الطاقة المعطلة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فعنوان هذه المحاضرة: الطاقات المعطلة، ولعلي أتمثل بقول الأميري رحمه الله:

قم وجه اللاهين بالذكرى إلى النهج القويم

فالمجد ليس ينال بالدعوى أو الصوت الرخيم

عبء الرسالة ليس لهواً إنه عبء جسيم

القول دون الفعل لا يهدي الصراط المستقيم

هذا الموضوع أيها الإخوة! أحسب أنه يحتاج إلى غيري، وأرى أنني عندما أتجشم نقاش هذا الموضوع، ووضع الحلول له، أنني أرتقي مرتقى لست أهلاً له، ولذا فإني لن أتجاوز قدر إثارة الموضوع، وطرح أو اقتراح بعض الحلول، والتي ليست إلا حلولاً عاجلة وآنية، وأرى الموضوع يستحق أكثر من ذلك.

وهنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى العمق والموضوعية في طرح قضايا الصحوة وقضايا الدعوة؟ ألا تدركون معي أن الكثير من الموضوعات الأساسية والجوهرية التي تهم الدعوة وتهم الصحوة إنما تطرق ارتجالاً، فهي خواطر يعدها محاضر استجابة للإلحاح عليه من فلان، أو هي خواطر عاجلة يسطرها أيضاً في صحيفة أو في كتيب.

وقد يكون أيضاً الدافع وراء ذلك ليس هو القناعة بهذه الفكرة، أو الشعور بضرورة طرحها، وإنما نتيجة لإملاء أو ضغوط، فيحصل في الواقع كثير من حالات الإجهاض الفكري لكثير من قضايا الدعوة وقضايا الصحوة، فتطرح طرحاً آنياً، وطرحاً سطحياً لا يتناسب مع عمق وأهمية الموضوع.

وهنا لست أقلل أيها الإخوة! من الجهود المبذولة، ولا مما يطرح سواء مما يطرحه الإخوة المحاضرون، أو الكتّاب أو غيرهم، بل هناك لا شك أطروحات فعلاً على مستوى ما نحتاج إليه، لكن أشعر أن هناك قضايا كثيرة هي أكبر أصلاً من مفكر واحد، وأكبر من رجل واحد، فيحتاج إلى أن يتنادى إليها عقلاء القوم، وأن يطرح كل ما عنده.

ألا تستحق قضايا الصحوة أن تعقد لأجلها مؤتمرات وندوات وبحوث لعلاج مثل هذه القضايا التي تعنينا؟ ومن نريد أن يعنى بأمراضنا، ويعنى بتصحيح مسيراتنا إلا نحن؟!

فليس من المنطق، ولا من المقبول لا شرعاً ولا عقلاً بأي مقياس أو بأي منطق؛ ليس من المقبول أن تكون حلولنا وأطروحاتنا وعلاجنا لقضايا الصحوة، والقضايا الجوهرية حلولاً سطحية.

وأظن أن هذا الكلام مؤيداً لما قلته قبل قليل، مؤيداً لما قلته أن هذا الموضوع أشعر وأجزم أنه أكبر من حجمي بكثير، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو فقط إثارة هذا الموضوع، والعناية به.

أن الواجب الشرعي في الدعوة والتغيير الأمة كلها مخاطبة به

نحن في مسيرتنا لتصحيح الواقع، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى طاقات أكثر من الطاقات العاملة الآن بكثير، ونشعر أن هناك طاقات هائلة معطلة يجب أن تستثمر وأن تستغل.

فنحن نحتاج إلى هذه الطاقات؛ نظراً لأن الواجب الشرعي أصلاً في الدعوة والتغيير مخاطبة به الأمة جمعاء، فكل النصوص التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله عز وجل هي خطاب للأمة كافة، وليست خطاباً لجيل الصحوة وحدهم، ولا للعلماء وحدهم، وللدعاة دون غيرهم.

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الواجب -يعني: واجب الدعوة- واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقي.

