علم لا ينفع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد.

فهذه فرصة طيبة أن يتم هذا اللقاء، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن يستمع القول ويتبع أحسنه إنه سميع مجيب، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

ولعله من المناسب أن يكون مثل هذا الحديث في مثل هذا الوقت بالذات، مع بداية العام الدراسي، فهو بداية عام للعلم والتعلم سواء ما كان منه على مقاعد الدراسة ممن كان يدرس علوماً تنفع الأمة، أو ما كان حتى خارج هذا الوقت، فإن الغالب أن يكون وقت الإجازة وقت انشغال وسفر وذهاب وإياب، والأنشطة العلمية التي يسلكها الشباب غالباً يبتدئ بها الأخ مع بداية العام الدراسي.

ولهذا أحببنا أن نقول: كما أننا نحتاج إلى الحث على طلب العلم، والتعرف على فضله وثمرته وقيمته، نحتاج أيضاً إلى أن نتساءل كثيراً حول هذا العلم الذي نطلبه ونسعى إليه.

وقضية فضل العلم والدعوة إليه مثلكم ليس بحاجة إلى أن يُذكَّر بها، لكن يكفي أن نعلم دائماً أنه ما نُسب أحد إلى العلم إلا فرح بهذه النسبة، وما نُسب أحد إلى الجهل إلا واعتبر ذلك ذماً، حتى الجاهل الذي لا يفقه شيئاً حينما تقول له إنك جاهل، يعتبر هذه النسبة ذماً له وعيباً له، وهذا يكفي في الدلالة على أن العقلاء كلهم أجمعوا على قيمة العلم ومكانته، فلم يعد مجالاً للنقاش.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغّبنا فيه بفضائل عدة يكفينا منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) هنا يأتي هذا الوعد النبوي أن من سلك طريقاً، و(طريقاً) نكرة فأي طريق يلتمس به الإنسان علماً سيسهل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة، ما دام هذا الطريق مشروعاً، فالذي يحضر حلقات العلم في المساجد يلتمس العلم بذلك يسهّل الله به طريقاً إلى الجنة، والذي يلتحق بدراسة نظامية يلتمس بذلك علماً يسهّل الله له بذلك طريقاً إلى الجنة، والذي يشتري كتاباً من كتب العلم ليقرأ فيها أو يذهب إلى المكتبة ليقلب الكتب ويبحث عن كتاب يقتنيه، والذي يقرأ ويتناقش مع أحد زملائه، حتى ما قد يأتي به العلم المعاصر مما قد لا يكون في أذهاننا الآن مما يأتي في المستقبل من وسائل، فما دام هذا الطريق ليس فيه محذور شرعي؛ فكل من التمس طريقاً من هذه الطرق يلتمس به علماً سهّل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة.. وعلى هذا فالعلم بطرقه وأبوابه ووسائله طريق إلى الجنة.

لا أريد أن أتحدث عن فضل طلب العلم كما قلت لكم، وليس أمثالكم بحاجة إلى أن يُحدثوا عن ذلك، لكن من باب الإشارة والتذكير، أما موضوعنا فهو الحديث عن العلم الذي لا ينفع، وذلك قد جاء بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في كتاب الله عز وجل الإشارة إلى أنواع من هذا العلم الذي لا ينفع.

ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: (لا أقول إلا كما كان صلى الله عليه وسلم يقوله: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) ثم قال: (وأعوذ بك من علم لا ينفع).

وورد هذا المعنى أيضاً في أحاديث أخرى، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وورد من حديث أنس ، وورد من حديث أبي هريرة وكل هذه النصوص يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.

وفي حديث جابر (سلوا الله علماً نافعاً واستعيذوا به من علم لا ينفع).

وقد ورد أيضاً الاستعاذة من العلم الذي لا ينفع في حديث عبد الله بن أبي أوفى .

هذه النصوص في المسند والسنن تعطينا دلالة على أن هناك من العلم ما يصبح شراً يُستعاذ بالله منه، وأن تحصيل العلم بأي وسيلة، مما ينطبق عليه أنه العلم الذي يسهل الله عز وجل به للعبد طريقاً إلى الجنة، وهذا يجعل الإنسان يتفاءل حينما يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من هذا العلم الذي لا ينفع، ويحذر ويعرف أن العلم قد يكون أحياناً غير نافع لصاحبه، بل قد يكون أحياناً وبالاً وشراً على صاحبه عافانا الله وإياكم.

