من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
صديق إبليس
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة): (لم أزل أرى كلثم (هي بنت سعد المخزومية زوجة عمر) اجزل النساء رأياً وأصلبهن مكسراً، وأقواهن على غيرة قلبها سلطاناً، حتى إذا كان منذ أيام رأيت امرأة قد استعلن ضعفها، وتهتك عنها جلدها، وعادت أنثى العقل يغويها الذي يغريها.
(وإن انس لا انس يوم احتلت عليها حتى دخلت إليها، وقد تهيأت لي أجمل هيئة وزينت نفسها ومجلسها، وجلست من وراء الستر، فلما سلمت وجلست، تركتني حتى سكنت، ثم رفعت الستر عن جمال وجه يخطف الابصار، ثم رمت في وجهي تقول: أخبرني عنك أيها الفاسق! ألست القائل كذا وكذا؟ تعني أبياتاً لي، فما زلت أفتل في الذروة والغارب، وهي تند علي وأنا مقيم عندها شهراً لا يدري أهلي أين أنا، ولا ادري ما فعل الله بهم. ولا والله ما مر على يوم إلا حسبتها امرأة قد خلقت بغير قلب، لما ألقاه من عنادها وامتناعها، وأني لآتيها بالسحر بعد السحر من حديث تحن عليه العوانس المعتصمات في مرابي الزمن، وأنا يومئذ شاب تتفجر الصبوة من لساني، ويتلألأ الغزل في عيني، وهي يومئذ غادة غريزة لو نازعها النسيم، فيما أرى، لاستقادت له من دلها ولينها وغضارة العيش.
ولبثت شهراً أقول واحتال واستنزل عصمها برقي السحر، حتى إذا قلت قد دانت، انفلتت مصعدة قد تركتني شاخصاً أنظر إلى صيد قد طار، ثم اطرق ناظرا إلى سحر قد بطل فلما اشتد ذلك على أستاذاتها في الخروج إلى اهلي، وقد يئست منها ومن هواها، فما سمعت حتى قالت: (يمين الله أيها الفاسق! بعد أن فضحتني؟ لا والله لا تخرج أبدا حتى تتزوجني!) فتزوجتها وهي احب النساء إلى أن أتزوج، وما زلت معها وأنا لا أنكر منها شيئاً، وأقول الشعر تأخذه الألسن لتشيعه إلى الآذان، وادخل بيتي فألقاها فلا أسمع منها قلت وقلت! فيكربني إغفالها لما يبلغها من الشعر، فألح على النسيب، واذهب كل مذهب في التشبيب، واتبع النساء بعيني وقلبي، وأقول، فلا والله ما نبض لها قلب ولا تحركت لها جارحة، ولقد ادخل عليها فإذا هي تلقاني ضاحكة لاهية، حتى أقول: لعلها لم تسمع! فأنادي مولاي وأملي عليه، وهي بحيث تسمع ما أملي، وأتخلل الإملاء بالشكوى والحنين وارفع بهما صوتي، ثم انهض ألقاها فما أرى وجهها يربد أو يتمعر، فكان ذلك غيظي وشقوتي، لا تزيدهما الأيام إلا اتقاداً.
ويلمه كيلاً بغير ثمن! كم ذا أغيرها فلا تغار! وأقبلت ذلك اليوم، بعد مرجعي من الكوفة بشهر أو اكثر، فاستقبلني جوان (هو ولد عمر من كلثم) فقال: (يا أبه.
امي، ما فعلت بها؟) قلت: (أمك! بخير يا بني وعداها السوء).
قال: (كلا يا أبه، وما ادري ما بها، غير أني ظللت أياما أستخبرها، وهي خالية، عما بريبها أو يؤذيها، فلا أسمع منها إلا ما تنشده من شعرك كُمَّا كَمثل الخْمرِ كان مِزَاَجَها ...
بالماء، لا رَنْقُ ولا تكديرُ فإذا وذلك كان ظِلَّ سَحَابة ...
