أعيدوا للمساجد مكانتها
مدة
قراءة المادة :
21 دقائق
.
أعيدوا للمساجد مكانتهاالمسجد بيت كل مؤمن، وراحة كل تقي، ومنطلق كل قوي، المسجد خير البقاع وأطهرها، وأفضل الأماكن وأرفعها.
المسجد في الإسلام شأنه كبير، وحقه على المسلمين عظيم، وحسبك أنه بيت الله، فله حقوقٌ عظيمة، وآدابٌ كريمة، يجب على المسلمين أن يتأدبوا بأدبه ويقوموا بحقه.
1ـ أن نخرج إليه في أحسن صورة:
قال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31].
كثيرٌ من المصلين اليوم لا يهتم بلباسه عند خروجه إلى الصلاة، بل يصلي بثيابه التي عليه، ولو كانت رثة، أو لها رائحةٌ كريهة؛ كثياب المهنة، ورداء العمل، فيؤذي المصلين بدَرَنها، ويزكم أنوفهم برائحتها، وهذا منهيٌّ عنه شرعًا.
ولو أن أحد هؤلاء أراد مقابلة شخصٍ له جاهٌ دنيويٌّ لارتدى أجمل ما يملك، ولَتَطيَّب بأحسن ما يجد! فكيف نعتني بالوقوف أمام المخلوق، ولا نعتني بالوقوف أمام الخالق جلَّ جلالُه؟!
فحريٌّ بالمسلم أن يستشعر عظمة من يقف بين يديه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ فِي ثَوْبَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ فَلْيَأْتَزِرْ بِهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ، وَلَا تَشْتَمِلُوا اشْتِمَالَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ))[1].
ومن تمام حسن الهيئة وجمال المظهر: أن يكون المصلي طيب الرائحة، مبتعدًا عن كل ما له رائحةٌ كريهة، سواء كانت من الجسم ذاته؛ كرائحة العرق، أم من أسبابٍ خارجة؛ كرائحة الثُّوم والبصل والدخان ونحوها.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فإن الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدم))[2].
وإذا كان هذا هو الحكمَ الشرعيَّ في أكل الثُّوم والبصل، وهي من المباحات، فكيف يكون حكم شرب الدخان ونحوه، وهو مُحرَّمٌ شرعًا؟ وكيف يُناجي العبد ربَّه بتلاوة كلامه، وذكره، ودعائه، بهذا الفمِ ذي الرائحة الكريهة؟
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ))[3]، فكيف بمَنْ آذاهم في مساجدهم؟
2ـ أن نبادر إليه إذا نادى فيه المنادي:
وهنا تبدأ عمارة المساجد على الحقيقة؛ قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور: 36- 38].
وفي الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ)).
قال الإمام النووي: "التهجير: التبكير إلى الصلاة، أيِّ صلاةٍ كانت...."[4].
وقد كان السلف رضي الله عنهم يبادرون إلى المساجد إذا سمعوا نداءها؛ لأنهم عرفوا قدرها، فنعم القدوة هم بعد نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
يقول عدي بن حاتم: "مَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةٍ قَطُّ حَتَّى اشْتَاقَ إِلَيْهَا"[5]، وقال: "مَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلا وَأَنَا عَلَى وُضُوءٍ"[6].
وعن عَبْدِالرَّحْمَنِ بْن عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: "مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ أَكُونَ مَرِيضًا أو مسافرًا"[7].
وَقَال وكيع: "كَانَ الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفُتْه التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريبًا من سنتين ما رأيته يقضي ركعة"[8].
وقال قاضي الشام سليمان بن حمزة المقدسي ـ وهو من ذرية ابن قدامة، صاحب المغني: "لَمْ أُصَلِّ الفَرِيْضةَ قَطُّ مُنْفَرِدًا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، وَكَأَنِّي لَمْ أُصَلِّهِمَا قَطُّ" وقد قارب التسعين من عمره[9].
إذا حققت هذه المبادرة:
• سيتعلق قلبك بالمسجد، وستكون من السبعة السعداء الذين يُظلهم الله في ظِلِّه يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:....
وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُتعَلِّقٌ بالْمَساجِدِ...)).
• تحصل على فضيلة الصف الأول الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا...))[10]، وقال: ((لو تعلمون ما في الصف المقدَّم ما كانت إلا قرعة))[11]، وقال: ((تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ))[12].
• ستحظى بفضيلة الدعاء بين الأذان والإقامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الدُّعاء بين الأذان والإقامة لا يُردُّ، فادعوا))[13].