وهذا أيضاً يعطينا دلالة على أن طلب العلم وجمع المعلومات ليست غاية في حد ذاتها، نعم الإنسان يستهدف العلم ويسعى في تحصيل العلم وتحصيل العلم عبادة، لكن مجرد تحصيل العلم للعلم في حد ذاته ليس غاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وهذا يعني أن هناك علماً ينفع وعلماً لا ينفع؛ ولهذا فالعلم وسيلة إلى تحقيق خيري الدنيا والآخرة، وما لم يترتب عليه هذا النفع فإنه شر يستعاذ بالله عز وجل منه، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله مراراً من العلم الذي لا ينفع، ولم يبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما هو العلم الذي لا ينفع، لكنه جاء بعبارة واضحة محددة يفهمها كل الناس: أنه علم لكنه لا ينفع، فلا يعود بالنفع على صاحبه، والنفع ما كان نفعاً للمرء في دينه وآخرته، ثم ما كان ينفع الناس في دنياهم مما لا يكون على حساب الآخرة لأن الآخرة هي الأصل، فقد يحصل الإنسان علماً ينفعه في الدنيا لكنه يضره في آخرته، أرأيت مثلاً الساحر الذي يتعلم السحر، والسحر علم لكن الله عز وجل يقول: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، والذي يتعلم السحر ينتفع بذلك في دنياه، وأهل الشعوذة والسحر والكهانة من أكثر الناس ثراء وتحصيلاً للمال، فهو ينتفع بذلك في دنياه لكن هذا النفع على حساب آخرته، ويجر عليها الوبال وخسران الآخرة فأصبح في النهاية علماً لا ينفع، بل هو من أشد العلوم ضرراً على صاحبه.

إذاً: فنحن أمام عبارة واضحة، أي علم لا يترتب فيه نفع في الآخرة، أو في دنيا العبد فإن هذا العلم من العلم الذي يستعاذ بالله عز وجل منه، وقد تتفاوت مراتب هذا العلم، فقد يُصبح وبالاً على الإنسان، ويُصبح هذا العلم شراً بذاته، ويجلب الشر والفساد كما في تعلم العلوم التي تصد الإنسان عن دين الله أصلاً، أن يتعلم الإنسان علوماً فيها شبه وفيها إشكالات، فيكون العلم سبباً لصرفه عن الهداية إلى الضلال، فهذا في قمة ما يستعاذ بالله منه، وقد يكون العلم الذي يتعلمه الإنسان من الفضول فقد لا يترتب عليه ضرر مباشر وشر مباشر، لكنه من فضول العلم، ولا شك أن هذا لا ينفع، بل مآله إلى أن يضر الإنسان؛ لأنه أنفق فيه جزءاً نفيساً من وقته كان ينبغي أن ينفقه فيما ينفع فصرفه عن العلم النافع.

ثم أيضاً هذا العلم الذي تعلمه أخذ جزءاً من تطلع الإنسان للعلم، فالإنسان عنده تطلع للعلم وعنده رغبة في المعرفة والتعلم، فحينما يحصّل هذا العلم فإنه يسد هذه الرغبة، فتنصرف رغبته في العلم النافع.

على كل حال العلم الذي لا ينفع يتفاوت فقد يجلب ضرراً للإنسان، وقد يصل به إلى حرمان الفلاح في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] أي أنه ليس له في الآخرة من نصيب، وهذا الجزء من الآية يستدل به على أن السحر كفر صراح؛ لأنه حينما يكون ليس له أي نصيب في الآخرة فهذا معناه أنه لن يدخل الجنة، ومعناه أنه سيخلد في النار وهذا ليس إلا للكفار، فهذا العلم تسبب في حرمانه كل نصيب من الثواب والخير في الآخرة، وتسبب لخروجه من دائرة الإسلام ودخوله في الكفر، وقد يكون دون ذلك كما في شأن الذي يتعلم بعض المسائل التي قد يكون فيها ضرر عليه في دينه لا يبلغ به إلى الكفر كما سيأتي الحديث عن ذلك.

إذاً هذا يجعلنا نشعر أن مجرد التحصيل العلمي ليس غاية في حد ذاتها، ما لم يكن وسيلة إلى تحقيق ما يرضي الله عز وجل، وهذا يجعلني أيضاً أتساءل دائماً في طلبنا للعلم عن مضمون العلم والأسلوب وطريقته، قضايا كثيرة نتساءل دائماً هل هذا يرضي الله تبارك وتعالى أم لا يرضي الله عز وجل؟

العلم الذي لا ينفع ليس بالضرورة شيئاً واحداً، إنما هو أصناف كثيرة:

العلم الخالي عن الإخلاص لله

من أول مجالات العلم الذي لا ينفع: العلم الذي لا يُخلص فيه العبد لله عز وجل:

حينما لا يخلص النية لله تبارك وتعالى فإنه سيفقد نفع هذا العلم، وهذا الأمر واضح بأن العلم عبادة شرعية يتعبد بها الإنسان لله تبارك وتعالى، والعبادات لا يثاب عليها الإنسان ولا تحمد إلا حين يبتغي بها وجه الله عز وجل، بل حقيقة العبادة أصلاً هي التقرب إلى الله وابتغاء وجه الله عز وجل، هذه العبادة أن يتقرب الإنسان إلى الله في أي عمل، سواء كان عملاً قلبياً، أو بلسانه، أو بجوارحه..

