خطب ومحاضرات
المراهقون .. الوجه الآخر
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
حديثنا بعنوان: المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثاً حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام، لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ومن ثم لا يسوغ أن تكون حكراً على أهل الاختصاص.
الحديث عن المراهقة والمراهقون يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح، وعند أهل التربية والتعليم، بل هو مع العصر الحاضر الذي نعيشه أصبح حديث الكثير من الناس، سواءً أكانوا شباباً يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عما يعانونه من أبنائهم وبناتهم أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل الذين عامتهم من أهل هذه المرحلة.
سيطر على كثير من الناس -وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط.
وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما تتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد الأستاذة، أو مع أحد ممن يتولى مسئوليته في بلاد المسلمين؛ تتحدث معه حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبدياً شكواك بما تراه عليه يجيبك: إنه مراهق!
وهذا يعني أن مرحلة المراهقة عذرُ لارتكاب الجريمة، عذر للانحراف، عذر للصبوة، عذر للطيش والغفلة، أو بعبارة أخرى: إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة.
وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو من يتولى تربيته مستوى أعلى ومرحلة غير تلك التي هو عليها يعتذر لك بأنه ما يزال شاباً مراهقاً.
فما مدى صحة هذه النظرة؟ أليس ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الوجه الذي نراه؟
بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعاً على التعريف بالمراهقة: وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون رهق أي: غشي ولحق أو دنا منه، سواءً أخذه أم لم يأخذه، والرهق محركاً السفه والخفة، وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم.
وراهق الغلام قارب الحلم، ودخل مكة مراهقاً أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، يعني الوقوف بعرفة.
وقد ورد هذا اللفظ أيضاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى : وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26].
أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة.
وأيضاً في قوله عن الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
وهي تعني هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، فرهق يعني دنا واقترب.
أما في علم النفس المعاصر: فهي المرحلة التي تلي البلوغ، وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين، فعلماء النفس يصنفون من كان في هذه السن مراهقاً تحكمه خصائص معينة وطبيعة معينة.
ما الفرق بين المراهقة والبلوغ؟
هناك من يعتبر أنهما مترادفان، وأن البلوغ يعني المراهقة، وهناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة لبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم، فالبلوغ يختص بالنمو الجسمي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذاك.
وعلى كل حال لا يهمنا كثيراً الوقوف حول المعاني اللغوية لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا، فحين يطلق علماء النفس مراهق فإنهم يعنون الشاب في هذه المرحلة.
أقول: نتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة أنها تعني الصبوة والانحراف والطيش وأنه ليس فيها إلا هذا العبث.
ثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة العاجلة للمراهق.
النشأة الغربية لعلم النفس
أول هذه العوامل: نشأة علم النفس ونباته أصلاً، فهو قد نشأ نشأة غربية، ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة أول ما نشأ في بلاد الغرب، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي.
الجامعات الإسلامية وجامعات بلاد المسلمين أكثرها فيها فروع مستقلة لعلم النفس، وسائر العلوم الإنسانية، لكن كيف تنظر هذه الجامعات وكيف تدرس علم النفس؟ وحينما تقلب الطرف في مكتبة من المكتبات العربية فإنك تجد قسماً خاصاً حول الكتب المؤلفة حول علم النفس باللغة العربية، وحول سائر العلوم لكن حينما تقلب الطرف في هذه الكتب ترى أنها لا تعدو أن تكون نقلاً حرفياً لما قرأه هؤلاء، ولا تعدو أن تكون ترجمة حرفية، والغالب أن تكون ركيكة لعلم النفس الغربي وما يطرحه الغرب، قد يكون مثلاً من المقبول أن نترجم علوماً مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة الإنسان، وحياة الإنسان لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلاً حرفياً.
وللأسف كثيراً من المهتمين بهذه الدراسات لا يزالون متأخرين في عرض هذه العلوم عرضاً إسلامياً، وفي دراسة هذه العلوم من وجهة نظر إسلامية، ولا يزال المسلمون في جامعات العالم الإسلامي يدرسون هذه الدراسات وفق نظرة أولئك، فيدرسون علم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأدب وسائر العلوم من وجهة نظر الغربيين.
