق وتفكير هذا وشخصيته وعقليته تختلف عن منطق وتفكير الآخر، تختلف عن الثاني والثالث، وهكذا، إنسان عاش في عصر معين وآخر عاش في عصر آخر.. عاش في بيئة معينة تحكمها عادات اجتماعية وظروف اجتماعية أو اقتصادية معينة، لا بد أن تكون له طبيعة خاصة، وعقلية خاصة، أنت ترى مثلاً الآن أن أهل هذه البلاد يختلفون عن أهل تلك البلاد، يختلفون عن أهل البلاد الأخرى تبعاً لتربيتهم وظروفهم وحياتهم.

إذاً: فالناس يختلفون في معادنهم وقدراتهم واستعداداتهم ابتداء، ويختلفون أيضاً من ناحية تربيتهم وتنشئتهم والظروف التي يعايشونها، وقد كان السلف كذلك يتفاوتون فيقول ابن المبارك : رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض ، وأعلم الناس سفيان الثوري ، وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله.

وقال أبو عبيد : انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أحفظهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له..

وجود الاختلاف في الخير بين الصحابة

رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).

الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام..، إلى غير ذلك من أبواب الخير.

فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر ؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر ، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها.

علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً. قلنا: أبو موسى ؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة ؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. قالوا: سلمان ؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبو ذر ؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).

خالد بن الوليد يمنعه الجهاد عن كثير من القراءة

نريد أن نقف الآن عند نموذجين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو ذر ..

خالد بن الوليد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وله مناقب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيف من سيوف الله، ونعم أخو العشيرة، ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا. أي أنه كان لا يقدم عليهما أحداً، والحديث رواه الطبراني .

و خالد رضي الله عنه كما في الصحيحين احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يبحث عن خالد رضي الله عنه فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند.

خالد هو الذي يقول عبارته المشهورة: ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب بأحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح فيها العدو.

وهو القائل: لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف وطعنة من رمح.. إلى آخر الحديث.

خالد رضي الله عنه يقول قيس بن أبي حازم عنه: سمعت خالداً يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة. ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح.

إذاً خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه المناقب وهذه الفضائل وصار سيفاً من سيوف الله، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية في العراق، وكان له دور كبير أيضاً مع الروم في غزوة اليرموك، وقبل ذلك كان له دور في تأديب المرتدين، ومع ذلك لا تكاد تجد فتوى لـخالد رضي الله عنه، ويندر أن تجد له قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، بل إنه قد قال: (لقد منعني الجهاد كثيراً من قراءة القرآن) ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بهم إماماً فأخطأ في قراءته، فها هو مثلاً خالد رضي الله عنه قد نبغ في هذا الميدان وبرز في هذا الميدان، ولا شك أنه قد فاته ما حصّله أُبي بالقراءة، وما حصّله معاذ بعلم الحلال والحرام، وما حصله ابن عباس بالتأويل وفقه الكتاب، وما حصّله سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سائر أبواب الخير، ولكن هذا لن ينقص شأنه ومكانته وفضيلته.

أبو ذر قوال للحق ضعيف في الإمارة

أبو ذر رضي الله عنه يقول عنه الذهبي : كان أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه.

أبو ذر رضي الله عنه إمام في الزهد وهذا لا يخفى، وكذلك كان مشهوراً بقول الحق، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم).

أبو ذر رضي الله عنه له عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: (أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف- وأشار إلى رقبته، فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها) وهذه العبارة مشهورة وقد أوردها البخاري في كتاب العلم تعليقاً.