نَفَحَتْ به في المُعْصراتِ دَبورُ (ثم تنظر إلي وتقول: يا جوان، امض لشأنك، ولا تنسني في صلاتك، فورب هذه البنية، لقد حملتك ووضعتك وأنا أدعو الله أن يجنبني الشيطان، وان يجنب الشطيان ما يرزقني، فكنت أنت يا بني دعوتي، فادع ربك يا جوان لامك التي حملتك وهنا على وهن. فابْكَ ما شئتَ على ما انقضىَ ...
كل وَصْلَ مُنْقَض ذاهبُ لو يردُّ الدمعُ شيئاً، لقد ...
ردَّ شيئاً دمعُك السِاكبُ فأقول: (يا أماه لقد أفزعتني!) فتقول: (اذهب يا بني (لو ترك الفطا ليلاً لنام).
ثم تشيح وتنصرف، ولا والله ما قدرت منها على اكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتك.
فبالله، يا ابه، لا تدع أمي تموت بحسرة تتساقط عليها نفسها! ارحمها يرحمك الله. ويذهب جوان ويدعني لما بي، ويأخذني ما حدث وما قدم، وكيف ولم أنكر منك يا كلثم شيئاً منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وأني لأدخل عليها فتداعبني وتضحك لي وتذهب بي في لهوها مذاهب، ولا والله أن وقعت منها على مساءة تضمرها أو هم تكتمه، وكأن الحياة قد منعت دونها غير النفس فهي لا تتغير.
وهذا جوان يقول، فلئن صدق لقد كذبتني عيناي وكذب على قلبي، وان كلثم لتلهو بي وتتلعب وأنا في غفلة عن كبر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار انظر، فإذا كل شيء أراه قد لبس من هم نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضي قد بعثت في أسمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنبات البيت وهي تنظر إلى نظرة الذليل المطرد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهن كاللبؤة المجربة ربعت أشبالها، وإذا أنا اسمع همهمة كأنين الجريح تنفذ في أذني من حيثما أصغيت، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأت علي مرفقي، والغشية التي أخذتني تتقشع عني شيئاً بعد شيء.
وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جوان كما كان، فنهضت من مكاني اطلب كلثم في غرته حيث هي من البيت. وقصدت مقصورتها فإذا هي قد اجافت الباب، فذهبت أفتحه وان يدي لتأبى على أن تمتد خشية أن اطلع منها على ما يسوءني، وهي أحب إلي من أراها مغمومة أو مكروبة، على غير ما عودتني وعودتها.
فأستأذنها من ورائه فقالت: (مهلا يا أبا الخطاب، وبخير ما جئت).
فقلت لنفسي: (كذب والله جوان وما كان كاذباً).
فلما فتحت لي الباب رأيت سنة وجه كالسيف الصقيل يبرق شباباً ورضي، وقالت: (مرحباً يا عمر، لو رأيت الساعة جارتي وهي تدخل على ساعية تجري تقول: سيدتي أدركي مولاي فقد سمعت الناس يتناشدون من شعر قاله اليوم، وإذا فيه ليسُ حبٌّ فوق ما أحبَبْتُها ...
غير أن اقتل نفسي أو أَجّنْ فاحفظيه يا سيدتي من روعة المصيبتين.
فقلت لها: لقد وفى مولاك السوء أن ليس بينه وبين الناس إلا لسانه! ولا يقتل مولاك نفسه أو يجن حتى يقتل الحمام نفسه على هديله أو يجن) لم ادر ما أقول، فقد كانت كلمات جوان قد تشبحت لعبني ودوت في أذني، فما أطقت صبرا أن أسألها: (ما يقول جوان؟ زعم انك لا تزالين مهمومة لأمر يستخبرك عنه فلا تخبرينه، ولقد مضت السنين بيني وبينك، ولا والله ما علمت إلا خيراً ولا رأيت إلا خيراً، وما قال إلا ما يجعلني آسى على ما كان مني إليك مما ساءك أو رابك).
وما كدت أتم حتى رأيتها تنتفض كالرشا المذعور أفزعته النبأة، وبرفت فتخاذلت وغرق صوتها فما تنطق، فخاصرتها ومشيت بها إلى مجلس في البيت وجلست أتحفى بها حتى تهدأ.