وحين يكون علم النفس نشأ في البلاد الغربية فهذا يعني بالضرورة أنه سيعكس حياة الإنسان الغربي في تلك المجتمعات خاصة أنه من العلوم الإنسانية التي تعنى بدارسة الإنسان، وشتان بين الإنسان في هذه البيئة بين الإنسان كما خلقه الله وكما يريده الله وبين الإنسان في تلك المجتمعات.
تأثر هذه الدراسات بشخصية الباحثين الغربيين
ثانياً: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث فالذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية فلا يمكن أن يتخلص من شخصيته كنظرته مثلاً للإنسان، نظرته للأديان، نظرته للأخلاق للسلوك، لكل هذه الاعتبارات.
ولما كان هذا العلم وليد حياة أولئك فهو لا يعدو أن يكون انعكاساً لنظرتهم تجاه الإنسان وتجاه الدين والأخلاق، ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه استان ليبول ألف كتابه عام 1917م للميلاد، يقول فيه عن مرحلة المراهقة: والمراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق.
ويرى آخر وهو قراندر والذي كتب كتابه عام 1969م للميلاد أن المراهقة مجموعة من التناقضات.
ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تختطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج.
ويصفها البعض بأنها مرحلة جلود.
ويعتبر استان ليبول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية .
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها، فهم ممن نشئوا في تلك المجتمعات والبيئات.
أمر آخر: أن هذه الدراسات الإنسانية تتم على تلك المجتمعات، فالذين خرجوا لنا بهذه النظريات قاموا بدراساتهم في بلاد الغرب، وفي المجتمعات الغربية، فهم أجروا هذه الدراسات على مجموعات من المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في تلك المجتمعات، وهل يسوغ مثلاً أن نعمم النتائج التي وصلنا إليها في تلك المجتمعات على واقع المسلمين؟ هل يسوغ مثلاً أن نقارن بين مراهق يعيش في بلاد المسلمين، ومراهق يعيش هناك في بلاد الغرب؟ إن العالم الغربي يعيش عالماً من الضياع والانهيار، خاصة في أوساط الشباب والشابات.
ويوضح هذا تصريحٌ مشهور أطلقه الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1962م للميلاد مع أن الواقع قد تغير كثيراً الآن، يقول فيه: إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية، ثم هذا الواحد الصالح للجندية لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، لكن مستوى إقباله على الشهوات لم يصل إلى ذاك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية.
وتعرفون أنتم أن الشواذ جنسياً لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية، وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف أيضاً تصريحاً شبيهاً بهذا فيقول: إن مستقبل روسيا في خطر، وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك الفوضى الجنسية والخيانة الزوجية.
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته بهذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات، وأن النتائج التي يصل إليها هؤلاء حينما يتحدثون مثلاً عن طبيعة المراهق عن طبيعة الإنسان في هذه المرحلة أو تلك فإنما يصلون إلى هذه النتائج بناء على دراسات يجرونها على مجموعة من المراهقين أو المراهقات الذين قال عنهم قادتهم ما قالوا، فهل يسوغ أن نعمم هذه النتائج على سائر المجتمعات؟
أيضاً من العوامل المهمة التي تؤثر في هذه النظرة سيطرة نظرية في علم النفس المعاصر تسمى نظرية التحليل النفسي، وهي نظرية العالم النفسي الشهير فرويد والتي تقوم على أساس التفسير الجنسي لسلوك الإنسان، يقول فرويد : إن حياة الإنسان هي حياة الجنس، وإن الجنس يبدأ مع الطفل وهو رضيع، فإن الرضيع يرضع ثدي أمه بشهوة جنسية، ويقضي حاجته بشهوة جنسية، وإن الرضيع يتعلق بأمه بشهوة جنسية.
وكذلك أيضاً الفتاة تتعلق بأبيها بشهوة جنسية ثم ينشأ من ذلك ما يسمى بعقدة أوديب والتي تتولد عند الطفل حين يحس أن أباه قد استأثر بأمه.
