وقف لله


الحلقة مفرغة

المحصر في الحج هو من منع من دخول مكة أو من الوقوف بعرفة، بعدو أو مرض أو غيرهما من الموانع القاهرة، وطواف الوداع واجب وهو أحد الأطوفة الثلاثة، ومن تركه لغير عذر وجب عليه دم، كما أن هناك أحكاماً كثيرة في كيفية الحج والعمرة مبثوثة في ثنايا هذه المادة.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذه فرصة طيبة أن نلتقي وإياكم في هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وممن يجتمعون على تدارس كتابه والتواصي به.

في بداية هذا اللقاء أشكر شكراً عامراً الإخوة في مركز الدعوة بالرس على دعوتهم وحسن ظنهم، وإن كان هذا الطلب لم يستجب له إلا متأخراً، فأشكرهم أولاً على حسن ظنهم ودعوتهم، وأشكرهم ثانياً على صبرهم علينا، ومراعاتهم لظروفنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في أعمالهم وفي جهودهم، إنه سميع مجيب.

أيها الإخوة! تميل النفوس إلى التجديد والإبداع، وتمل التكرار والوتيرة الواحدة، وهي سنة لله سبحانه وتعالى في الكون كله، فالماء إذا بقي ساكناً لا يتحرك فإنه يأسن ويتغير، ولو عقدت مقارنة بين منزل بني منذ عشر سنوات ومنزل فرغ منه الساعة لوجدت بينهما بوناً شاسعاً، وذلك أن النفس دائماً تتطلع إلى التجديد والتغيير، وكذلك الكتاب يحرص القارئ والمقتني له على أن يقتني الطبعة الجديدة منه، والتي تتميز بإخراج حديث.

وهانحن نرى أعداءنا الذين أصبحنا نستهلك سلعهم قد أصبحوا يستثمرون هذه الظاهرة في النفوس، فتراهم يطورون في موديلات المنتجات، وخذ مثلاً السيارات فإنهم يطورونها في المظهر دون المضمون، ولكن هذا التطوير والتجديد يحظى بقبول الكثير، فيأسر المستهلكين، ويشكل اختيار الموديل مطلباً أساساً، فقد يؤخر المرء قراره بشراء سيارة ما في انتظار موديل جديد؛ رغبة في التجديد والتنويع، والذي قد يكون في المظهر دون المضمون، وذلك أن النفوس دائماً تميل إلى التجديد.

فالتجديد مطلب للجميع، ومسعىً للكافة، يتطلعون إليه، ويطالبون به، ويقدرون إبداع صاحبه، حتى ولو كان لا يعدو مجرد المظهر دون المضمون والجوهر.

التجديد عند الدعاة إلى الله في الوسائل دون الخوض في الثوابت

إذاً: فإذا كانت النفوس تتطلع إلى التجديد والابتكار، فلماذا لا يسلك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هذا المسلك؟ ولماذا لا يكون التجديد مطلباً لهم، فينوعون في أساليبهم وطرقهم ووسائلهم بما يكون محاطاً بسياج المنهج، محصوراً في دائرة الشرع، فلا يسوغ أن يسلط التجديد على الثوابت الشرعية فيقضى عليها باسم التجديد والابتكار؟

لكن حين يكون تنويعاً وتشويقاً فلا بأس فالنفس تمل وتألف، ونحن نرى في تاريخ الحركة العلمية والفكرية في أمتنا أن الكثير من أسلافنا قد سلكوا هذا المسلك، فجددوا في التأليف، وجددوا في طرق التدريس، ولعل من يرصد الحركة العلمية والفكرية على مدى تاريخ الأمة يدرك ذلك واضحاً ظاهراً.

وهذه المحاضرة هي محاولة لعرض هذا الموضوع بقدر من التجديد في الأسلوب دون المضمون، وفي طريق المعالجة دون الأفكار والمنطلقات، وكل الطرق تؤدي إلى مكة.