• ستدرك التكبيرة الأولى، وستنال أجرها، وتكسب فضلها، الذي قال عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ))[14].
• تستطيع أن تخشع في صلاتك، وقد علمتَ أن الخشوع في الصلاة هو روحُ الصلاة؛ فقد قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2].
وإذا خرجت من بيتك مبادرًا إلى الصلاة، سُنَّ لك أن تدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا))[15].
ومن آداب المشي إلى المساجد: أن تمشي إليها بسكينةٍ ووقار، حتى تصل إلى الصف، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: ((مَا شَأْنُكُمْ؟))، قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)).
3ـ أن تُقدِّم رجلك اليُمْنى عند دخولك، واليُسْرى عند خروجك:
لأن اليمين أُعِدَّت لكل ما هو من باب التكريم، واليسار لما هو ضد ذلك، وهذه الصفة يُخِلُّ بها كثيرٌ من الناس، جهلًا أو عجلةً، مع أنها السُّنة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُسْرَى"[16].
4ـ أن تقول عند دخولك، وعند خروجك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ))[17].
وسِرُّ تخصيص طلب الرحمة بالدخول، وسؤال الفضل بالخروج، أن من دخل المسجد اشتغل بما يُقرِّبه إلى الله وإلى رضوانه وجنَّته، من صلاةٍ وذكرٍ ودعاء، فناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج انشغل بابتغاء الرزق، فناسب ذكر الفضل؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10].
وعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ((كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَالَ: أَقَطْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ))[18].
5ـ أن يصليَ الداخل ركعتين حين يدخل:
وهذه الصلاة تُسمَّى تحية المسجد، ففي الصحيحين من حديث أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ)).
وفي الصحيحين من حديث جابرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: ((أَصَلَّيْتَ؟))، قَالَ: لَا، قَالَ: ((فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ)).
واعلم أنه لا صلاة إذا أُقيمت الصلاة، ففي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ)).
فمن شرع في صلاةٍ فليقطعها، وليدخل في المكتوبة، فقد أخرج ابن أبي شيبة عَنْ بَيَان، قَالَ: "كَانَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ يَؤُمُّنَا، فَأَقَامَ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً، قَالَ: فَتَرَكَهَا ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى بِنَا".
6ـ ألا يحضره الأطفال الصغار غيرُ المميِّزين، إلا مع أوليائهم:
والعمدة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر))[19].
فأفاد الحديث أن الولد إذا بلغ السابعة، وجب على أبيه أن يُعلِّمَه الصلاة، ويُحبِّبَه فيها، ويدفعه إلى المسجد، لينشأ على حُبِّ العبادة، والتعلُّق ببيوت الله، فيسهل عليه الأمر بعد البلوغ، أما قبل أن يبلغ الولد السابعة، فلا يحضر إلى المسجد إلا في صحبة وليِّه، من أبٍ أو عمٍ أو أخٍ يصحبه في يده، يجلس بجواره، أمَّا أن يوجد في المسجد أطفال السنوات الثلاث، والسنوات الأربع، والسنوات الخمس، يعبثون في بيت الله، ويُشوِّشُون على المصلِّين ويفسدون صلاتهم، فهذا مما لا يقره شرعٌ، ولا يقبله عقل.
وقد جاء في الصحيحين من حديث أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ: فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قام حملها".
ومن الجدير بالذكر: أن الصبي المميِّز له مكانه في الصف الأول، ولا ينبغي إبعاده إذا وقف فيه، لأسبابٍ كثيرة، منها:
• أن صلاته صحيحة، فهو كغيره.
• أن طرد الصبي من الصف الأول يؤدي إلى كسر قلبه، وتنفيره من الصلاة، وإبعاده عن المسجد.
• اجتماع الصبيان في صفٍّ واحد متأخرٍ، سببٌ في لعبهم وتشويشهم، وغيرها.
وهذا قول جمهور الفقهاء.
7ـ ألا يُباع فيه ولا يُشترَى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ"[20].
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَاهُ فَسَأَلَهُ: مَا مَعَكَ؟ وَمَا تُرِيدُ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ، قَالَ: "عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ".
8ـ ألا تُنشَد فيه الضالَّة، ولا يُستخدَم في شيءٍ إلا ما كان من عبادة:
فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هُرَيْرَةَ، أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ـ أي يطلبها ـ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا".
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا وَجَدْتَ! إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ))[21].