والأخلاق والدين والسلوك ليست إلا مظاهر لكبت الشهوات الجنسية، ومن ثم دعا إلى الإباحية المطلقة وصار يفسر سلوك الإنسان بتفسير جنسي وهو متأثر بنظرية دارون التي تقول بحيوانية الإنسان، وبالمناسبة فإن فرويد هذا كان أحد العلماء اليهود.
نظرية التحليل النفسي ونظرية فرويد سيطرت على علم النفس المعاصر وصارت تدرس هذه النظرية حتى في جامعات المسلمين، ولهذا صار ينظر إلى عالم المراهقة وعالم المراهقين من خلال هذه الزاوية.
ارتباط مرحلة المراهقة بسن التكليف الشرعي
وأهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر فيما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة، هو أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يبلغ سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفاً شرعياً، فتجب عليه الواجبات الشرعية، ويجب عليه أن يمتنع عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل.
وحينها نتساءل: من الذي خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى! أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه؟ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل ما فيه، فهو أعلم بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته، ومع ذلك شرع سبحانه وتعالى تكليف الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي، فصار مؤتمناً على الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر التكاليف الشرعية.
حينما حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم قائمة من الشهوات، وأوجب عليه سبحانه وتعالى الواجبات، ألا يعني بالضرورة أنه قادر ومؤهل، قادرٌ على أن يمتنع من كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، ومؤهل لأن يتحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى إياه؟ بلى ولا شك.
بل إن اختيار هذه السن للتكليف فيه حكمة بالغة، فهو في هذه المرحلة وهذا السن أقرب ما يكون للعبادة، أقرب ما يكون للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لأن يتحمل أمانة التكليف، فهو سبحانه وتعالى أعلم من هؤلاء البشر، هو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق نوازعه، وهو الذي خلق شهوته، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، يعلم هذا الإنسان وما يحيط به، ومع ذلك كلف الله سبحانه وتعالى الناس كل الناس، الشباب والفتيات، في كل عصر وزمان ومكان اعتباراً من هذه السن، فما أن يصل الشاب أو تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ حتى يصبح مكلفاً بالتكاليف الشرعية، فلا يجوز له أن ينظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أن يمتع نفسه بشهوة محرمة، وفي المقابل يجب عليه أداء ما افترض عليه من الصلاة، والبر، والصدقة، وسائر الواجبات الشرعية، بل حتى الجهاد له ارتباط وثيق بهذه السن كما سيأتي بعد قليل.
إذاً فالله سبحانه وتعالى حين كلف الشاب وكلف الفتاة في هذه السن فهذا يعني أنه مؤهل، وهذا يعني أنه عاقل مهما كان ومهما قال الناس ومهما تحججوا ومهما أظهرت الدراسات فهي أقوال بشر وآراء بشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، فهذا التكليف يعني أنه قادر على أن يكون عفيفاً، قادر على أن يمتنع عن الفواحش، وأن يمتنع عن أكل المال بالباطل، وعن إيذاء الناس وإزعاجهم، وعلى أن يحافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى.
أمرٌ آخر: تقول معظم الدراسات المعاصرة في علم النفس: إن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهاً نحو التدين والعبادة، وهذا مما يكشف لنا السر والحكمة في كون التكليف الشرعي يبدأ من هذه المرحلة.
ولهذا يبدأ المراهق طرح الأسئلة على نفسه: من أين أنا؟ وكيف جئت؟ فيبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ولعلنا نلحظ أن الكثير ممن نراهم من الشباب في هذه المرحلة حين ينشأ في بيئة صالحة متدينة يقبل على الطاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى إقبالاً جماً، وذلك كما أنه يعيش مرحلة من الشهوات والنوازع، فهو أيضاً يعيش إقبالاً على العبادة والتدين وطاعة الله سبحانه وتعالى، وحتى لو لم يدرك البشر ذلك، ما دام الله سبحانه وتعالى قد شرع التكليف في هذه المرحلة فهو مؤهل، واختيار هذه المرحلة وهذا السن لم يكن ليأتي عبثاً.