العمل الخالص الذي يرضى الله تبارك وتعالى أن يتقرب العبد به إليه، فإذا كان هذا الإنسان لا يخلص فمعناه أنه لا يتقرب إلى الله قط، فقد بطل أصلاً مقصود العبادة.

والله تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فهو القائل عز وجل: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) كما حدثنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

بل قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على وعيد لأولئك الذين يفتقدون الإخلاص في طلبهم للعلم، فمن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، فمن تعلم العلم الشرعي لغير الله فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد، وهو ألا يجد ريح الجنة عافانا الله وإياكم.

إذاً: فهذا الرجل الذي لم يخلص النية في طلب العلم متوعد على تعلمه، بل هو يوم القيامة من أول من تسعر بهم النار، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: (قارئ تعلم العلم فيأتي به الله عز وجل فيعرّفه نعمه فيعرفها فيقول: ما عملت؟ قال: تعلمت وقرأت، فيقال: كذبت تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) عافانا الله وإياكم.

إن الله عز وجل قد أعطاه نعمة؛ ولهذا عرّفه بهذه النعمة فعرفها وتعرّف عليها وأدركها لكنه تعلم ليقال عالم، وقرأ ليقال قارئ، ولهذا صار من أول من تسعر بهم النار، ولا شك أن هذا أعظم فوات لنفع العلم؛ لأن أهم مطلوب وأعلى مطلوب الإنسان في حياته هو نجاته من هذه النار.

ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى استحضار النية والإخلاص في أي وسيلة، أي باب، أي طريق من طرق العلم، واستحضار النية يجعل الإنسان يشعر أن عمله عبادة.

يخرج من أول النهار، ويذهب إلى المدرسة أو إلى الجامعة، ويبقى فيها إلى ما بعد صلاة الظهر ثم يعود، وقد يبذل جهداً خارقاً وقت الدراسة لمتابعة بعض التكاليف، هذا الإنسان حينما تكون نيته خالصة لله عز وجل يكون هذا الوقت والجهد الذي صرفه عبادة لله تبارك وتعالى، فيثاب عليه عند الله عز وجل لأنه قد صرفه لله تبارك وتعالى، وقل مثل ذلك في سائر أبواب وطرق تحصيل العلم الأخرى.

ثم أيضاً تحقق الإخلاص أمان بإذن الله وضمانة من الانحراف والزيغ إلى مقاصد أخرى، فإن طالب العلم كلما تذكر أنه يطلب العلم لله عز وجل، ويتعلم العلم لله تبارك وتعالى، دعاه ذلك إلى أن يراجع نفسه ويتفاءل دائماً؛ لأن طالب العلم عرضة للهوى، وعرضة للانحراف، وعرضة لأن يكون العلم نفسه سبباً في انحرافه وضلاله كما سيأتي في بعض أنواع العلم الذي لا ينفع.

يمكن أن أضيف هنا نقطة مهمة حول قضية الإخلاص، وهي أن هذا الأمر واضح بالنسبة لمن يتعلم العلوم الشرعية، لكن من يتعلم علوماً غير شرعية، أي لا تتعلق بأحكام الشرع، وليس مصدرها النقل، إنما هي من علوم الناس في دنياهم، كمن يدرس الطب أو الهندسة أو الإدارة، فهذا أيضاً يصدق عليه هذا الأمر، ولكن كيف يخلص نيته؟

حينما يكون قصده أن ينفع المسلمين بما يتعلم، وأن يسد ثغرة يحتاجها المسلمون، فحينما يكون فعلاً صادق النية، يثاب على ذلك، أي أن القضية ليست قضية وجاهة اجتماعية، فإن بعض العلوم تعطي الإنسان وجاهة اجتماعية وقيمة اجتماعية، فهو يتعلم لأجل الوصول إلى هذه القيمة الاجتماعية، أو إلى النفع المادي، ثم إذا دار بينك وبينه حديث قال: إنك لم تنفع المسلمين، صحيح لكن أنت هل أنت تتعلم هذا الأمر لتنفع به المسلمين أو لا؟

فحينما يكون قصد المسلم في تعلم هذه العلوم أن ينفع المسلمين، وأن تتخلص الأمة من الاعتماد على أعدائها، فلا شك أن هذا الأمر الذي يقوم به عبادة لله تبارك وتعالى، أليس قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم والإصلاح بينهم في أمور دنياهم أمراً مطلوباً؟ فحينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الخير قال: (يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) أي أن كل عضو ينبغي أن يقوم الإنسان بحقه ونعمته فيتصدق، فقيل له: (ليس كلنا يجد ما يتصدق به، قال: كل تسبيحة صدقة) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل على دابته تحمله أو ترفع له عليها متاعه صدق).