ولا أظن أن أحداً الآن يجادل أو يشك في أن واجب الدعوة لم تقم به الطائفة التي نذرت نفسها وبذلت جهدها له، لا لأجل التقصير منها، وإن كان البشر لا يخلو من التقصير، ولكن لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدرتها، فلا نقول: قام به من يكفي إلا عندما تصحح الأخطاء الموجودة في المجتمعات الإسلامية فعلاً، ويصل المسلمون إلى ما يسعون إليه من إقامة الحكم لله سبحانه وتعالى، وإقامة الدولة على شرع الله عز وجل، وإقامة واقع الناس على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فما دام لم يتحقق هذا الواجب، فلا زالت الأمة كلها جميعاً مخاطبة بهذا الواجب.

إذاً: فالأصل شرعاً أن تعمل كل هذه الطاقات لخدمة هذا الدين، وللدفاع عن الأمة، ولإعادة واقع الأمة إلى الواقع الشرعي.

ضخامة الفساد والانحراف في الأمة يفرض ضرورة تكاتف جهود وطاقات الأمة

الأمر الثاني: أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين بقدر من الضخامة فلا يمكن أن يقوم بإزالته الدعاة فقط وحدهم ما لم تسر الأمة وراءهم، ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا جماعة ولا فئة من الناس، فهو أكبر بكثير من طاقات هؤلاء.

فالانحراف في العقيدة، والانحراف في المفاهيم والتصورات، والجهل بأحكام الدين، والانحراف في السلوك، وأبواب ومجالات الخلل في واقع الأمة وواقع المجتمع مجالات واسعة أكبر من أن يحيط بها، أو أن يسد هذه الأبواب وهذه الثغرات الداعية فلان أو فلان، أو حتى جماعة من الجماعات، أو فئة من الفئات، فما لم تتضافر الجهود، وتعمل كافة طاقات الأمة على درء هذا الفساد، فسنظل نسير سير السلحفاة.

اختلاف طاقات الناس وتخصصاتهم يوجب تكاتف جميع طاقات المجتمع

كذلك الأمر الثالث أيضاً الذي يدعونا إلى ضرورة تشغيل كافة الطاقات والعناية بها: اختلاف طاقات الناس، وتخصصاتهم، وقدراتهم، فالناس مثلاً منهم العالم ذو العقلية العلمية الفذة الذي يستطيع أن يؤصل المسائل الشرعية، ويستطيع أن يعلم الناس، ومنهم الواعظ الزاهد الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس، وقد يصل إلى قلوب الناس ما لا يصل إليه العالم، ومنهم الخطيب، ومنهم المفكر، ومنهم أصحاب المواهب والطاقات المتنوعة، وكل هذه الطاقات نحتاج إليها، والأمة كل الأمة، المفكرين، المثقفين، المتعلمين، الأميين، النساء، كل طبقات المجتمع بحاجة إلى من يخاطبها بهذا الدين.

وطبقات المجتمع وشرائح المجتمع طبقات متفاوتة، فتحتاج إلى أنواع وألوان من الخطاب، وإلى أنواع من القدرات، ولذا فإن الأمة تحتاج إلى كل طاقة وكل قدرة، فكل إنسان يملك موهبة، وكل إنسان بارع في أي تخصص له مجال مفتقر إليه، وقد لا يقوم به غيره.

ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم

الأمر الرابع: أن الدعاة وحدهم والقادة وحدهم لا يمكن أن يصنعوا شيئاً:

وهذا ليس شأن هذه الأمة فقط بل الأمم السابقة كذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].

فهذا النبي ما قام وحده، وهذا النبي ما قاتل وحده وإنما قاتل معه ربيون كثير، وعندما يتخلى هؤلاء عن النبي فقد لا يصنع شيئاً، أعني: أنه قد لا يتحقق له النصر والتمكين في دار الدنيا، ونجد مصداق ذلك في قصة موسى مع بني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:20-21].

فدعا موسى بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: الأرض المقدسة مكتوبة لهم فيحتاج الأمر إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة فقط، فرفض بنو إسرائيل أن يستجيبوا لدعوة موسى، فقام رجلان بواجب المناصرة والتأييد لموسى، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، فالقضية تحتاج فقط إلى مجرد الدخول على القوم الجبارين، وحينئذٍ إذا دخلتموه فإنكم غالبون، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].