نماذج من التاريخ في الدور الإيجابي للمراهقين
حقيقة أخرى أيضاً: نماذج التاريخ، حين نقرأ في التاريخ، نرى نماذج ممن عاشوا في هذا السن، وهذه المرحلة تثبت لنا أن هناك وجهاً آخر لعالم المراهقة غير الوجه الذي يبديه علم النفس المعاصر، فتقرءون في القرآن الكريم قصة أهل الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:13-14].
ويحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قرية كاملة قد آمنوا ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد، وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء، وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى، فيؤمن الناس حين رأوه، وتبقى قصة محفوظة منقوشة في ذاكرة التاريخ، يتغنى بها الصغير والكبير، ويرددها الجميع.
وهكذا لنرى أن أثر ذاك الشاب -المراهق في المصطلح المعاصر- لم يكن قاصراً على أهل قريته، بل امتد على مدى الزمان ما دامت هذه القصة تتلى ويتحدث عنها الناس.
إنا حين نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونقرأ حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نرى نماذج عدة، ونرى عجباً من أولئك الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة؟ ولنستعرض أسماء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان لهم القدح المعلى، والذي نسمع دائماً ونقرأ في كتب السنة، عن فلان بن فلان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نتغنى بأمجادهم وبطولاتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم.
من هؤلاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاماً، وكان أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يحضر هذه الغزوة، واستشهد فيها والده، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما قال الله لأبيك؟ لقد كلمه الله كفاحاً .)، وهو ممن نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، ثم لم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم أيضاً عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه بايع بيعة الرضوان، وعمره سبع عشرة سنة، وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الموت، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
وأيضاً من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو جحيفة وهب بن عبدالله السوائي رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان مراهقا.
ومنهم أيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، فكانت عمره عندما بايع تحت الشجرة ستة عشر عاماً، فشهد بيعة الرضوان وهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وهم أيضاً الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد من بايع تحت الشجرة).
ومنهم أيضاً سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ومواقفه مشهودة مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب غزوة ذي قرد، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير رجالتنا
وهو الذي كان في غزوة حنين، فجاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجلس معهم ساعة ثم ولى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بلحاقه فلحقه على قدميه حتى أدركه وقتله، وكان عمره رضي الله عنه عند الهجرة ست عشر عاماً.
و عبد الله بن عباس رضي الله عنه ولد في الشعب قبل عام الهجرة بثلاث سنين، قال في حديثه المشهور في الصحيحين: (أقبلت على أتان وقد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى).
ومنهم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه كان عمره عند الهجرة عشرين سنة.
وعبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه أول مولود للمهاجرين في المدينة، كان فارس قريش في زمانه، وله مواقف مشهودة، قيل إنه شهد اليرموك وهو مراهق، بل في البخاري أن الزبير رضي الله عنه أركبه فرساً يوم اليرموك وهو ابن عشر سنين، وشهد فتح المغرب، وغزو القسطنطينية، بايع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين أو ثمان كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه.
ومنهم عبد الله بن السائب رضي الله عنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقرأ سورة المؤمنين قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذكر موسى وهارون أخذته سعلة فركع) قال مجاهد : كنا نفخر على الناس بقارئنا عبد الله بن السائب وبفقيهنا عبد الله بن عباس وبمؤذننا أبي محذورة .
ومنهم المسور بن مخرمة سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب علي رضي الله عنه ابنة أبي جهل ، سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتلم، روى الحديث أحمد ومسلم .
ومنهم أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن عشر سنين كما روى رضي الله عنه، ومات وهو ابن عشرين، روى ذلك الإمام مسلم وأحمد .
والحديث يطول حول نماذج من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد آثرت أن أقتصر على هذا العدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة العاجلة إلى مواقفهم، وكلنا نحفظ تلك المواقف التي كانت تتكرر في السيرة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعرض الجيش قبل الغزو، وحتى كان يرد الصغار فمنهم من يبكي، ومنهم من يتطاول، ومنهم من يذهب يمنة ويسرة حتى يغيب عن ناظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يرده.