إننا نطالب الناس دائماً بمطالب ملحة تشكل عندنا قضايا أساسية، وعلى قدر حاجتنا لهذه المطالب، وعلى قدر شعورنا بأهميتها، سيعلو صوتنا فيها، وستتكرر مطالبتنا، وسيتكرر نداؤنا، ولن يقف هاجس التكرار عائقاً لنا دون الإلحاح في المطالبة.

إننا أيها الإخوة! ونحن نطالب بهذه المطالب الشرعية لسنا بأولى من الدائن الذي يطالب بدينه ويلح، ويرفع صوته صباح مساء، ويبدئ ويعيد ويكرر، إن مطلبنا أعظم وأبعد أثراً من مطلب صاحب الدين، إن مطلبنا هو المطلب الشرعي للناس أن يفيئوا إلى الله جميعاً، وهي كلمة واحدة إليها ندعو، وحولها ندندن، ونرفع دائماً أصواتنا يمنة ويسرة، نطالب بالعودة إلى الله عز وجل، وبالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبالعمل لهذا الدين، والدعوة له، ونطالب المسلمين جميعاً أن يسيروا معنا في صف واحد، وأن يركبوا معنا القطار، ويخوضوا معنا المعركة في الفكر أولاً والعلم والحجة واللسان، والتي تهيئ بعد ذلك للملحمة الكبرى في مواجهة الكفر وأهله وقادته.

إن من حقنا أيها الإخوة! ونحن نرى أن مطالبنا مشروعة، بل نرى أنها تتصدر قائمة المطالب المشروعة، من حقنا أن نكرر مطالبنا، وأن نرفع أصواتنا، وأن نبدئ ونعيد فيها، ومن ثم فقد نكرر كلاماً كثيراً، ولكن سنظل نكرر ونرفع الصوت حتى يستجيب الناس ويفيئوا إلى دين الله سبحانه وتعالى.

فهذه محاولة لنوع من المطالبة، وقد لا يكون ثمة جديد في الموضوع والمضمون في حقيقتها، فهي حقيقة واحدة حولها ندندن، وإليها ندعو، لكن التجديد قد يكون في الأسلوب والمظهر.

إذاً: فإذا كانت النفوس تتطلع إلى التجديد والابتكار، فلماذا لا يسلك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هذا المسلك؟ ولماذا لا يكون التجديد مطلباً لهم، فينوعون في أساليبهم وطرقهم ووسائلهم بما يكون محاطاً بسياج المنهج، محصوراً في دائرة الشرع، فلا يسوغ أن يسلط التجديد على الثوابت الشرعية فيقضى عليها باسم التجديد والابتكار؟

لكن حين يكون تنويعاً وتشويقاً فلا بأس فالنفس تمل وتألف، ونحن نرى في تاريخ الحركة العلمية والفكرية في أمتنا أن الكثير من أسلافنا قد سلكوا هذا المسلك، فجددوا في التأليف، وجددوا في طرق التدريس، ولعل من يرصد الحركة العلمية والفكرية على مدى تاريخ الأمة يدرك ذلك واضحاً ظاهراً.

وهذه المحاضرة هي محاولة لعرض هذا الموضوع بقدر من التجديد في الأسلوب دون المضمون، وفي طريق المعالجة دون الأفكار والمنطلقات، وكل الطرق تؤدي إلى مكة.

إننا نطالب الناس دائماً بمطالب ملحة تشكل عندنا قضايا أساسية، وعلى قدر حاجتنا لهذه المطالب، وعلى قدر شعورنا بأهميتها، سيعلو صوتنا فيها، وستتكرر مطالبتنا، وسيتكرر نداؤنا، ولن يقف هاجس التكرار عائقاً لنا دون الإلحاح في المطالبة.