إذاً: أنت إذا وجدت إنساناً تعثّر في الطريق ووقفت وساعدته، فعملك هذا صدقة، فلو أن إنساناً اخترع آلة وطورها للمسلمين وتنفعهم في ذلك، فلا شك أن هذا الأمر صدقة.

وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، الآن حينما تقود السيارة وتنزل وتزيل الأذى فإن هذا صدقة، بل إنه قد يكون سبباً لمغفرة الله عز وجل للإنسان.

تخيل أنت هذه القضايا وفرّع عليها من المسائل فسترى أن كل من عمل عملاً فيه نفع للمسلمين وفيه خير للمسلمين، فإن هذا الأمر عبادة وصدقة لله عز وجل، فما بالك فيمن كان نفعه أكثر؟ يعني إذا كان هذا الإنسان وجد متعثراً فحمل متاعه له على الطريق فما بالك بمن عمل عملاً فيه نفع للأمة كلها؟ بل من تجاوز نفعه ذلك مدى التاريخ، ومن بقي عمله نافعاً للمسلمين حتى بعد وفاته فلا شك أن ذلك صدقة وأمر يُكتب له عند الله تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم السريانية فتعلمها كما ثبت ذلك عنه رضي الله عنه.

حينما كان زيد يتعلم السريانية كان يتعلمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لم يأمره أن يضيع وقته، لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم علماً لا ينفع، إنما هو علم نافع، لكن هناك فرق فالعلوم الشرعية يحتاجها الناس كلهم، لأن هناك قدراً مشتركاً يحتاج الناس إليه، بخلاف العلوم الأخرى فهي من فروض الكفاية، فإذا قام بها من يكفي من الأمة فينبغي للمسلمين بعد ذلك أن يصرفوا تعلمهم إلى ما يدلهم على طريق الهداية، وما يعرفهم بالله عز وجل وما يعرفهم بشرعه وأحكامه.

العلم الذي لا يعمل به الإنسان

النوع الثاني من العلم الذي لا ينفع: الذي لا يعمل به الإنسان:

وليس المقصود العلماء ولا حتى طلاب العلم فحسب، بل المقصود به أي مسلم يعلم علماً لا يعمل به فإن هذا العلم لا ينفعه، فمن علم مثلاً أن شرب الخمر حرام ولم ينته ولم يرتدع عن ذلك فهو لم ينتفع بعلمه، من علم أن الكذب حرام، وأن الغيبة حرام، وإسبال الثياب، وأن إيذاء المسلمين إلى آخره..، فمن لم يعمل بهذه الأمور فهو داخل تحت من لم يعمل بعلمه.

إذاً: قضية العمل بالعلم ليس أمراً خاصاً بالعلماء، وليس أمراً خاصاً بطلاب العلم، بل كل من علم علماً في دين الله عز وجل ولم يعمل به فهو داخل تحت هذه الدائرة.

ولهذا قال أحد السلف:

والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر

سيان عندي علم من لم ينتفع في علمه وصلاة من لم يطهر

يقول: إنه يستوي عندي من تعلم العلم فلم يعمل به، ومن صلى صلاة بغير طهارة؛ ولهذا جاء الوعيد في كتاب الله عز وجل لأولئك الذين لا يعملون بما يتعلمون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:2-4] فالعبرة والجزاء إنما هو بالعمل الذي يقوم به صاحبه.

وقد اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل نزلت في أولئك الذين يقولون: وددنا لو علمنا أفضل الأعمال فنعمله، أو في أولئك الذين يقولون فعلنا ولم يفعلوا؟

المقصود أن هذه الآية جاء فيها الدعوة إلى العمل، وأن المخالفة بين القول والعمل مما يوجب المقت، ثم أتبعها الله تبارك وتعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4] فهو تبارك وتعالى يحب العاملين بما علموا.

العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه

الأمر الثالث من العلم الذي لا ينفع، وإن كان هذا قريب من النوع السابق، ولكن ننص عليه لأهميته وإلا فهو جزء مما سبق، العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه في خشوعه وهديه وسمته:

واليوم تجد عزلة بين التقوى والورع والخشوع والسمت وبين العلم، وما عرفت الأمة هذه العزلة من قبل، بل هما أمران يجب أن يتلازما: فحين يكون عند المرء علم لا يقوده إلى ذلك، فقد أوتي علماً لا ينفعه، وحين يكون عنده خشوع وتخشّع وخشية بعيدة عن العلم فهو أشبه بحال الضالين من النصارى وأهل التصوف عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3-4].

