شكل الدولة - محمد جلال القصاص
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
بسم الله الرحمن الرحيم؛ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.السياسةُ اتجاهاتٌ.
أطرٌ عامة تحدد الاستراتيجيات (الخطط المتوسطة والطويلة) والتكتيكات (الخطط قصيرة المدى)؛ وخطابات الزعماء والقادة عبارة عن سياسات؛ ولذا فإن قراءة خطاب رئيس دولة ما لابد أن ينصب على استكشاف سياسات النظام..
إلى أين يتجه؟، أو إلى أين يريد أن يتجه؟
ويصعب قراءة سياسة النظام الحالي في مصر على أنه إرادة فرد، وإنما إرادة المنظومة الأمنية التي كانت تحكم ثم عادت تحكم: ماذا تريد هذه المنظومة؟، ما هي قضيتها؟..
إلى أين تتجه؟
صرح السيسي في خطابه يوم 24/2/2016م بأن إنجازه الأكبر، وهدفه الأكبر في ذات الوقت ، هو الحفاظ على شكل الدولة بعد أن تهدده الإسلاميون، يقول: " كل المخاطر لا قيمة لها بعد التعرض لشكل الدولة".
وظل هذا المعنى حاضرًا في خطاب السيسي، يستحضره عمدًا ليبقى بخاطر من يسمع.
وشكل الدولة شيء والدولة ذاتها شيء آخر.
شكل الدولة هو نظام الحكم فيها..
هو القيم الحاكمة وكيفية تطبيقها في أرض الواقع.
بالأدق: من يحكم؟: منظومة العلمانية بتفرعاتها الكثيرة، أم الشريعة الإسلامية؟.
وعلى سبيل الاستئناس أذكِّر بدراسة استغرقت أكثر من ثلاثين عامًا قام بها أحد أكبر القامات السياسية في مصر وهو الأستاذ الدكتور أحمد يوسف أحمد على الصراع بين الأنظمة العربية، وخلص إلى نتائج على رأسها أن قضية الحكم (من يحكم وبم يحكم) هي قضية الصراع الأولى بين الجميع، مع أنهم يظهرون خلاف ذلك!! [الدراسة منشورة بعنوان: الصراعات العربية العربية، (القاهرة، معهد البحوث والدراسات، 2012)، والدكتور أحمد قومي عربي، واستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية سابقًا].
ولذا فإن أول قضية ثارت بعد ثورة يناير 2011م كانت "الدولة المدنية"- وهو مظلة كبيرة لشكل الدولة بعيدًا عن التصور الإسلامي- يطالبون بها ويتخوفون على الإسلاميين منها، ولذا حين تداعوا للاصطفاف ضد العسكر خرج وائل غنيم من قبره يقول: علينا أن نتفق بداية على "شكل الدولة"، وبمثل قوله نطق البرادعي.
والقيم الحاكمة تتجلى في كل شيء كبر أو صغر؛ ابتداءً من اختيار الحاكم، وطريقة الحكم، ومرورًا بمناهج التعليم، وقواعد الاقتصاد وأدواته وآلياته، وانتهاءًا بشكل العمران والذي أفرد له السيسي جزءًا كبيرًا من خطابه، فطريقة بناء الدار (البيت) في التصور الإسلامي مختلفة عن طريقة بناء المجزءات (الشققpartments)، البيت في التصور الإسلامي فسيح يجمع ثلاثة أجيال، ليتعلم الصغير من الكبير ويتفرغ الأوسط لمكابدة الحياة، والبيت في التصور الإسلامي ساتر عن المارة والجيران، والشقق الحديثة كاشفة لا تكفي لنصف جيل (لا لثلاثة أجيال)، لا تستطيع ربة البيت التحرك فيها كما تشاء في حضرة الضيوف وخاصة التصاميم الجديدة، وتقل قدرة الزوجين على المتعة في حضرة الأبناء، وتنكشف عورات الأبناء ويقل الحياء ، ولذا انصرف النظام لبناء وحدات سكنية ملحقة على المدن ترسيخًا لشكل الدولة الحديثة، وتكريسًا لدورة الحياة القصيرة التي يتحكمون بها في الناس، فما أن يفيق الفرد من الزواج وتكاليفه، حتى يجد الأبناء قد كبروا وضاق بهم السكن، فيدخل في دورة جديدة بحثًا عن فسحة لأبنائه، وهكذا فلا ينفك من هذا الضيق المتعمد وأرض الله واسعة لولا المفسدون...
المشاريع التي أعلن عنها في الرؤية تهدف إلى بقاء شكل الدولة الحديثة، وتعميق الخنادق حول المشروع الإسلامي اجتماعيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا.
عن طريق إغراق الدولة في الديون الخارجية، وإهدار إمكانات الأمة فيما لا ينفع تمريرًا لهذه المرحلة، فعامة ما ذكره السيسي تحت مسمى بناء البنية التحتية هو في حقيقته إهدار للإمكانات!!