وحينئذٍ صرحوا بأنهم لا يملكون أي استعداد إطلاقاً لدخول الأرض المقدسة، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24] فحتى ما قالوا: اذهب أنت وربنا، أو أنت والله سبحانه وتعالى، وإنما بلغ سوء أدبهم مع موسى أن قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فالقضية ما تعنيهم، القضية تعني موسى، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] يعني: نحن عندنا استعداد أن ننتظر الآن في هذا المكان، واذهب أنت وقاتل، وإذا فتحت المدينة حينئذٍ لدينا استعداد أن ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.

فقال موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25].

وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26].

وحرمت عليهم أربعين سنة، وبقوا في التيه أربعين سنة، ثم ولدت ذرية تربت على القسوة، وعلى الجدية، وتركت حياة الذل والاستعباد، فلما جاء بهم يوشع بن نون خطب بهم فقال: لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يدخل بها وهو ينتظر أن يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى داراً وهو ينتظر أن يسكنها، ثم ذكر كل ما يقطع الناس ويعلقهم في الحياة الدنيا، فجاء بهذه الصفوة، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، وكانت الشمس ستغيب على ليلة السبت، وقد حرم عليهم القتال يوم السبت، ففتح الله عليهم.

إذاً: مع وجود موسى، ومع وجود هارون، ومع وجود الرجلين اللذين يخافان الله سبحانه وتعالى، مع ذلك عندما تخلى الأقوام لم ينتصر موسى، ولم يدخل الأرض المقدسة.

الشاهد هنا: أن الداعية وحده، أو القائد وحده لا يمكن أن يصنع شيئاً ما لم تسر الأمة وراءه، وما لم يكن معه ربيون كثير، يقاتلون في سبيل الله، ولا يهنون، ولا يستكينون، ولا يضعفون لما أصابهم في سبيل الله.

ولذلك يقول الشافعي عن الليث بن سعد : كان الليث أفقه من مالك ، ولكن لم يكن له أصحاب يقومون بفقهه، فـالليث بن سعد على الأقل في رأي الإمام الشافعي أفقه من مالك ، ومالك أخذ شهرة ومكانة وأتباع لم يأخذها الليث بن سعد ، بل لعلك -للأسف- تجد بعض طلبة العلم قد لا يعرف من هو الليث بن سعد ! فما الذي جعل مالكاً يقوم وينتشر مذهبه؟ أنه كان له أصحاب يقومون بمذهبه، فمع أن الليث بن سعد أعلم منه إلا أن علمه لم يكتب له البقاء؛ لأنه لم يكن هناك من يقوم بعلمه، ولم يكن هناك من يسير وراء الليث بن سعد كما كانوا مع الإمام مالك رحمه الله.

تكاتف جميع طاقات الأمة لصد مكر الأعداء وعدوانهم

الأمر الخامس: أنه عندما تعمل كل الطاقات، وعندما يسير الجميع في ركاب الصحوة، فستفوت الفرصة على المتربصين بالأمة الدوائر وما أكثرهم، وهاأنتم الآن ترون مصارع إخوانكم في كافة أنحاء العالم الإسلامي، والقوم هم القوم، تشابهت قلوبهم، والقضية واحدة، فقد يختلف التوقيت، وقد يختلف الأسلوب، لكن يجب أن تعلموا حقيقة لا شك فيها أن الأعداء يكيدون لهذه الصحوة، ويتآمرون عليها.

فعندما تكون الصحوة محصورة في إطار معين، وفي فئات معينة فإنه يسهل على الأعداء أن يضربوا هذه الصحوة، ويسهل على الأعداء أن يصنعوا ما يشاءون، لكن عندما تتحول الصحوة إلى تيار جارف، وعندما يكون على الأقل المتعاطفون مع الصحوة جزءاً منها وأناساً عاملين، عندما ننجح فعلاً في توظيف هؤلاء فإننا نفوت فرصة ثمينة على هؤلاء الأعداء فلن يستطيعوا أن يضربوا الصحوة؛ لأنهم حينئذٍ سيواجهون المجتمع، وسيواجهون الأمة بدلاً من أن يواجهوا مجموعة يخيلون للناس أنهم متطرفون، أو أصوليون، أو غلاة، أو غيرها من المصطلحات التي يطلقونها على هؤلاء.

أقول: إذاً لهذه الأمور الخمسة ولغيرها كان لابد من أن تستثمر كافة هذه الطاقات، فالفساد واسع ولا يمكن أن يحيط به آحاد من الناس، والناس طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم تختلف، وكذلك القائد والداعية والموجه للأمة ما لم يسر وراءه أتباعه ويقفوا وراءه، ويشعروا أنهم جزء منه فلا يستطيع أن يصنع شيئاً.