هكذا كان أولئك، أما من بلغ الخامسة عشرة فإنه لا يرده صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، والكثير من الذين شهدوا الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في هذه السن، بل كثير ممن بايعوا تحت الشجرة كانوا دون العشرين عاماً.
ولهذا قال خطيب الخوارج:
أتعيرونني بأن أصحابي شباباً، وهل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا شباباً.
ولعلها تأتي فرصة أخرى نشبع فيها الحديث حول شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
هل كان المسلمون يعانون أزمات المراهقة من قبل
قضية أخرى أيضاً: تدعونا إلى إعادة النظر فيما يقال حول عالم المراهقة، هل كان المسلمون على مدى التاريخ يعانون من أزمات المراهقة كما نعاني الآن في هذا العصر؟
هذا السؤال لو طرحته على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، حين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم، فإننا لا نلمس أثراً لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم مثلاً يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجدون الحديث المستفيض عن مشكلات الشباب، وعن أزماتهم، وعن عالم المراهقة الذين نعيشه الآن، هل تجدونه في تراث العلماء الأوائل؟ وهل تجدونه في كتاباتهم؟
إنك لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً في كتاباتهم وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا.
إذاً: ما دامت غير موجودة فهذا يعني أن القضية ليست صفة ملازمة للإنسان، بل هناك عوامل أخرى وأمور أخرى تؤثر حتى ولدت هذه المشكلة التي تعاني.
نحن الآن نعاني من أزمات مزعجة في عالم المراهقة، حتى في مجتمعات المسلمين، وتجد الحديث المستفيض عن الشباب، وعن عالم الشباب، وانحراف الشباب والخطورة والمشكلات التي تواجه الشباب، هذا الحديث لا تجده كثيراً ولا تجد الإفاضة عنه في الحديث عند السلف، بل أنك حين تقرأ لسلف الأمة تجد هؤلاء ما أن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع فيه شوطاً، ثم أصبح يثني ركبتيه في مجالس العلم مستمعاً ومقيداً لما يسمع.
هكذا كان عالم الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن القضية ليست صفة ملازمة لعالم المراهقة أنه عالم الأزمات كما يقول علماء النفس المعاصرون، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الأزمة وهذه المشكلة.
أيضاً قضية أخرى: ثمة نماذج من العصر الحاضر، فمع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين، ومشكلات المراهقين إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرية الظالمة المتجددة.
من هم عمار المساجد؟ من هم حفاظ القرآن الكريم؟ لو أجريت الآن دراسة لمجتمعات المسلمين، وبحثت عن حفاظ القرآن الكريم ففي أي سن سوف تجد هذا العدد أكثر من غيره؟ قطعاً ستجد أن الكثير من حفاظ القرآن الكريم من هؤلاء المراهقين، ورواد مجالس العلم ودروس العلماء هم المراهقون، بل هم السبب أصلاً في قيامها؛ لأن هؤلاء لو لم يأتوا ولم يعمروا هذه المجالس لما استطاع الشيخ أن يلقي درسه آنذاك.
لو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن عامة الحاضرين وأكثرهم من هذه السن.
وفي عالم الجهاد لا ننسى جميعاً قضية أفغانستان، وكم هم الشباب من المراهقين الذين دفنوا هناك في بلاد العجم، في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة، إلى حيث قضاء الشهوات المحرمة، وحينذاك كان جمع من شبان المسلمين يعيشون عالم المراهقة أطهاراً أبرياء، ذهبوا وهم يتمنون ألا يعودوا، ولسان حال أحدهم يقول:
أذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء
هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ولا نخل أسافلها رواء
لسان حالهم لسان عبد الله بن رواحه رضي الله عنه وقد قال حين ودعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مؤتة قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا. قال: لا ردنا الله إليكم. ثم قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة وضربة تنفث الأحشاء والكبدا
هكذا كان شعارهم، وهكذا كان سؤالهم، كان أحدهم إذا سجد يبكي في سجوده وهو يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة، وأن لا يعيده إلى أهله وإلى بلاده.