إذاً فهو رضي الله عنه كان إماماً في الزهد، وكان قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، عنده استعداد أن أن يقول الحق حتى لو وضعوا السيف على رقبته واستطاع أن يقول في هذه الفرصة كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم لقالها رضي الله عنه، وورد من الثناء عليه أنه أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) فمع هذه الفضائل له، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه أن يتأمر على اثنين، وأن يتولى على مال يتيم؛ لأنه لا يصلح لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الآن هنا كون أبي ذر رضي الله عنه لا يتولى هذا المقام، أو لا يصلح لهذا الميدان هل يعني أنه قد أفلس من كل المقومات؟ وهل يعني أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعد مؤهلاً أن يقدم خيراً للمسلمين؟ لا، فليس هذا هو المقياس، إن المقياس مقياس آخر، فلكل ميدانه.

اختلاف ابن عباس وأبي هريرة في مراتب العلم

ابن القيم رحمه الله يعقد مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة فيقول: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير.

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الأمة، لا يمكن أن يفوته حديث كما قال عن نفسه في البخاري ، قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط رداءك قال: فبسطت ردائي فقال بيديه هكذا، فضممته إلى صدري فما نسيت شيئاً سمعته بعد ذلك)، فـأبو هريرة أحفظ الأمة على الإطلاق، لكنه في الفقه والاستنباط والفتاوى ليس مثل ابن عباس ، كما أن ابن عباس رضي الله عنه ليس في الحفظ مثل أبي هريرة .

إذاً فهذا له ميدان وذاك له ميدان آخر، حتى داخل الإطار الواحد كإطار العلم حتى وجدنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبغ وبرز في الجهاد، والآخر برز في الزهد، والثاني في الرحمة بالأمة، والثالث في الشدة في الحق.. إلى غير ذلك، وعندما نأتي إلى دائرة واحدة وميدان واحد نجد أيضاً أنه داخل هذا الميدان الواحد يوجد تفاوت، ففي ميدان العلم هذا أحفظ وذاك أفقه.

أمر وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ولا شك أن يسع غيرهم وسواهم.

اختلاف الوصايا النبوية بحسب الأشخاص

خامساً: كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفدون إليه فيستوصونه فيوصيهم فيقول لأحدهم: (لا تغضب) ويقول للثاني: (كلما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول للثالث: (لا تسبن أحداً) ويقول للرابع كذا، والخامس كذا.. وهكذا تجد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مختلفة بل تراه يوصي أحدهم أن يوتر قبل أن ينام، ويوصي الآخر أن يقوم الليل.. الشاهد أن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص إلى آخر، وأيضاً كثير ما كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟) أو (أي الإسلام خير؟) فيجيب هنا بإجابة وهناك بإجابة أخرى، ومن أشهر ما قيل في الجمع والتوفيق بين هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن فلاناً تصلح له هذه الوصية، والآخر كذلك، والثالث كذلك، فلم يوص الجميع صلى الله عليه وسلم بوصية واحدة لاختلاف الناس وتفاوتهم.

بل النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس يسلمون، فمنهم من يجلس ويبقى عنده في مكة، ومنهم من يوصله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم للإسلام، وذلك أن الناس كما قلنا يختلفون ويتفاوتون.

عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة

سادساً: عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة.

الانحراف والخلل في واقع الأمة هائل ليس في جانب واحد أو مجال واحد فقط، فأنت ترى مثلاً الانحراف في الحكم، فالأمة تحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وتراه في الاعتقاد الأمة حيث تمنح ولاءها لأعداء الله عز وجل، وكل ألوان الشرك وأصنافه تجدها منتشرة في هذه الأمة، وانتشر فيها الجهل والفساد الأخلاقي، والأمية، والفقر، والتخلف..، إلى غير ذلك من مجالات وأبواب الخلل في واقع هذه الأمة، وبناء عليه عندما تتسع أبواب الخلل وأبواب الانحراف لا بد أن تتسع أبواب الدعوة.

فنحتاج إلى باب مثلاً عندنا خلل في باب العقيدة والاعتقاد، فلا بد أن يتجرد من هذه الأمة من يُعنى بتصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات والتوسع في ذلك تعلماً وتعليماً ودعوة.