كذلك لا شك أن استغلال هذه الطاقات، وتشغيل هذه الطاقات فيه تفويت وقطع للطريق على الأعداء الذين يتربصون بالصحوة.

نحن في مسيرتنا لتصحيح الواقع، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى طاقات أكثر من الطاقات العاملة الآن بكثير، ونشعر أن هناك طاقات هائلة معطلة يجب أن تستثمر وأن تستغل.

فنحن نحتاج إلى هذه الطاقات؛ نظراً لأن الواجب الشرعي أصلاً في الدعوة والتغيير مخاطبة به الأمة جمعاء، فكل النصوص التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله عز وجل هي خطاب للأمة كافة، وليست خطاباً لجيل الصحوة وحدهم، ولا للعلماء وحدهم، وللدعاة دون غيرهم.

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الواجب -يعني: واجب الدعوة- واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقي.

ولا أظن أن أحداً الآن يجادل أو يشك في أن واجب الدعوة لم تقم به الطائفة التي نذرت نفسها وبذلت جهدها له، لا لأجل التقصير منها، وإن كان البشر لا يخلو من التقصير، ولكن لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدرتها، فلا نقول: قام به من يكفي إلا عندما تصحح الأخطاء الموجودة في المجتمعات الإسلامية فعلاً، ويصل المسلمون إلى ما يسعون إليه من إقامة الحكم لله سبحانه وتعالى، وإقامة الدولة على شرع الله عز وجل، وإقامة واقع الناس على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فما دام لم يتحقق هذا الواجب، فلا زالت الأمة كلها جميعاً مخاطبة بهذا الواجب.

إذاً: فالأصل شرعاً أن تعمل كل هذه الطاقات لخدمة هذا الدين، وللدفاع عن الأمة، ولإعادة واقع الأمة إلى الواقع الشرعي.

الأمر الثاني: أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين بقدر من الضخامة فلا يمكن أن يقوم بإزالته الدعاة فقط وحدهم ما لم تسر الأمة وراءهم، ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا جماعة ولا فئة من الناس، فهو أكبر بكثير من طاقات هؤلاء.

فالانحراف في العقيدة، والانحراف في المفاهيم والتصورات، والجهل بأحكام الدين، والانحراف في السلوك، وأبواب ومجالات الخلل في واقع الأمة وواقع المجتمع مجالات واسعة أكبر من أن يحيط بها، أو أن يسد هذه الأبواب وهذه الثغرات الداعية فلان أو فلان، أو حتى جماعة من الجماعات، أو فئة من الفئات، فما لم تتضافر الجهود، وتعمل كافة طاقات الأمة على درء هذا الفساد، فسنظل نسير سير السلحفاة.

كذلك الأمر الثالث أيضاً الذي يدعونا إلى ضرورة تشغيل كافة الطاقات والعناية بها: اختلاف طاقات الناس، وتخصصاتهم، وقدراتهم، فالناس مثلاً منهم العالم ذو العقلية العلمية الفذة الذي يستطيع أن يؤصل المسائل الشرعية، ويستطيع أن يعلم الناس، ومنهم الواعظ الزاهد الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس، وقد يصل إلى قلوب الناس ما لا يصل إليه العالم، ومنهم الخطيب، ومنهم المفكر، ومنهم أصحاب المواهب والطاقات المتنوعة، وكل هذه الطاقات نحتاج إليها، والأمة كل الأمة، المفكرين، المثقفين، المتعلمين، الأميين، النساء، كل طبقات المجتمع بحاجة إلى من يخاطبها بهذا الدين.

وطبقات المجتمع وشرائح المجتمع طبقات متفاوتة، فتحتاج إلى أنواع وألوان من الخطاب، وإلى أنواع من القدرات، ولذا فإن الأمة تحتاج إلى كل طاقة وكل قدرة، فكل إنسان يملك موهبة، وكل إنسان بارع في أي تخصص له مجال مفتقر إليه، وقد لا يقوم به غيره.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2584 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2320 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2170 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع
من حق إخوتنا علينا 2067 استماع