إننا أيها الإخوة! ونحن نطالب بهذه المطالب الشرعية لسنا بأولى من الدائن الذي يطالب بدينه ويلح، ويرفع صوته صباح مساء، ويبدئ ويعيد ويكرر، إن مطلبنا أعظم وأبعد أثراً من مطلب صاحب الدين، إن مطلبنا هو المطلب الشرعي للناس أن يفيئوا إلى الله جميعاً، وهي كلمة واحدة إليها ندعو، وحولها ندندن، ونرفع دائماً أصواتنا يمنة ويسرة، نطالب بالعودة إلى الله عز وجل، وبالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبالعمل لهذا الدين، والدعوة له، ونطالب المسلمين جميعاً أن يسيروا معنا في صف واحد، وأن يركبوا معنا القطار، ويخوضوا معنا المعركة في الفكر أولاً والعلم والحجة واللسان، والتي تهيئ بعد ذلك للملحمة الكبرى في مواجهة الكفر وأهله وقادته.

إن من حقنا أيها الإخوة! ونحن نرى أن مطالبنا مشروعة، بل نرى أنها تتصدر قائمة المطالب المشروعة، من حقنا أن نكرر مطالبنا، وأن نرفع أصواتنا، وأن نبدئ ونعيد فيها، ومن ثم فقد نكرر كلاماً كثيراً، ولكن سنظل نكرر ونرفع الصوت حتى يستجيب الناس ويفيئوا إلى دين الله سبحانه وتعالى.

فهذه محاولة لنوع من المطالبة، وقد لا يكون ثمة جديد في الموضوع والمضمون في حقيقتها، فهي حقيقة واحدة حولها ندندن، وإليها ندعو، لكن التجديد قد يكون في الأسلوب والمظهر.

يدرك أصحاب المبادئ والدعوات أن مبادئهم تتطلب منهم بذلاً منقطع النظير، وتضحية بالنفس والنفيس، ويسعون بكل جهد لابتكار الوسائل والطرق، وحشد الجهود لخدمة مبادئهم ومعتقداتهم، فهم يجمعون المال والتبرعات لخدمة دعوتهم، ونشر معتقداتهم، وكم نقرأ في الحديث والقديم من أن الطائفة الفلانية جمعت كذا وكذا من المال، أو قررت توفير كذا وكذا لخدمة المبدأ والطائفة، وأحياناً تقام الحفلات والبرامج العامة ليصبح ريعها وقفاً على جمعية إنسانية، أو نحلة أرضية، أو مذهب ضال.

وفي تاريخنا الإسلامي نقرأ في كتب الفقه الكثير عن الأوقاف، والتي ساهمت مساهمة فعالة في خدمة الحركة العلمية على مدى تاريخ الأمة، فهذا وقف على مدرسة حنفية، وهذا وقف على مدرسة شافعية، وهذا وقف على مدرسة أهل الحديث والمشتغلين به، وهذا وقف على المشتغلين بالسنة ومواجهة أهل البدعة.

إن نظرة عجلى في تاريخ المدارس وفي كتب الفقه تعطينا الدلالة على عمق هذه الظاهرة وأثرها في دفع المسيرة العلمية، ولقد كانت الحركة العلمية والنهضة العلمية التي سادت في هذه الأمة على قرون متطاولة تعتمد اعتماداً أساساً واعتماداً كبيراً على هذه الأوقاف، وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل كان هناك من حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله سبحانه وتعالى، أو أوقف غلة أرض على المجاهدين في سبيل الله عز وجل، أو ريع منزل من المنازل على المرابطين. وهكذا.

فاقرءوا كثيراً عن الأوقاف وأحكامها وما يتعلق بها، ويفيض الفقهاء في الحديث عنها؛ لأنها كانت ظاهرة سائدة منتشرة على مدى تاريخ الأمة، فالوقف يبقى شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، فيبقى أصله ويدر الثمرة، فهو من خير ما ينفق الإنسان، وأفضل ما يساهم به في سبيل الله عز وجل.

قد ينفق الإنسان مبلغاً كثيراً من المال، ويساهم هذا المال ولا شك مساهمة فعالة في إطعام جائع أو مسكين، وفي نصرة مجاهد في سبيل الله عز وجل، وفي دعم برنامج دعوي، أو مشروع إغاثي، وفي جلب خير للأمة، ولكن هذا يبقى مجرد مساهمة تنقضي مع انقضاء هذا المال، وما أسرع ما يزول، وأما حين يوقف مالاً يبقى أصله ويدر غلته فإنه يبقى خيره عميماً بعد ذلك، (وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).