عندنا خلل فكري فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، عندنا خلل في الجانب الأخلاقي فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، خلل في الجانب السلوكي فقط، مشاكل اجتماعية، مشاكل اقتصادية، قضايا كثيرة تحتاج في كل ميدان إلى جهود كثيرة وإلى أشخاص يتفرغون لها، ومن ثم فمع سعة شقة الانحراف والخلل في واقع الأمة لا بد أن تتوسع مجالات الدعوة ومجالات محاولة إنقاذ الأمة.

العصر الذي نعيشه يتطلب ذلك

سابعاً: نحن نعيش في عصر، فلا بد أن نعيش عصرنا، ولا بد أن نفكر بعقلية عصرنا، ولا شك أن هذا فيما لا يعارض أمر الله سبحانه وتعالى، العصر عصر التخصص، وفي السابق قد يكون الرجل موسوعة فتراه يقوم على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها وصار الناس على مبدأ التخصص، فلماذا لا يتخصص فلان مثلاً بالعناية في جانب من جوانب العلم الشرعي، والآخر في الجانب الثاني، والآخر في الجانب الثالث.. ويتخصص الرابع في مشاكل الأمة الاجتماعية، فيحل مشاكل الناس وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الخامس في دعوة المنحرفين والضالين، ويتخصص السادس في قضية المرأة، والرابع في القضايا الفكرية، والخامس، والسادس..، وهكذا كل امرئ في ميدانه وفنه.

الحاجة إلى التكامل

ثامناً: سنأخذ مثالاً يعطينا صورة واضحة عن الحاجة إلى التكامل: لو كان عندنا جيش فإننا سنحتاج إلى مجموعة في القيادة والمقدمة، وفي مواجهة العدو وجهاً لوجه، ونحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، وسنحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، مجموعة يقومون بنقل الذخائر، مجموعة للتمويل بنقل المواد الغذائية، مجموعة طباخين يقومون بخدمة الجيش، وأناس يغسلون الثياب، ومجموعة يحرسون بلاد المسلمين ويحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا من خلفهم، ومجموعة يخلفون الغازين، فأنت ترى الآن أبواباً مختلفة ومتفاوتة فهذا شخص يقف في مقابل العدو والشخص الآخر ليخلف الغازي في أهله ويبقى في بيته، فإذا قال الجالس في منزله ليخلف الغازي: لقد ذهب الناس في الجهاد وبقيت أنا مع النساء والعجزة فلا بد أن أذهب، وقال الذي يعد الطعام كذلك يقول، وقال الذي يقوم بإعداد الذخيرة كذلك، وهكذا؛ فإنه لا يمكن أن يقوم هذا الجيش، لأن الجيش لا يقوم إلا عندما تتكامل هذه الجهود، ومن هذه الجهود من يقعد لا جبناً ولا خوفاً إنما يقعد ليخلف هؤلاء في أهليهم، وحتى لا تؤتى البلاد عن غرة، فترى أنت الآن أن هذا الواجب وهذه المعركة لا يمكن أن تقوم إلا بتكامل جهود متفاوتة ما بين قائد فذ عبقري داهية ورجل شجاع، وبين إنسان مهمته إعداد الطعام فقط، وإنسان مهمته قيادة شاحنات، وإنسان مهمته أن يبقى حتى يحرس.. فهكذا تتكامل هذه الجهود، ويمكن أن نشبه نحن أبواب الدعوة أو واقع الدعوة في بلد محاصرة يعني افترض الآن أن هذه القرية محاصرة، فهنا حصن في هذه الزاوية، وحصن في هذه الزاوية، وحصن في الزاوية الأخرى، وحصن في الزاوية الأخرى.. قد يكون العدو من هذه الجهة فهؤلاء الآن في مقابل العدو؛ لكن نحتاج إلى من يقف هنا، ومن يقف هناك، ومن يقف في الميدان الآخر، ونحتاج إلى من يقف في داخل المدينة ويتجول فيها حتى لا يستغل الوضع مثل اللصوص والسُرّاق وقطّاع الطريق، فأنت ترى الآن الجهود مختلفة ومتفاوتة وكلها مطلوبة، ولا يصح أن يأتي الشخص الذي وقف في وجه العدو ويقول: أنتم جبناء أنا أجلس مقابل العدو وأنت جالس تحرس في الخلف! لا، ويقول: أنا أفضل لأني أواجه العدو! لا، الجميع يؤدون مهمة واحدة، ويؤدون دوراً واحداً ولا يمكن أن تقوم هذه القضية إلا بهذا التكامل.