9ـ ألا يُتَّخَذَ طريقًا:
فالمساجد ليست طرقًا يمُرُّ الناس فيها لقضاء حاجاتهم، أو لتعبئة آنيتهم، أو نحو ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَتَّخِذُوا الْمَسَاجِد طرقًا إِلَّا لذكر أَو صَلَاة))[22]، وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَلَّا يُسَلِّمَ الرَّجُلُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْرِفُ"[23].
10ـ ألا يُزخرف، ولا يُسرف في تزيينه:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ))[24].
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجدِ))[25].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "إِذا زَخْرَفْتُمْ مَساجِدَكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصاحِفَكُمْ فالدَّمارُ عَلَيْكُم"[26].
وفي صحيح البخاري، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النَّاسَ، وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زخرفت اليهود والنصارى.
11ـ ألا تُرفعَ فيه الأصوات:
كثيرٌ من الناس يرتفع في المسجد صوتُه، وقد يقع في الجِدال، والسَّبِّ، والشتم، عياذًا بالله، ونسي هذا الظلوم أنه في بيت الله! ولو كان في بيتِ صاحبٍ له، والله ما تجرَّأ أن يصدر منه ذلك!
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى من يقرأ القرآن أن يرفع صوته، لئلا يشوش على غيره، فكيف بمن يرفع صوته في المسجد بغير القراءة.
فقد روى البخاري في صحيحه من حديث السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا، أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
12ـ أن نحافظ على نظافته:
فإذا كانت النظافةُ عمومًا من الإيمان، فإن نظافة المسجد من أوثق عُرى الإيمان، فعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ" [27].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ))[28].
ولتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد، وحرصه على نظافته، "أنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- أي تُنظِّفه - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا: مَاتتَ، قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِها، فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ"[29].
13ـ تعميره بدروس العلم، ومجالس العلماء:
وهذا لعَمرُ الله - بعد الصلاة - العمارة الحقيقية لبيوت الله.
فمهمة العالم والداعية، ليست أن يؤمَّ الناس في الصلاة فقط، هذا يُحسنه الكثير، ولكن المهمة الرئيسة للعالم والداعية وإمام المسجد، أن يُعلِّم الناس دين ربِّهم، أن يُعلِّمهم ما تصح به عقيدتهم وعبادتهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم، بل وأفكارهم وتصوراتهم، ووجب على الناس أن يُعطوا من أوقاتهم لتعلُّم دين ربهم، وأن يُثنوا رُكبَهم بين أيدي علمائهم.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يحثُّ المسلمين على التماس العلم في بيوت الله، ويرغبُهم في الجلوس في مجالس العلم، ويذمُّ المعرضين عنها.
ففي الصحيحين من حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ))".
فالمسجدُ محطةُ وقودٍ للتزوُّد بالعلم، ومركز توزيعٍ لنشر العلم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((من غدا إلى المسجدِ لا يريد إلَّا أنْ يتعلَّم خيرًا أو يُعلِّمه، كان له كأجرِ حاجٍّ، تامًّا حجَّتُهُ))[30].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يعلِّمه كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كان كالناظر إلى ما ليس له))[31].
[1] رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في الصحيحة.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه الطبراني في الأوسط، وانظر صحيح الجامع.
[4] شرح النووي على مسلم.
[5] تعظيم قدر الصلاة: محمد بن نصر المَرْوَزِي.
[6] سير أعلام النبلاء.
[7] تاريخ أبي زرعة الدمشقي.
[8] حلية الأولياء.
[9] شذرات الذهب في أخبار من ذهب: عبدالحي بن أحمد بن محمد بن العماد العَكري الحنبلي، أبو الفلاح (ت ١٠٨٩هـ).
[10] متفق عليه.
[11] رواه مسلم.
[12] رواه مسلم.
[13] رواه أحمد وابن خزيمة.
[14] صحيح سنن الترمذي.
[15] رواه مسلم.
[16] رواه الحاكم، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
[17] رواه مسلم.
[18] صحيح سنن أبي داود.
[19] رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني.
[20] صحيح سنن الترمذي.
[21] رواه مسلم.
[22] صحيح الترغيب والترهيب.
[23] رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[24] صحيح أبي داود.
[25] متفق عليه.
[26] صحيح الجامع الصغير.
[27] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
[28] رواه مسلم.
[29] متفق عليه.
[30] رواه الطبراني في الكبير، وانظر صحيح الترغيب والترهيب.
[31] أخرجه أحمد، وابن حبان، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، وحسَّنه الألباني في التعليقات الحسان.