وليس هذا بالمال وحده، فلئن كان هذا شأن المال ودوره لدى كل صاحب دعوة ومبدأ، فهل صحيح أن بالمال وحده يستطيع الإنسان أن يحقق ما يريد؟ قد يسوغ أيها الإخوة! لأصحاب المبادئ الأرضية والدعوات الضالة أن يعتمدوا أساساً على المال، فيشتروا قناعات الناس وضمائرهم ومعتقداتهم مقابل المال، ولكن ما يشرى بالمال يمكن أن يأتي من يساوم عليه، والبيع لمن يزيد، والذي يبيع قناعاته ومعتقداته بالمال فهو على أتم الاستعداد أن يتخلى عنها حين ينقضي هذا المال.

أقول: قد يسوغ لأصحاب هذه المبادئ أن يغروا الناس بالمال لاتباعهم، والسير وراءهم، وأما نحن فحين نقول: إن المال أساس وعصب مهم للدعوة إلى الله عز وجل، فإنا لا نقول ذلك لأنا نرى أن يعطى الناس، وأن تشترى معتقداتهم، وأن يحاسبوا بالدينار والدرهم على قناعتهم، إن هذا الدين حق، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29].

إنه حق واضح لا مجال للمساومة عليه، نعم قد يكون تأليف الناس مطلوباً، والمؤلفة قلوبهم لهم سهم من الزكاة، لكن هذا شيء واشتراء ذمم الناس شيء آخر.

إذاً أيها الإخوة! ليس بالمال وحده فقط تنتصر الدعوات، فمع أن المال مطلب ملح وأساس لكن ثمة طاقات أخرى ومطالب أخرى بحاجة إلى أن يعتنى بها، فهناك الطاقة الهائلة والجهد الذي لا يعوض وهو الطاقة البشرية بكل فروعها ومجالاتها، إننا بحاجة إلى أن نحشد الطاقات البشرية لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، فهل نفكر في جعل صنف من الناس وقفاً لله تعالى؟

نقرأ في القرآن الكريم أيها الإخوة! قوله تعالى عن امرأة عمران : إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، لقد أحست بالحمل، وكانت خدمة دين الله عز وجل تتصدر قائمة اهتماماتها وتطلعاتها، فنذرت حينئذٍ أن تقف هذا المولود على خدمة دين الله؛ بأن يكون خادماً للمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، والذي اختاره الله عز وجل حيناً من الدهر قبلة يتوجه إليه في الصلاة، إنها الأرض المقدسة التي أمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوها، والتي سار بهم إليها بعد ذلك نبي الله يوشع بن نون، والأرض التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام، والأرض التي أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليها، والأرض والموطن المشهود له بالفضل على مدى التاريخ، والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها موطن الطائفة المنصورة حتى تشهد آخر ملاحم الإسلام حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال .

ومن ثم لا غرو أن يوقف هذا الغلام وهذا الوليد على خدمة هذا المسجد، واستجاب الله عز وجل لدعائها، ولكن الله عز وجل رزقها خيراً من ذلك كله، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لها، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:36-37].

فاستجاب الله دعاءها وأعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فكان الشيطان ينخس كل مولود فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها عيسى عليه السلام، استجابة لدعوة هذه الأم الصالحة، استجاب الله عز وجل دعاءها فكان هذا الحمل أنثى، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، ولكنها كانت أماً لرسول من أولي العزم من الرسل، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله؛ يحيي موتى الأبدان، وقبل ذلك معجزته الأهم والأولى والتي أرسله الله من أجلها أنه كان يحيي موتى القلوب، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.

ونقرأ في القرآن أيضاً عن بيع وصفقة مع أولياء الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111].

لقد تم البيع أيها الإخوة! ولا مجال للخيار، فالبيع والعقد لازم لا خيار فيه، فلا مجال لعيب أو تدليس أو خلابة يفسخ بها العقد، فقد تم العقد وبيعت النفوس والأموال لله عز وجل، فحينئذٍ ينبغي أن تبقى هذه النفوس وهذه الأموال وقفاً لخالقها سبحانه وتعالى الذي امتن علينا، فأعطانا هذا المال، وأعطانا هذه النفوس، خلقنا ثم اشتراها منا سبحانه وتعالى بثمن بالغ؛ جنة عرضها السماوات والأرض، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم، إنه بيع رابح.