ورأينا نماذج فذة من أولئك الذين شاركوا وضربوا أصدق الأمثلة، وكنا وكان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن الاستبسال والشجاعة والشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبداً في ذاكرة التاريخ، فإذا بهم يرونها حية أمام ناظريهم، يرونها حية يفتحها ويعيدها أولئك الذين لا زالوا يعيشون عالم المراهقة.
إذاً: هذا النموذج الذي نراه في هذا العصر مع أزماته ومشكلاته يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ظلم وجور أولئك الذين يصفون عالم المراهقة بأنه عالم الانحراف، وعالم الأزمة وعالم الفساد.
شواهد علم النفس
وحقيقة أخرى نختم بها الحديث حول هذه الحقائق: شواهد علم النفس نفسه، فالكثير من علماء النفس وعلماء التربية يشككون في صحة هذه المقولة، وفي صحة هذه الدعوى، سواءً كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرهم. وقد سبق أن أشرت إلى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن الشاب يعيش في مرحلة المراهقة توجهاً نحو التدين والعبادة والبحث عن الدين.
من علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية مارجريت ميت فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادية، وما دام هذا النمو يسير في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذا المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد مباشرة بعد احتفال تقليدي.
ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي : وجدير بالذكر أن النمو الجسمي في مرحلة المراهقة لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات ولكن النظم الحديثة هي المسئولة عن أزمة المراهقة.
والدكتور ماجد الكيلاني يقول: وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين تبريراً للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان، إنها مشكلة يمكن تجنبها كلياً في حياة الفرد، وأن لا يمر الإنسان بها أبداً، وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرضاً من أمراضهم الاجتماعية.
ونحن لسنا بحاجة إلى الإفاضة في ذكر الشواهد من كلام هؤلاء، لكن أيضاً مع الحقائق الشرعية الثابتة ومع الحقائق التاريخية ومع ما نراه من واقعنا المعاصر؛ مع ذلك كله هاهم علماء النفس المعاصر ينطقون بهذه الحقيقة ويشهدون بها.
أول هذه العوامل: نشأة علم النفس ونباته أصلاً، فهو قد نشأ نشأة غربية، ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة أول ما نشأ في بلاد الغرب، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي.
الجامعات الإسلامية وجامعات بلاد المسلمين أكثرها فيها فروع مستقلة لعلم النفس، وسائر العلوم الإنسانية، لكن كيف تنظر هذه الجامعات وكيف تدرس علم النفس؟ وحينما تقلب الطرف في مكتبة من المكتبات العربية فإنك تجد قسماً خاصاً حول الكتب المؤلفة حول علم النفس باللغة العربية، وحول سائر العلوم لكن حينما تقلب الطرف في هذه الكتب ترى أنها لا تعدو أن تكون نقلاً حرفياً لما قرأه هؤلاء، ولا تعدو أن تكون ترجمة حرفية، والغالب أن تكون ركيكة لعلم النفس الغربي وما يطرحه الغرب، قد يكون مثلاً من المقبول أن نترجم علوماً مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة الإنسان، وحياة الإنسان لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلاً حرفياً.
وللأسف كثيراً من المهتمين بهذه الدراسات لا يزالون متأخرين في عرض هذه العلوم عرضاً إسلامياً، وفي دراسة هذه العلوم من وجهة نظر إسلامية، ولا يزال المسلمون في جامعات العالم الإسلامي يدرسون هذه الدراسات وفق نظرة أولئك، فيدرسون علم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأدب وسائر العلوم من وجهة نظر الغربيين.
وحين يكون علم النفس نشأ في البلاد الغربية فهذا يعني بالضرورة أنه سيعكس حياة الإنسان الغربي في تلك المجتمعات خاصة أنه من العلوم الإنسانية التي تعنى بدارسة الإنسان، وشتان بين الإنسان في هذه البيئة بين الإنسان كما خلقه الله وكما يريده الله وبين الإنسان في تلك المجتمعات.