فكذلك حراسة الأمة وحماية الأمة والدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإنقاذ الأمة لا بد أن نأخذ نحن جميعاً بهذه الجوانب كلها، هذه الطاولة الآن التي أمامنا لو أردنا أن نرفعها مثلاً واجتمع الجميع كلهم يريدون أن يرفعوها من هذه الجهة، فلا يمكن أن ترتفع، أو ترتفع بوضع غير مستقيم، طيب لو أتى من هنا مثلاً أربعة، ومن هنا واحد فقط ومن هنا واحد أيضاً فسيكون هناك خلل، لكن عندما تتوزع الجهود بشكل متوازن يمكن أن نرفعها، فكذلك هذه الأمة المصابة بهذا الخلل لا بد أن تتضافر الجهود جميعاً وأن تتوزع حتى تقوم هذه الأمة، أما إذا اعتنينا بجانب واحد وركزنا على جانب واحد فلا بد أن يكون هناك خلل ولا يمكن أن تنهض الأمة النهوض المراد.

السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا

تاسعاً وأخيراً: السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فترى عبارات للسلف قديماً وحديثاً تدل على ذلك، ومنها ما سقناه في بداية المحاضرة عن الإمام مالك رحمه الله، وجاء أحدهم إلى الخليل بن أحمد ليتعلم العروض فأحس الخليل بن أحمد أن هذا ليس عنده استعداد لأن يتعلم عروض، فأعطاه بيتاً يقطّعه قال:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

ففهم الرجل المقصود وأنه لا يناسب له علم العروض فاتجه إلى علم النحو ونبغ فيه وكان من النحاة.

نلاحظ أن الخليل بن أحمد يوجه إلى أنه ليس الميدان واحداً، والعروض أصلاً علم محدود، ولد جملة واحدة أنشأه الخليل بن أحمد ، يمكن أن يحيط به الإنسان في وقت يسير، ومع ذلك مثلاً هذا الرجل لم يستطع، لكن لا يعني أنه قد أصبح فاشلاً فأمامه ميدان آخر ومجال آخر، فاتجه إلى الميدان الآخر واستطاع أن ينبغ فيه.

و الأعمش كان إذا قيل له حدث قال: لا يقلد العلم الخنازير، يعني: ليس كل واحد مؤهلاً أن يُعطى العلم، فالعلم لا يُعطى إلا لمن يستحقه.

يقول ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود: ومما ينبغي أن يتعهد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، أي: إذا كان هذا الطفل متهيئاً لهذا العمل بشرط أن يكون مأذوناً فيه شرعاً فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يُفلح وفاته ما هو مهيأ له.

يعني ابن القيم أن على الأب أن ينظر إلى حال الصبي، ويعرف استعدادات الصبي والأمور التي يتهيأ لها الصبي فيوجهه إلى هذا الميدان، فإذا كان الصبي عنده حفظ وعقل يمكن أن يوجه إلى العلم، وإذا كان عنده همّة ونشاط وعمل لكنه ليس متوجهاً للحفظ فينبغي أن يوجه إلى ميدان آخر، كذلك الأستاذ ينبغي أن يوجه طالبه هذه الوجهة، والمربي ينبغي أن يوجه من تحته هذه الوجهة، فينظر ما هو مستعد له فيوجهه إليه، وله عبارة طويلة يمكن أن نقرأها في مدارج السالكين:

يقول: فإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويُفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].

ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبن وخسر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره.

ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فُتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.

ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله.

ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وأعظم أوراده.

ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه.

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر.

وأيضاً يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قول الله عز وجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور.

أظن أن هذه المؤيدات التي سردنا تكفي لأن تعطينا القناعة بأن هذه الطرق كلها يجب أن تُسلك جميعاً، وأن لا يعتب بعضنا على بعض، وأن هذه الطرق على مستوى الأمة مطلوبة جميعاً، لكن على مستوى الأفراد مطلوب من كل امرئ أن يقوم بباب وأن يسد ثغراً من هذه الثغور.

أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد، بل لا بد أن ينفر من كل طائفة، ومن كل قوم، ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه طائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، ولن تخرج للجهاد إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها، بل إن هذا مسلك غير مطلوب أن تنفر الأمة جميعاً فيترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي.

ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه، فالحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة.. فيدعى كل امرئ من خلال عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما كان يؤدي الصلاة المفروضة! لا، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، لكن أولئك الذين اشتهروا بالصلاة من خلال الاستزادة من النوافل، فصار شأنه الذي يُشتهر به ويُعرف به الصلاة، والآخر قد أقبل على الصدقة، والآخر قد أقبل على الصيام..، وهكذا.

ثالثاً: الناس معادن وطاقات ومواهب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الناس يتفاوتون تماماً كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، فالمعدن مثلاً يُحصل عليه شائب يحتاج إلى تنقية فتجد أن ما تحصل عليه من هذا المعدن، قد تكون نسبة الشوائب فيه كبيرة، والآخر أقل، والآخر أكثر..، وهكذا.

ثم المعادن تتفاوت فيما بينها فالذهب له قيمة ليست كقيمة الفضة، والفضة لها قيمة ليست كقيمة سائر المعادن، ثم ما دون الذهب والفضة من المعادن يحتاج إليه فيؤدي، أدواراً لا يمكن أن تؤديها الذهب والفضة، فيستفاد من هذه المعادن في صناعات وأمور لا يمكن أن تغنينا عنها الذهب والفضة، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، وكذلك الناس يتفاوتون، وكما قال الله سبحانه وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف فكذلك تربيتهم، فمثلاً إنسان ولد في بادية ونشأ فيها وعاش فيها، والثاني عاش في قرية، والثالث عاش في مدينة.. لا شك أن منطق وتفكير هذا وشخصيته وعقليته تختلف عن منطق وتفكير الآخر، تختلف عن الثاني والثالث، وهكذا، إنسان عاش في عصر معين وآخر عاش في عصر آخر.. عاش في بيئة معينة تحكمها عادات اجتماعية وظروف اجتماعية أو اقتصادية معينة، لا بد أن تكون له طبيعة خاصة، وعقلية خاصة، أنت ترى مثلاً الآن أن أهل هذه البلاد يختلفون عن أهل تلك البلاد، يختلفون عن أهل البلاد الأخرى تبعاً لتربيتهم وظروفهم وحياتهم.

إذاً: فالناس يختلفون في معادنهم وقدراتهم واستعداداتهم ابتداء، ويختلفون أيضاً من ناحية تربيتهم وتنشئتهم والظروف التي يعايشونها، وقد كان السلف كذلك يتفاوتون فيقول ابن المبارك : رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض ، وأعلم الناس سفيان الثوري ، وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله.

وقال أبو عبيد : انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أحفظهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له..

رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).

الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام..، إلى غير ذلك من أبواب الخير.

فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر ؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر ، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها.

علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً. قلنا: أبو موسى ؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة ؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. قالوا: سلمان ؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبو ذر ؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).

نريد أن نقف الآن عند نموذجين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو ذر ..

خالد بن الوليد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وله مناقب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيف من سيوف الله، ونعم أخو العشيرة، ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا. أي أنه كان لا يقدم عليهما أحداً، والحديث رواه الطبراني .