وبعد قليل ما قالت: (أما إذا كان هذا يا أبا الخطاب فوالله أن كتمتك شيئاً). ثم أطرقت ساعة، وأنا أنفذها ببصري اطلب غيب ضميرها، ثم رفعت إلى بصرها ونظرت نظرة المرتاب ثم قالت (إني محدثتك يا أبا الخطاب عما كان كيف كان.
هذه جارتي ظمياء تدخل علي كالمجنونة منذ أيام تقول: (آمنت يا ظمياء! ما يروعك؟) فتقول: (لا والله ما يروعني إلا أن ادع مولاتي توصم بين نساء قريش وبني مخزوم، ويتحدث أهل مكة أن أم جوان قد لقيت من البلاء كذا وكذا).
فأقول: (ويبك يا ضمياء! انظري ما تقولين!) فتقول: (لا والله أن هو إلا الحق، أرأيت إلى تلك البيضاء الصهباء ذات العينين التي ما زالت تجيئني منذ أيام، لقد قالت لي في عرض حديثها: يا ظمياء لقد جئت مكة من بلاد بعيدة، وإني لأسمع الناس على الطريق يذكرونها ويذكرون بيت الله الحرام، فما ازددت إلا شوقاً أن أرى بيت الله الحرام، وان أرى الناس يجاورون هذا البيت العتيق، وما وقع في قلبي إلا أن أرى دنيا لم أراها، وقوما كتب الله لهم أن يكونوا أطهر واتقى الناس لله.
ولقد خرجت من بلادي وهي ابغض إلي لما أرى من فجور أهلها وانغماسهم في كل إثم وباطل، وكنت أرى اشد أهلنا فجورا ولجاجاً أولئك الشعراء.
ثم دخلت بلادكم وطوفت فيها ما طوفت حتى إذا انتهت إلى أرضكم هذه، لم أزل اعرف الشعراء فيكم افجر وافسق وأضل). (فما أطقت أن اصبر يا مولاتي حتى قلت: (مه ياصهباء، وكذبت.
وأين بنو الأصفر من بني يعرب؟ فإن شاعر العرب ليقول، وأن قلبه لاطهر من أن يدنسه ما يدنس به شعراؤكم أنفسهم يا بني الأصفر.
وهذا مولاي وهو اغزل العرب لساناً، وما علم أحد عليه سوءاً.
قالت صهباء: ما أحسن ما رباك أهلك يا ظمياء! وأحسني ما شئت ظنك في مولاك قلت: تبا لك.
وإنك لتريغين إلى مولاي منذ اليوم، فلا والله لقد كذبت وخسأت أيتها الصهباء الطارئة التي لا مولى لها.
فقالت صهباء: كذبت وخسأت! ما اصدق ما قال مواليك (من دخل ظفار حمر) وإنك لغريرة يا ظمياء، وأنا الصهباء الطارئة من بنات الأصفر لأخبر منك بغيب مولاك عمر.
قلت: كيف قلت؟ قالت: انه الحق، وإن لمولاك غيباً عميت عنه عينك وعين مولاتك، وهو أحرص عليه من أن يطالع على خبئه اتحد قلت وأني لك أيتها الغريبة؟ قالت: دعي عنك، فهو الذي أحدثك. (ثم دنت مني كالتي تسر إلي وقالت: ما كذبتك أيتها الحلوة الغريرة، فهذا مولاك قد ذهب إلى الكوفة منذ زمن، ألم يكن ذلك؟ وهذا مولاك قد نزل يا فسق خلق الله وأخبثهم عبد الله بن هلال الحميري الذي يزعم انه صديق إبليس وختنه وصاحب سره، وإذا هذا الفاجر يخرج إليه فينتين من أجمل خلق الله وأحسنه يغنيانه بشعرة حتى ذهب عقله، وإذا هو يدير مولاك يوما بعد يوم على أن يفتتن بهما، حتى إذا بلغ منه ما أراد ضمن له أن تكونا بالطائف بحيث لا تراهما عين بشر.