ثانياً: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث فالذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية فلا يمكن أن يتخلص من شخصيته كنظرته مثلاً للإنسان، نظرته للأديان، نظرته للأخلاق للسلوك، لكل هذه الاعتبارات.
ولما كان هذا العلم وليد حياة أولئك فهو لا يعدو أن يكون انعكاساً لنظرتهم تجاه الإنسان وتجاه الدين والأخلاق، ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه استان ليبول ألف كتابه عام 1917م للميلاد، يقول فيه عن مرحلة المراهقة: والمراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق.
ويرى آخر وهو قراندر والذي كتب كتابه عام 1969م للميلاد أن المراهقة مجموعة من التناقضات.
ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تختطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج.
ويصفها البعض بأنها مرحلة جلود.
ويعتبر استان ليبول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية .
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها، فهم ممن نشئوا في تلك المجتمعات والبيئات.
أمر آخر: أن هذه الدراسات الإنسانية تتم على تلك المجتمعات، فالذين خرجوا لنا بهذه النظريات قاموا بدراساتهم في بلاد الغرب، وفي المجتمعات الغربية، فهم أجروا هذه الدراسات على مجموعات من المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في تلك المجتمعات، وهل يسوغ مثلاً أن نعمم النتائج التي وصلنا إليها في تلك المجتمعات على واقع المسلمين؟ هل يسوغ مثلاً أن نقارن بين مراهق يعيش في بلاد المسلمين، ومراهق يعيش هناك في بلاد الغرب؟ إن العالم الغربي يعيش عالماً من الضياع والانهيار، خاصة في أوساط الشباب والشابات.
ويوضح هذا تصريحٌ مشهور أطلقه الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1962م للميلاد مع أن الواقع قد تغير كثيراً الآن، يقول فيه: إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية، ثم هذا الواحد الصالح للجندية لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، لكن مستوى إقباله على الشهوات لم يصل إلى ذاك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية.
وتعرفون أنتم أن الشواذ جنسياً لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية، وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف أيضاً تصريحاً شبيهاً بهذا فيقول: إن مستقبل روسيا في خطر، وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك الفوضى الجنسية والخيانة الزوجية.
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته بهذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات، وأن النتائج التي يصل إليها هؤلاء حينما يتحدثون مثلاً عن طبيعة المراهق عن طبيعة الإنسان في هذه المرحلة أو تلك فإنما يصلون إلى هذه النتائج بناء على دراسات يجرونها على مجموعة من المراهقين أو المراهقات الذين قال عنهم قادتهم ما قالوا، فهل يسوغ أن نعمم هذه النتائج على سائر المجتمعات؟
أيضاً من العوامل المهمة التي تؤثر في هذه النظرة سيطرة نظرية في علم النفس المعاصر تسمى نظرية التحليل النفسي، وهي نظرية العالم النفسي الشهير فرويد والتي تقوم على أساس التفسير الجنسي لسلوك الإنسان، يقول فرويد : إن حياة الإنسان هي حياة الجنس، وإن الجنس يبدأ مع الطفل وهو رضيع، فإن الرضيع يرضع ثدي أمه بشهوة جنسية، ويقضي حاجته بشهوة جنسية، وإن الرضيع يتعلق بأمه بشهوة جنسية.
وكذلك أيضاً الفتاة تتعلق بأبيها بشهوة جنسية ثم ينشأ من ذلك ما يسمى بعقدة أوديب والتي تتولد عند الطفل حين يحس أن أباه قد استأثر بأمه.
والأخلاق والدين والسلوك ليست إلا مظاهر لكبت الشهوات الجنسية، ومن ثم دعا إلى الإباحية المطلقة وصار يفسر سلوك الإنسان بتفسير جنسي وهو متأثر بنظرية دارون التي تقول بحيوانية الإنسان، وبالمناسبة فإن فرويد هذا كان أحد العلماء اليهود.