يحكي الله سبحانه وتعالى عن طائفة ممن باعوا أنفسهم لله عز وجل في مقابل من استحوذ عليه إعجاب الناس: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].

في مقابل هذه المتفيهق، وهذا المتفاصح، وهذا الذي يستحوذ عليه إعجاب الناس، ويتظاهر بمظهر الإصلاح وهو يفسد، في مقابل هذا هناك من باع نفسه لله عز وجل، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لـصهيب حين باع نفسه لله: (ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع).

نحن نحتاج إلى من يكون وقفاً لله تعالى بقلبه وتوجهه، فلا يتوجه قلبه لغير الله عز وجل، فيخلع من قلبه قصد سواه، أو إرادة غيره، أو الميل إلى ما لا يرضيه سبحانه وتعالى، إنه يستقبل القبلة ببدنه خمس مرات كل يوم وليلة، ولكن قلبه يستقبل قبلة دائمة في منامه ويقظته، إنه ليس لقلبه إلا قبلة واحدة، فقلبه وقف لله تعالى.

وحين يدعو ويسأل فأمام ناظريه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وقبل ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].

إنه لا يمكن أبداً أن يتوجه لغير الله عز وجل، أو يدعو غير الله سبحانه وتعالى، أو يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله سبحانه وتعالى، فهي أمور وقفت لله عز وجل، وصرفها لغير الله يعني انخلاع المرء من عبوديته لله سبحانه وتعالى إلى الذل والعار، إلى العبودية للمخلوق، والعبودية لما دون الله سبحانه وتعالى، فدعاؤه وعبادته وتوجهه وقف لمولاه سبحانه وتعالى.

قد يكون للناس نوايا وتطلعات وشوائب من الرياء، والشهرة، وحب الظهور، والتعلق بحظوظ النفس، أما هو فيجاهد نفسه ويكابدها، وهو يدرك عمق المشكلة، وشدة خطورتها، لاسيما وهو يسمع عبارات السلف تهزه هزاً عنيفاً، يسمع عباراتهم في الدعوة إلى مجاهدة النفس في تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).

ولا يزال قول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب علي.

وقول يوسف بن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

لا تزال هذه الأقوال تطرق مسمعه وتتراءى أمامه، فحينئذٍ تصبح نيته وقفاً لله تعالى.

إن قضية تصحيح النية ووضوح المقصد قضية بدهية لدى الناس جميعاً، لدى الغافل والمقبل على الله عز وجل، لدى قوي الإيمان وضعيف النفس والهمة، إن الجميع يقرون بضرورة تصحيح النية، والتوجه إلى الله عز وجل.

إن الناس أيها الإخوة! قد يتوجهون لمطلب العلم، ولتحصيل العلم، هذا المطلب الملح الذي يتفق الناس جميعاً أنه مطلب شريف نزيه، وليس أولى وأدل على فضل العلم من أنه ما نسب امرؤ إلى الجهل إلا عد هذا عيباً وذماً وقبحاً، وما نسب إلى العلم إلا وعد هذا ثناء وخيراً.

إن مطلب تحصيل العلم مطلب مشترك لدى الجميع، فمنهم من يسعى إليه، ومنهم من تقصر همته دون ذلك، ولكن قد يسعى المرء للعلم فتعترض له النوايا لتقطع عليه الطريق، فتتحول نيته فيصبح مطلبه أن يقال فلان كذا وكذا، وأن يتصدر في المجالس، وأن يحصل على شهادة يسترزق بها، وأن يستطيع أن يتحدث مع المتحدثين، وأن يتفيهق مع المتفيهقين، وأن يتفاصح مع المتفاصحين.