لا تنظري ألي كالمرتابة، فهذا الخبيث ابن هلال قد ألقى الطاعة إلى إبليس حتى عظم أمره عنده فهو يخدمه ويناطقه، وحتى لقد ترك له الصلاة العصر تقرباً إليه، وحتى أباحه إبليس أن يأمر الشيطان تتلعب ببني آدم ومن شرطه عليه أن لا يزال أبدا يجمع بين الرجال والنساء في الحرام.
وهو رجل كما يقول مولاي.
) قالت ظمياء: وان لك لمولى يا صهباء؟ قالت صهباء: دعيني حتى أتم يا ظمياء.
.
هو رجل قد أوتى من القوة على السحر والقدرة على تلبيس أنظار الناس ما لم يجتمع لأحد من شياطين السحرة قبله، فلو هومس وجه امرئ بمنديله الأزرق ذي الوشي لم تأخذه عين بشر.
وهكذا هو يفعل بمولاك وصاحبتيه حتى لا يراهم الناس.
قالت ظمياء: وان هذا يكون؟! قالت صهباء: نعم! وليس في الأرض أحد يطيق أن يدر أشر هذا الشيطان الخبيث إلا مولاي.
فقالت لها ظمياء: ولكن أني لمولاك يا صهباء أن يكون عرف الذي خبرتني به إن كان ما تقولين عن مولاي مما سمعته منه؟ قالت ظمياء: فدنت مني ونظرت في عيني بعينين مذعورتين يخفق فيهما مثل شقائق البرق، ثم قالت: ما من شيء يفعله هذا الخبيث ابن هلال حيث كان إلا كان عند سيدي خبره.
فقالت لها ظمياء: ويبي! أحقاً قلت يا صهباء؟ قالت: وي، أو كنت كاذبة عليك وما أنا وأنت إلا من هذه الجواري الغريبات المستضعفات؟ ومالك تكذبيني وان عندي من برهان ذلك ما لا قبل لك برده.
قالت ظمياء: بالله! قالت!: بالله، فاذهبي إلى صوان سيدك في هذه الغرفة التي إلى جوارنا، واخرجي من بين المطرف السابع والثامن من ثياب مولاك ما تجدين! (قالت كلثم امرأة ابن أبي ربيعة): (فهبت ظمياء فدخلت إلى صوانك (تعني عمر) فأخرجت شيئاً رجعت به إلى صهباء.
ثم إذا هي تدخل علي وتقص قصة ما كان، فأمرتها أن تأتيني بصهباء لأسمع ما تقول، فروت لي كل ما حدثتك به يا أبا الخطاب. (قال عمر بن أبي ربيعة): (فما تمالكت أن قلت لكثم: ما تقولين؟ وأي شيء هذا الذي كان بين مطرفي السابع والثامن؟ فقالت كلثم رويدك يا عمر، أما أن تدعني أتم وإلا والله لأسمعت مني شيئاً حتى يقطع الموت بيني وبينك.
قلت: ويحك، فأتمي: قالت كلثم.
(ثم إني سالت صهباء عن سيدها ومولاها، فقالت انه رجل صالح يسيح في الأرض، وانه قد جاء فحج حجته وهو على سفره بعد قليل يضرب في البادية حيث يشاء الله.
قلت لها: أو يعلم مولاك من أمر ما تحدثيني عنه أكثر مما قلت؟ قالت: لا ادري يا مولاتي، فإنه ربما دعاني ويجعل يحدثني حتى أقول لن يسكت، وما هو إلا كخاطفة البرق حتى يقطع فلا يتكلم.
فربما عدت فسألته فلا والله ما يزيد على أن ينظر إلي ويبتسم.
قلت لها.
أو تستطيعين يا صهباء أن تأتيني بمولاك، ولك عندي مائة دينار؟ كلا لا نلت من مال مولاتي شيئاً، ولكني سأديره حتى يأتيك لما أرى في وجهك من الخير والسعد (البقية في العدد القادم) محمود محمد شاكر