ولهذا جاء وصف أهل العلم في كتاب الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

فالله عز وجل هنا قد وصف الذين يعلمون بأنهم قانتون ساجدون، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم، إذاً فالعلم كان مدعاة لأن يتحقق لديهم ذلك رجاء رحمة الله ورغبته، والخشية من عذابه والقنوت والعبادة والخشوع لله سبحانه وتعالى.

وفي سورة الإسراء قوله تبارك وتعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].

ولهذا قال أحد السلف: من أوتي من العلم ما لم يبكيه فحري ألا يكون أوتي علماً، ثم قرأ هذه الآيات.

نعم لأن الله عز وجل قال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109] فهذه حالهم، وهذا أثر العلم عليهم وما جلبه لهم؛ ولهذا كان الشأن في عهد سلف الأمة ألا يلبث الرجل يطلب العلم حتى يُرى أثر ذلك في تخشعه وصلاته وعبادته.

وكانوا كما قال جندب رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا به علماً).

وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لشأن مجالس الذكر التي تشهدها الملائكة كما أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله ملائكة سيارة يتبّعون حلق الذكر، فإذا جاءوا إلى هذا المسجد قالوا: هلمّوا إلى حاجتكم، ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيسألهم عز وجل فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبّحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، قال: فماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: فمم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قالوا: فيهم فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وهذا الحديث من أعظم الأدلة على هذا الأمر؛ لأنه وصف هؤلاء بأنهم يسبحون الله ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه، فهذا شأن طلبة العلم، وهذا شأن الذين يحضرون مجالس العلم، ثم هم يسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار، حتى حينما قال الله: قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا به كأنهم تساءلوا فقالوا: فيهم فلان خطاء، يعني أن الأصل في هؤلاء أنهم بعيدون عن المعصية والخطيئة، ولهذا لما رأوا ذاك الرجل جلس معهم كأنهم رأوا أن هذا ليس متصفاً بصفاتهم وليس مثلهم، فكأنهم رأوا أنه لا يستحق هذا الجزاء الذي وُعد به هؤلاء، وهذا الرجل ما استحق هذا الأمر إلا بصحبته هؤلاء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فإذا كان هذا الجليس قد غُفر له لأنه جالسهم وصاحبهم، فما بالكم بحالهم هم؟ فأنت لا تطمع وتطمح أن تكون مثل هذا الرجل لأن هذا الرجل كما جاء في هذا الحديث قد غُفر له، لأنه صاحبهم ولأنه جالسهم، وهذا يعني أن منزلة هؤلاء وأن ثواب هؤلاء أعظم مما يصل إليه هذا الإنسان الذي ما غُفر له إلا لأنه جالسهم، فكيف إذا كان مثلهم وعمل مثل عملهم؟

إذاً يجب علينا أيها الإخوة أن نتفقد أنفسنا، وأن نتساءل: أين أثر العلم على هدينا وعلى سلوكنا وسمتنا وخشوعنا؟ ولماذا نرى أن قضية الورع وقضية الهدي والخشوع والعبادة باب آخر غير باب العلم؟ لا. فهما قرينان لا يفترقان؛ ولهذا حين قيل للحسن وهو من أورع الناس: يا عالم، قال: هل رأيت عالماً قط؟ إنما العالم من يخشى الله عز وجل.

وكما كان قول السلف: العلم الخشية، فهذا هو العلم وحقيقة العلم، فهل طلبنا للعلم الآن وتعلمنا له وتعليمنا مما يورث عندنا هذه الخشية والخشوع والتقوى؟ هل نجد ذلك في مجالس العلم؟ أم أن هناك بابين منفصلين لا يلتقيان: باب الرقائق والوعظ، وباب العلم..

أهل العلم لا يعرفون هذه العزلة، ولا يعرفون هذه الهوة، إنما كانوا في تعلمهم يربطون بينهما، ولهذا كان يقول إبراهيم : كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله.

ويقول ابن وهب من تلامذة الإمام مالك : ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، أي أنه تعلم منه الهدي والعلم والسمت أكثر مما تعلم من مسائل العلم، والإمام مالك فقيه معروف، والآن قطاع من الأمة ينتسب إلى مذهبه رحمه الله ورضي عنه.

أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

فهو يكتسب العلم والحلم.

إذاً القضيتان متصلتان ومرتبطتان؛ ولهذا إذا رأينا أننا في طلبنا للعلم وفي تعلمنا للعلم نفتقد ما يحرك القلوب، ونفتقد ما يقوي الإيمان ويزيد الإيمان فلنراجع أنفسنا، نراجع نوايانا، نراجع تعلمنا وتعليمنا، وطبيعة العلم الذي نتعلمه إلى آخره...