إن العلم مهما كان عبادة وقربة لله عز وجل، ومهما كان مطلباً شريفاً يسعى إليه ذوو الهمم العالية، إلا أنه بحاجة إلى أن يصحح المرء فيه نيته، ويتفقدها ويتفقد إخلاصه، فيصبح علمه وطلبه للعلم وقفاً لله تعالى، فلا يتعلم إلا ونيته خالصة لله عز وجل، وإلا كان -عافانا الله وإياكم- أحد الثلاثة.

والدعوة إلى الله عز وجل هي الأخرى أيضاً طريق الأنبياء والرسل، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46].

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

ولكن هذا الطريق هو الآخر قد يعترض المرء فيه ما يعترض مما يكدر نيته، أو يقطع عليه طريقه، فتنحرف مسيرته حينئذٍ، إنه قد تأسره الشهرة، فينقاد وراءها، وقد يأسره حظ من حظوظ الدنيا، أو مطمع زائل، فتنحرف نيته وتزيغ، وقد يبدو له -وقد بدأ مخلصاً صادقاً سليماً- مطمع أو مطمح فيحرفه عن مسيرته.

ومن ثم كان من أشد الناس حاجة إلى أن يصحح نيته، وأن يتفقد نيته، وأن تكون دعوته لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يراقب نفسه ويراجعها؛ حتى تصبح دعوته وقفاً لله عز وجل، فلا يتطلع ولا يرجو غير مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

والعابد الذي قد حنا ظهره، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، فأصبح يشار إليه بالزهد والورع والعبادة، هو أيضاً أحوج ما يكون إلى أن يراقب نيته، وأن يصحح مقصده.

إن الشيطان أيضاً قد يجد سبيلاً ومسلكاً إلى هذا العابد، فيحرفه ويقطع عليه الطريق، ومن ثم كان هذا أيضاً بحاجة إلى أن تكون نيته وقفاً لله تعالى.

إننا أيها الإخوة! جميعاً -في أي ميدان كنا وحيثما اتجهنا- بحاجة إلى أن نفرض رقابة صارمة على نوايانا حتى تصبح وقفاً لله عز وجل، فلا تلتفت يمنة ولا يسرة.

لابد للمرء أن ينحصر تفكيره فيما هو نافع؛ من صلاح القلب، ومن تفكير في خلق الله عز وجل وآلائه، والتفكير فيما يقدمه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والدعوة في سبيل الله عز وجل، فلا يبقى بعد ذلك في تفكيره مجال لأفكار رديئة، وخواطر هزيلة، وأحلام اليقظة، فضلاً عن التفكير في أوحال الشهوات، وأدران الشبهات، فقد أصبح تفكيره وقفاً لله عز وجل، فصار لا يفكر إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وفي إصلاح نفسه وتعاهدها، وفي إصلاح عيوب نفسه، أياً كانت طرائق التفكير ومجالاته، وأياً كان مشربها ومسلكها، فكلها تصب في بحر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد وهو: أن يكون تفكيره وقفاً لله تعالى.

يجب على المرء أن يجعل مشاعره وعواطفه كلها لله، فإن أحب أحب لله، وإن أبغض أبغض لله؛ لأن لسانه يلهج دائماً بالدعوة الصادقة: (وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك)، فمشاعره هي الأخرى وعواطفه وقف لله تعالى.

وحين يأخذ الحماس بلب أصحاب الأهداف الوضيعة، فيطير رياضي عشق الرياضة حماساً لانتصار فريقه، ويسيطر عليه هذا الحماس لتتولد عنه أعمال تدل على مبلغ صاحبها من العقل، وحين يطغى الحماس على شاب تائه ليستعرض بسيارته أمام الناس، فيمارس التفحيط، أو ما يسمى بالتطعيس، وينتج عن ذلك إزهاق للأرواح، وعطب للأبدان، وحين يسيطر الحماس نفسه على فنان عاشق للصوت الحرام؛ فيجعل الغناء شعاره ويشتري لهو الحديث، حين يطغى الحماس على هؤلاء جميعاً فصاحبنا ليس في نفسه إلا الحماس لدين الله عز وجل، فقد استهلكت خدمة الدين همه، واستنفدت طاقته، فلم يعد لها بعد ذلك مزاحم، وتتزاحم هذه المطالب التي يسعى إليها الناس إلى صاحبنا تبحث لها عن مكان، فلا تجد مكاناً؛ لأن حماسه قد أصبح وقفاً لله تعالى.