الماء العذب الزلال الكثير الذي يأتينا بلا مال تمنعه دولة من أفقر الدول وأضعفها (دولة الأحباش)، ثم يكون الحل أن نشرب الماء النجس (ماء المجاري) وننفق الأموال الطائلة في تكريره!!، والغاز في بلادنا بكميات تكفي المنطقة كلها نتركه للغريب (قبرص وتعاقدات شركات التنقيب) ثم نستورده ممن كنا نصدره له بالأمس بأغلى الأثمان، والطرق عامة ما ينفق عليها في إطار الصيانة التي يفترض أنها تتم بشكل دوري ومن دخل الجهات المختصة بها، وأخطر من هذا كله أنه يتم صناعة طبقية في المجتمع لصالح ترسيخ شكل الدولة الحالي والحيلولة دون شكل الحكم الإسلامي أو أي شكل آخر يعطي الناس حريةً وكرامة إنسانية، وذلك بترسيخ السلطة التنفيذية والتشريعية وسلطة الفصل بينهما (القضاء)، وكذا رؤوس الأموال، في يد طبقة معينة، وإبعاد باقي أفراد المجتمع عن السلطة (التنفيذية والتشريعية والقضائية ورؤوس الأموال).
يتحركون منذ مدة إلى توليد طبقة تتحكم في المال والسلاح والحكم، ويرسخون عزلها اجتماعيًا بمميزات سيادية ومادية، وعزلها جغرافيًا في مدن (أو أحياء) خاصة بهم، ومن أوضح المشاريع على ذلك مشروع فاروق الباز المسمى (ممر التعمير)، ومشروع العاصمة الجديدة.
وبالمقابل يتجه النظام للطبقة المهمشة سياسيًا والمعدومة اقتصاديًا بغير قليل من المنة، يمن عليهم بما هم فيه من فقر وضيق.
يقول: سكت عن وجود سبعة ملايين موظف لا تحتاج الدولة منهم إلا مليونًا واحدًا، وما زال يحافظ على رواتبهم كما هي لم يخصم منها غير القليل، وأنه يقدم لهم بعض الدعم على السلع الأساسية، وأنه سيوفر لهم فرص عمل كعمَّال في مشاريع الإسكان المزعومة، وضمنًا يتهددهم بعمالة من الخارج.
وفي ذات الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع الغذائية الأساسية التي هي قوام حياة الغلبان المطحون، ولا يجد انتاج الغلبان (الفلاح وصغار المنتجين) من يأخذه بسعر التكلفة فضلًا عن الربح.
ففي ظل هذا النظام ازداد الفقير فقرًا وازداد المستفيد من شكل الدولة الحالي طغيانًا وكبرًا.
ولا يجدون من يحاسبهم..
من يسألهم عن الممنوع والمقطوع من موارد الدولة..
عن الإمكانات المعطلة والمهدرة مما قد بسطه الله لعباده في الأرض ..
أرضًا تزع ومعادنًا تستخرج، وبحارًا وأنهارًا، وطاقات بشرية، وموقعًا جغرافيًا...
الغريب في الأمر أن الإسلاميين إلى الآن لا يفهمون القضية بشكل جيد، لا يفهمون أن "شكل الدولة" في تصورهم غير شكلها الحالي، وأنهما لا يجتمعان، وأنهم في معادلة صفرية.
يبقى شيء أعتقد أن من المهم استحضاره هنا، وهو أن المشهد الأوسع (الدولي تحديدًا) يراوح مكانه لشيء ما لم يتبين بعد، فما يحدث الآن هو بعينه ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية؛ بعد أن قسمت الأمة العربية إلى (دول) شغلت الدول بما سمي وقتها (بناء الدولة)، وكان الهدف تغيير بنية المجتمع سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا لتسير الأمة خلف المحتل الجديد (الكتلة الغربية الليبرالية الرأسمالية بقيادة أمريكا).
وتضييع إمكانات الأمة الآن، بالسياسة[كما في مصر وتونس والجزائر..] أو الحرب [اليمن والعراق والشام وليبيا] هدفه إضعافها وإبعادها عن المشروع الإسلامي وفرض إملاءات جديدة عليها لم تتبين بعد عند الفاعل الدولي، فيبدو أن تنظيرات تشومسكي ورفاقه ومساعديه لم تنتهِ بعد لصيغة عالمية مقبولة في مرحلة أحادة القطبية.
ويحتاج الأمر لمقال آخر نستشرف فيه بدائل الفاعل الدولي التي يحافظ بها على "شكل الدولة" -لحين اكتمال الصيغة العالمية الجديدة في الحكم بعد أن صيغة الدولة القومية- في حال ثار الناس على العسكر، وخاصة أنها بدأت تتكون بوضوح.