و خالد رضي الله عنه كما في الصحيحين احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يبحث عن خالد رضي الله عنه فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند.

خالد هو الذي يقول عبارته المشهورة: ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب بأحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح فيها العدو.

وهو القائل: لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف وطعنة من رمح.. إلى آخر الحديث.

خالد رضي الله عنه يقول قيس بن أبي حازم عنه: سمعت خالداً يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة. ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح.

إذاً خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه المناقب وهذه الفضائل وصار سيفاً من سيوف الله، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية في العراق، وكان له دور كبير أيضاً مع الروم في غزوة اليرموك، وقبل ذلك كان له دور في تأديب المرتدين، ومع ذلك لا تكاد تجد فتوى لـخالد رضي الله عنه، ويندر أن تجد له قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، بل إنه قد قال: (لقد منعني الجهاد كثيراً من قراءة القرآن) ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بهم إماماً فأخطأ في قراءته، فها هو مثلاً خالد رضي الله عنه قد نبغ في هذا الميدان وبرز في هذا الميدان، ولا شك أنه قد فاته ما حصّله أُبي بالقراءة، وما حصّله معاذ بعلم الحلال والحرام، وما حصله ابن عباس بالتأويل وفقه الكتاب، وما حصّله سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سائر أبواب الخير، ولكن هذا لن ينقص شأنه ومكانته وفضيلته.

أبو ذر رضي الله عنه يقول عنه الذهبي : كان أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه.

أبو ذر رضي الله عنه إمام في الزهد وهذا لا يخفى، وكذلك كان مشهوراً بقول الحق، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم).

أبو ذر رضي الله عنه له عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: (أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف- وأشار إلى رقبته، فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها) وهذه العبارة مشهورة وقد أوردها البخاري في كتاب العلم تعليقاً.

إذاً فهو رضي الله عنه كان إماماً في الزهد، وكان قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، عنده استعداد أن أن يقول الحق حتى لو وضعوا السيف على رقبته واستطاع أن يقول في هذه الفرصة كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم لقالها رضي الله عنه، وورد من الثناء عليه أنه أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) فمع هذه الفضائل له، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه أن يتأمر على اثنين، وأن يتولى على مال يتيم؛ لأنه لا يصلح لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

الآن هنا كون أبي ذر رضي الله عنه لا يتولى هذا المقام، أو لا يصلح لهذا الميدان هل يعني أنه قد أفلس من كل المقومات؟ وهل يعني أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعد مؤهلاً أن يقدم خيراً للمسلمين؟ لا، فليس هذا هو المقياس، إن المقياس مقياس آخر، فلكل ميدانه.

ابن القيم رحمه الله يعقد مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة فيقول: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير.

فهذا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الأمة، لا يمكن أن يفوته حديث كما قال عن نفسه في البخاري ، قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط رداءك قال: فبسطت ردائي فقال بيديه هكذا، فضممته إلى صدري فما نسيت شيئاً سمعته بعد ذلك)، فـأبو هريرة أحفظ الأمة على الإطلاق، لكنه في الفقه والاستنباط والفتاوى ليس مثل ابن عباس ، كما أن ابن عباس رضي الله عنه ليس في الحفظ مثل أبي هريرة .

إذاً فهذا له ميدان وذاك له ميدان آخر، حتى داخل الإطار الواحد كإطار العلم حتى وجدنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبغ وبرز في الجهاد، والآخر برز في الزهد، والثاني في الرحمة بالأمة، والثالث في الشدة في الحق.. إلى غير ذلك، وعندما نأتي إلى دائرة واحدة وميدان واحد نجد أيضاً أنه داخل هذا الميدان الواحد يوجد تفاوت، ففي ميدان العلم هذا أحفظ وذاك أفقه.

أمر وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ولا شك أن يسع غيرهم وسواهم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2584 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2320 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
الطاقة المعطلة 2116 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع
من حق إخوتنا علينا 2067 استماع