المهم أن هذا هو الأصل، وإذا رأينا خللاً في ذلك فلنراجع أنفسنا، فهذا من العلم الذي قد لا ينفع صاحبه، وما لم يترك أثره على صاحبه في حياته فما قيمته؟ ما قيمة أن نحفظ المواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سلف الأمة والصحابة والتابعين، ثم لا نتجاوز بذلك مجرد العلم والمعرفة والترفيه؟

العلوم التي لا تنفع في أصلها

الأمر الرابع: العلوم التي في أصلها لا تنفع:

هناك علوم قد يشتغل بها الإنسان فلا تنفعه، وقد يهتم الإنسان أحياناً بمطالعات وقراءات وتعلم علوم، وتراه فقيهاً في هذه العلوم وهي لا تجلب له مصلحة لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7] نفى عنهم العلم فقال: لا يَعْلَمُونَ [الروم:6] ثم قال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] أثبت لهم العلم بعد أن نفاه عنهم، فهو هنا قد نفى عنهم العلم المعتبر في اصطلاح الشرع، أو أنهم لا يتعلمون علماً ينفعهم، فبركة هذا العلم وأثره قد نفيت عنهم، ثم أثبت لهم العلم فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وأي علم لا ينفع الإنسان في دينه ولا في دنياه هو داخل تحت هذه الدائرة وهذا الصنف، وما أكثر الناس اليوم ممن يتعلمون ويقرءون، ويبذلون جهوداً ومع ذلك لا ينتفعون بما تعلموا، بل قد ينتفع الناس بما تعلموا من هؤلاء وعلموهم به وهم حطب جهنم عافانا الله وإياكم.

أضرب لكم مثالاً حتى تعرفوا الفرق بين قضية تصحيح وسلامة نية الإنسان ودينه وبين ظلامه.

مثلاً: الذي اخترع الكهرباء كم ينتفع به الناس اليوم، فماذا حقق هؤلاء؟

تاه الأنام بقولهم فاليوم صاحي القوم عربد

والله لا موسى ولا عيسى الكليم ولا محمد

عرفوا ولا جبريل وهو إلى مقام القدس يصعد

من كنه ذاتك غير أنك واحد في الذات سرمد

فليخسأ الحكماء عن ذات له الأفلاك سجد

من أنت يا رسطو ومن أفلاط مثلك يا مبلد؟

ومن ابن سينا حين قرر ما هذيت به وشيد؟

أي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وجبريل وغيرهم لم يعرفوا عن الله تبارك وتعالى إلا أنه واحد تبارك وتعالى في الذات فقط، فهل أنتم يا أفلاطون وابن سيناء وفلان وفلان علمتم علماً لم يعلمه هؤلاء؟ فما قيمة ما تعلمه هؤلاء؟ وكما يقول أحدهم حين يحكي عن نفسه:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها وجولت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

يعني طاف وذهب وفعل وتعلم، ثم بعد ذلك لم ير علماً ولهذا أبو المعالي الجويني والرازي وغيرهم، أوصوا من بعدهم ألا يخوضوا في هذا العلم ولا يتعلمونه؛ لأنه علم عرف هؤلاء أنه لا ينفع كما قال الرازي : ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وتعلم مثل ما تعلمت.

استخدام العلم للصد عن حدود الله

النوع السادس وهو من أخطرها: حينما يستخدم الإنسان هذا العلم للصد عن حدود الله:

وما أخطر ذلك أيها الإخوة، ما أخطر أن يوظف العلم للصد عن سبيل الله، والقمة في ذلك هم ضُلّال أهل الكتاب، حكى الله تبارك وتعالى عنهم فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:51-54].

جاء كفار قريش إلى أهل الكتاب فسألوهم أهم خير وأهدى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أنتم فنزلت هذه الآيات.

مع أن أهل الكتاب يعلمون تمام العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فكانوا قد جعلوا هذا العلم الذي تعلموه مجرد صد، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ [آل عمران:99] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71] فهؤلاء قد جعلوا هذا العلم وسيلة للبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، فيأتي الإنسان وقد أوتي بياناً وحجة، وأوتي علماً، وحفظ من المتون والأقوال والمسائل، فيأتي ينزل هذه النصوص وينزل هذه الأقوال، وينزل هذا العلم على وقائع ليست على ما جاءت عليه، فيكون سبباً للصد عن سبيل الله، وسبباً لفتنة الناس عن دين الله عز وجل، وما أكثر هذا الصنف!

كتم العلم

سابعاً من العلم الذي لا ينفع: حينما يكتم المرء العلم:

قد لا يلبس الحق بالباطل، وقد لا يصد عن سبيل الله، لكنه قد يكتم العلم الذي يجب عليه بيانه كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:159-160].