ما أحوجنا إلى أن نحشد هذه الطاقات الهائلة، هذه الطاقات التي قد نهدرها: الحماس والعواطف وما ينشأ عنها من أعمال قد نراها بأعيننا، وقد تودي بصاحبها إلى أن يخاطر بنفسه، وأن يزهق روحه استجابة لحماسة ثائرة، ما أحوج الأمة أن توفر هذا الحماس وهذه الطاقة والمشاعر كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى.

وتخيلوا أيها الإخوة! حين تحشد هذه الطاقات من العواطف والمشاعر التي يتمتع بها الشباب جميعاً، والشاب يتدفق حيوية وحماساً وعاطفة؛ حين تحشد هذه الطاقات كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فأي جهد سينتج عنها؟! وأي ثمرة نستطيع أن نجنيها بعد ذلك؟!

حين يتزاحم الناس على قضاء أوقاتهم فيما تقودهم إليه نفوسهم عالية كانت أم دنيئة، فيقضي الأول وقته في الدنيا وتحصيل المال، فيصبح هذا الهم هو الذي يسيطر عليه، فحياته لجمع المال، فهو عبد للدينار والدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، فليس لديه فراغ للجلوس مع الناس، ولا للحديث معهم، بل إن أهله وأبناءه وزوجه لا يستطيعون أن يجدوا من وقته نصيباً؛ لأنه مشغول بهذه الدنيا وجمع المال، فقد سيطر هذا الهم وهذا الهدف على وقته.

والثاني الذي يقضي وقته في التسكع في الطرقات والأسواق، أو عند مدارس البنات؛ بحثاً عن فريسة، أو مطاردة لتائهة.

والثالث الذي يسيطر اللهو على حياته، فلا يسأل عنه حراماً كان أم حلالاً، فاللهو شعاره ومطلبه وهدفه الأساس، ومبلغه من العلم.

والرابع والخامس والسادس والجميع الذين تسيطر هذه الأهداف على أوقاتهم، حين يتنافس هؤلاء في قتل الوقت، ووأد العمر .. وأد أثمن ما يملكون، فصاحبنا له منطق آخر مع وقته، ومقياس يختلف عن مقاييس هؤلاء جميعاً، فالوقت الضائع لديه هو كل وقت لم يكتسب فيه خيراً، أو يقدم فيه فضلاً، ولسان حاله:

إذا مر بي يوم ولم استفد هدى ولم استزد علماً فما ذاك من عمري

وهكذا فهو يدرك أن وقته هو الحياة، وأن الوقت هو أثمن ما يملك، والله عز وجل يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وهل هناك أنفس لديه من عمره وحياته ووقته؟ ومن ثم فقد جعل وقته وقفاً لله تعالى.

مرة أخرى أقول أيها الإخوة! إن البشر هم الذين بتوفيق الله سبحانه وتعالى يصنعون التاريخ والحياة، وهم الذين جعلهم الله عز وجل وسيلة للتغيير في هذه الحياة وهذا الكون، وهم الذين استخلفهم الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهم الطاقة التي لا يسوغ أن تهدر، ولا يسوغ أن تهمل وتذهب سدىً.

ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى أن نستثمر هذه الطاقة، وأن نستغل هذه الطاقة، وأن نوظف هذه الطاقة في خدمة ما خلقنا من أجله، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس ليعبدوه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفة في الأرض؛ ليقوم بهذا المنهج وهذا الدين في الأرض، وسخر الله سبحانه وتعالى له كل ما في السماوات والأرض، فسخر الله سبحانه وتعالى له النعماء، وصرف سبحانه وتعالى عنه الضر والبأس، ويسر له كل هذا الكون بكل ما فيه، كل هذا تسخيراً لهذا الإنسان الذي ما خلق أصلاً ولا أوجد إلا ليكون عبداً لله سبحانه وتعالى، وإلا ليقوم بعبودية الله عز وجل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ قريبة أو بعيدة قد تعظم وقد تصغر عند الناس، ولكنها عند الله سبحانه وتعالى عظيمة غالية؛ لأنها عبادة يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى.