نظرية التحليل النفسي ونظرية فرويد سيطرت على علم النفس المعاصر وصارت تدرس هذه النظرية حتى في جامعات المسلمين، ولهذا صار ينظر إلى عالم المراهقة وعالم المراهقين من خلال هذه الزاوية.
وأهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر فيما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة، هو أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يبلغ سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفاً شرعياً، فتجب عليه الواجبات الشرعية، ويجب عليه أن يمتنع عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل.
وحينها نتساءل: من الذي خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى! أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه؟ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل ما فيه، فهو أعلم بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته، ومع ذلك شرع سبحانه وتعالى تكليف الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي، فصار مؤتمناً على الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر التكاليف الشرعية.
حينما حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم قائمة من الشهوات، وأوجب عليه سبحانه وتعالى الواجبات، ألا يعني بالضرورة أنه قادر ومؤهل، قادرٌ على أن يمتنع من كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، ومؤهل لأن يتحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى إياه؟ بلى ولا شك.
بل إن اختيار هذه السن للتكليف فيه حكمة بالغة، فهو في هذه المرحلة وهذا السن أقرب ما يكون للعبادة، أقرب ما يكون للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لأن يتحمل أمانة التكليف، فهو سبحانه وتعالى أعلم من هؤلاء البشر، هو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق نوازعه، وهو الذي خلق شهوته، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، يعلم هذا الإنسان وما يحيط به، ومع ذلك كلف الله سبحانه وتعالى الناس كل الناس، الشباب والفتيات، في كل عصر وزمان ومكان اعتباراً من هذه السن، فما أن يصل الشاب أو تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ حتى يصبح مكلفاً بالتكاليف الشرعية، فلا يجوز له أن ينظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أن يمتع نفسه بشهوة محرمة، وفي المقابل يجب عليه أداء ما افترض عليه من الصلاة، والبر، والصدقة، وسائر الواجبات الشرعية، بل حتى الجهاد له ارتباط وثيق بهذه السن كما سيأتي بعد قليل.
إذاً فالله سبحانه وتعالى حين كلف الشاب وكلف الفتاة في هذه السن فهذا يعني أنه مؤهل، وهذا يعني أنه عاقل مهما كان ومهما قال الناس ومهما تحججوا ومهما أظهرت الدراسات فهي أقوال بشر وآراء بشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، فهذا التكليف يعني أنه قادر على أن يكون عفيفاً، قادر على أن يمتنع عن الفواحش، وأن يمتنع عن أكل المال بالباطل، وعن إيذاء الناس وإزعاجهم، وعلى أن يحافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى.
أمرٌ آخر: تقول معظم الدراسات المعاصرة في علم النفس: إن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهاً نحو التدين والعبادة، وهذا مما يكشف لنا السر والحكمة في كون التكليف الشرعي يبدأ من هذه المرحلة.
ولهذا يبدأ المراهق طرح الأسئلة على نفسه: من أين أنا؟ وكيف جئت؟ فيبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ولعلنا نلحظ أن الكثير ممن نراهم من الشباب في هذه المرحلة حين ينشأ في بيئة صالحة متدينة يقبل على الطاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى إقبالاً جماً، وذلك كما أنه يعيش مرحلة من الشهوات والنوازع، فهو أيضاً يعيش إقبالاً على العبادة والتدين وطاعة الله سبحانه وتعالى، وحتى لو لم يدرك البشر ذلك، ما دام الله سبحانه وتعالى قد شرع التكليف في هذه المرحلة فهو مؤهل، واختيار هذه المرحلة وهذا السن لم يكن ليأتي عبثاً.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الباحثات عن السراب | 2597 استماع |
الشباب والاهتمامات | 2467 استماع |
وقف لله | 2329 استماع |
رمضان التجارة الرابحة | 2259 استماع |
كلانا على الخير | 2220 استماع |
يا أهل القرآن | 2195 استماع |
يا فتاة | 2187 استماع |
الطاقة المعطلة | 2124 استماع |
علم لا ينفع | 2089 استماع |
من حق إخوتنا علينا | 2073 استماع |