حينما يجب على الإنسان أن يبين العلم فيكتمه يتعرض لهذا الوعيد، فيصبح هذا العلم غير نافع لصاحبه، ما قيمة العلم الذي تعلمه؟ وهب أنه حصّل ما حصّل لقد كان هذا العلم سبباً لأن تحيق عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين عافانا الله وإياكم، ولهذا يخبرنا تبارك وتعالى أنه أخذ الميثاق وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:187-188].

ولهذا من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار عافانا الله وإياكم.

إذاً فحين يكتم المرء العلم في موقف يجب عليه أن يبينه فإنه لا ينتفع بعلمه، وأشد من ذلك الصنف الذي قبله الذين يلبسون الحق بالباطل ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا شك أن الذي يوظف العلم للفتنة والصد عن سبيل الله ويأخذ مقابل ذلك أجراً أنه ممن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174].

صورة أخرى نراها كثيراً في واقعنا، وهي من صور العلم الذي لا ينفع، هذه الصورة تتمثل في نماذج من الناس، ممن تعلم العلم الشرعي، وحصل على شهادات وعلى مناصب، كم هم الآن في العالم الإسلامي خريجو الكليات الشرعية والدراسات الشرعية؟ ثم بعد ذلك بقي هذا الإنسان في عمل لأجل أن يأخذ على ذلك أجراً ومرتباً ولم تستفد الأمة ولم يستفد أحد من هذا العلم الذي تعلمه، بل صار من أبعد الناس عنه، فهذه صورة من العلم الذي لا ينفع، والذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه بعض الصور أيها الإخوة من العلم الذي لا ينفع، ولا نستطيع أن نحصره في دائرة واحدة فكل علم لم يحقق للمرء مصلحة في الآخرة وهي المقصود الأعلى والأهم من تحصيل العلم، أو مصلحة في دنياه فهو داخل تحت هذا العلم الذي يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله منه في دعاءه.

فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، ونستعيذ به تبارك وتعالى من العلم الذي لا ينفع، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

من أول مجالات العلم الذي لا ينفع: العلم الذي لا يُخلص فيه العبد لله عز وجل:

حينما لا يخلص النية لله تبارك وتعالى فإنه سيفقد نفع هذا العلم، وهذا الأمر واضح بأن العلم عبادة شرعية يتعبد بها الإنسان لله تبارك وتعالى، والعبادات لا يثاب عليها الإنسان ولا تحمد إلا حين يبتغي بها وجه الله عز وجل، بل حقيقة العبادة أصلاً هي التقرب إلى الله وابتغاء وجه الله عز وجل، هذه العبادة أن يتقرب الإنسان إلى الله في أي عمل، سواء كان عملاً قلبياً، أو بلسانه، أو بجوارحه..

العمل الخالص الذي يرضى الله تبارك وتعالى أن يتقرب العبد به إليه، فإذا كان هذا الإنسان لا يخلص فمعناه أنه لا يتقرب إلى الله قط، فقد بطل أصلاً مقصود العبادة.

والله تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فهو القائل عز وجل: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) كما حدثنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

بل قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على وعيد لأولئك الذين يفتقدون الإخلاص في طلبهم للعلم، فمن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، فمن تعلم العلم الشرعي لغير الله فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد، وهو ألا يجد ريح الجنة عافانا الله وإياكم.

إذاً: فهذا الرجل الذي لم يخلص النية في طلب العلم متوعد على تعلمه، بل هو يوم القيامة من أول من تسعر بهم النار، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: (قارئ تعلم العلم فيأتي به الله عز وجل فيعرّفه نعمه فيعرفها فيقول: ما عملت؟ قال: تعلمت وقرأت، فيقال: كذبت تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) عافانا الله وإياكم.

إن الله عز وجل قد أعطاه نعمة؛ ولهذا عرّفه بهذه النعمة فعرفها وتعرّف عليها وأدركها لكنه تعلم ليقال عالم، وقرأ ليقال قارئ، ولهذا صار من أول من تسعر بهم النار، ولا شك أن هذا أعظم فوات لنفع العلم؛ لأن أهم مطلوب وأعلى مطلوب الإنسان في حياته هو نجاته من هذه النار.

ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى استحضار النية والإخلاص في أي وسيلة، أي باب، أي طريق من طرق العلم، واستحضار النية يجعل الإنسان يشعر أن عمله عبادة.

يخرج من أول النهار، ويذهب إلى المدرسة أو إلى الجامعة، ويبقى فيها إلى ما بعد صلاة الظهر ثم يعود، وقد يبذل جهداً خارقاً وقت الدراسة لمتابعة بعض التكاليف، هذا الإنسان حينما تكون نيته خالصة لله عز وجل يكون هذا الوقت والجهد الذي صرفه عبادة لله تبارك وتعالى، فيثاب عليه عند الله عز وجل لأنه قد صرفه لله تبارك وتعالى، وقل مثل ذلك في سائر أبواب وطرق تحصيل العلم الأخرى.