إن هذا الإنسان الذي لم يخلق إلا لعبادة الله عز وجل لا يسوغ أبداً بحال أن تصرف طاقته وجهده في غير مرضاة الله عز وجل، وفي غير ما خلق من أجله، ونحن في هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا، وفي هذا الواقع الأليم الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية أحوج ما نكون إلى حشد الطاقات، وأحوج ما نكون إلى أن نجمع الجهود، فنستنفر وندعو الناس جميعاً لأن يتبرعوا فيخرجوا لنا أناساً وقفاً لله تعالى، فكل ما يملكون من طاقات وجهود يسخرونها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، علّ هؤلاء أن يساهموا في قيادة الأمة إلى بر الأمان.

أيها الإخوة! يتحدث الفقهاء عن حكم نقل الوقف، فيقررون أنه لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، فهل هذا الوقف الذي ندعو إليه كذلك؟

والجواب: لا، إنه وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن الوقف لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، وهذا الوقف لا يمكن أبداً أن تتعطل منافعه، فصاحبه إن أعياه التعب وأرهقه الجهد فقعد به عن عمل تتطلع نفسه إليه فلن يعجز لسانه عن دعوة صالحة للإسلام والمسلمين، وإن خرس لسانه فجوارحه لن تعجز أن تقدم خيراً، وإن شلت جوارحه فقلبه يلهج بحب الله ورجائه والتوجه إليه، فحتى وهو مقعد كسيح لا يستطيع حراكاً تنصر الأمة به، (أبغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)، وإن قعد به مرض أو سفر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إنه لن تضيق أمامه الأبواب وهو يسمع التوجيه النبوي الكريم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك).

وحتى حين يموت ويودع الحياة فالمسلم مبارك حياً وميتاً، وكم نرى ونشاهد أن رجلاً من الصالحين مات فاجتمع الناس لجنازته، فوافق ذلك أن حضرت جنازة أخرى، فصلى عليها هذا الجمع العظيم وساروا فيها، فصار هذا الرجل بركة في حياته وموته، وكم نسمع أن فلاناً من الناس قد تاب وأناب إلى الله عز وجل حين مات فلان الرجل الصالح، وكم نرى ونسمع أن بيتاً بأسره قد تغيرت أحواله، وتبدلت أموره إلى الصلاح؛ لأن أهله افتقدوا شاباً صالحاً قانتاً مطيعاً لله تخطفه الموت من بينهم، فهاهو المسلم تبقى بركته حياً وميتاً، فلا تتعطل منافعه، فهو حينئذٍ وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن منافعه لا تتعطل.

الوقف عند الفقهاء أيها الإخوة! عقد لازم لا خيار فيه، فحين يتبرع امرؤ بمال فيوقفه فلا يملك بعد ذلك أن يرجع، وهانحن بعد ذلك قد عقدنا الصفقة وتم البيع، فلا مجال للخيار؛ لأنه لا غبن ولا تدليس ولا خلابة، فقد تم البيع، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى أن قال الله عز وجل: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111].

فلا مجال إلا الوفاء بالصفقة، والوفاء بالبيع، فاستحقاق الثمن حينئذٍ أو النكوص والنقض, وحينئذٍ يستحق صاحبه النكال عافانا الله وإياكم، فهو عقد لازم لا خيار فيه ولا مجال فيه للرجوع والتردد.

جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرضه التي أوقفها في خيبر، وهو حديث عظيم وأصل من الأصول في باب الوقف، قال رسول الله: (لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف)، فلناظر الوقف ووكيله أن يأكل منه بالمعروف، وينتفع من غلته بما لا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2584 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2116 استماع
علم لا ينفع 2083 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2072 استماع
من حق إخوتنا علينا 2067 استماع