ثم أيضاً تحقق الإخلاص أمان بإذن الله وضمانة من الانحراف والزيغ إلى مقاصد أخرى، فإن طالب العلم كلما تذكر أنه يطلب العلم لله عز وجل، ويتعلم العلم لله تبارك وتعالى، دعاه ذلك إلى أن يراجع نفسه ويتفاءل دائماً؛ لأن طالب العلم عرضة للهوى، وعرضة للانحراف، وعرضة لأن يكون العلم نفسه سبباً في انحرافه وضلاله كما سيأتي في بعض أنواع العلم الذي لا ينفع.

يمكن أن أضيف هنا نقطة مهمة حول قضية الإخلاص، وهي أن هذا الأمر واضح بالنسبة لمن يتعلم العلوم الشرعية، لكن من يتعلم علوماً غير شرعية، أي لا تتعلق بأحكام الشرع، وليس مصدرها النقل، إنما هي من علوم الناس في دنياهم، كمن يدرس الطب أو الهندسة أو الإدارة، فهذا أيضاً يصدق عليه هذا الأمر، ولكن كيف يخلص نيته؟

حينما يكون قصده أن ينفع المسلمين بما يتعلم، وأن يسد ثغرة يحتاجها المسلمون، فحينما يكون فعلاً صادق النية، يثاب على ذلك، أي أن القضية ليست قضية وجاهة اجتماعية، فإن بعض العلوم تعطي الإنسان وجاهة اجتماعية وقيمة اجتماعية، فهو يتعلم لأجل الوصول إلى هذه القيمة الاجتماعية، أو إلى النفع المادي، ثم إذا دار بينك وبينه حديث قال: إنك لم تنفع المسلمين، صحيح لكن أنت هل أنت تتعلم هذا الأمر لتنفع به المسلمين أو لا؟

فحينما يكون قصد المسلم في تعلم هذه العلوم أن ينفع المسلمين، وأن تتخلص الأمة من الاعتماد على أعدائها، فلا شك أن هذا الأمر الذي يقوم به عبادة لله تبارك وتعالى، أليس قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم والإصلاح بينهم في أمور دنياهم أمراً مطلوباً؟ فحينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الخير قال: (يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) أي أن كل عضو ينبغي أن يقوم الإنسان بحقه ونعمته فيتصدق، فقيل له: (ليس كلنا يجد ما يتصدق به، قال: كل تسبيحة صدقة) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل على دابته تحمله أو ترفع له عليها متاعه صدق).

إذاً: أنت إذا وجدت إنساناً تعثّر في الطريق ووقفت وساعدته، فعملك هذا صدقة، فلو أن إنساناً اخترع آلة وطورها للمسلمين وتنفعهم في ذلك، فلا شك أن هذا الأمر صدقة.

وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، الآن حينما تقود السيارة وتنزل وتزيل الأذى فإن هذا صدقة، بل إنه قد يكون سبباً لمغفرة الله عز وجل للإنسان.

تخيل أنت هذه القضايا وفرّع عليها من المسائل فسترى أن كل من عمل عملاً فيه نفع للمسلمين وفيه خير للمسلمين، فإن هذا الأمر عبادة وصدقة لله عز وجل، فما بالك فيمن كان نفعه أكثر؟ يعني إذا كان هذا الإنسان وجد متعثراً فحمل متاعه له على الطريق فما بالك بمن عمل عملاً فيه نفع للأمة كلها؟ بل من تجاوز نفعه ذلك مدى التاريخ، ومن بقي عمله نافعاً للمسلمين حتى بعد وفاته فلا شك أن ذلك صدقة وأمر يُكتب له عند الله تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم السريانية فتعلمها كما ثبت ذلك عنه رضي الله عنه.

حينما كان زيد يتعلم السريانية كان يتعلمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لم يأمره أن يضيع وقته، لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم علماً لا ينفع، إنما هو علم نافع، لكن هناك فرق فالعلوم الشرعية يحتاجها الناس كلهم، لأن هناك قدراً مشتركاً يحتاج الناس إليه، بخلاف العلوم الأخرى فهي من فروض الكفاية، فإذا قام بها من يكفي من الأمة فينبغي للمسلمين بعد ذلك أن يصرفوا تعلمهم إلى ما يدلهم على طريق الهداية، وما يعرفهم بالله عز وجل وما يعرفهم بشرعه وأحكامه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2597 استماع
الشباب والاهتمامات 2467 استماع
وقف لله 2329 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2259 استماع
كلانا على الخير 2220 استماع
يا أهل القرآن 2195 استماع
يا فتاة 2186 استماع
الطاقة المعطلة 2124 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2086 استماع
من حق إخوتنا علينا 2073 استماع