تفسير سورة آل عمران (الآية 104)
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
تفسير آي الذكر الحكيمتفسير سورة آل عمران (الآية 104)
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
لقد رغب سبحانه وتعالى المؤمنين الآمرين بالمعروف.
الناهين عن المنكر بأن جعل الفلاح مقتصراً عليهم دون غيرهم بمزيتهم الإصلاحية الكبرى.
وأمر المؤمنين بعد أن عاب على أهل الغواية والكفر ضلالهم وإضلالهم، بالقيام بالأمر والنهي ليكونوا هادين مهديين فقال ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ[1] أُمَّةٌ [2] يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ فإن الدعوة إلى الخير هي كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قرأ هذه الآية قال "الخير اتباع القرآن وسنتي" وقال بعض المفسرين هي الدعوة إلى الإصلاح سواء كان دينياً أو دنيوياً مستدلين بقوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125] وقوله جل ذكره ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108] فعلى هذا تكون الدعوة إلى الخير جنساً تحته نوعان أحدهما الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف والآخر الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر.
وإنما ذكره بهذا الترتيب مبالغه في البيان.
ثم عطف سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الدعوة إلى الخير بقوله ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 104] إيذاناً بزيادة فضله على سائر الخيرات وإنما ثبت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة والإجماع فالآيات الدالة على وجوبه كثيرة منها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقد ورد في السنة كثير من الأحاديث التي يفهم منها وجوب الأمر بالمعروف والنهي منها ما رواه أبو سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولا يغرب عنك أن الاستطاعة بذل الجهود للقيام بالمأمور كما تقدم وقد يتمكن أكثرنا اليوم أن يأمر وينهى على الأقل بلسانه إن تجرد عن نفسه وهواه.
وقد انعقد الإجماع على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الجميع وجوب كفاية لأن المسلمين في الصدر الأول وبعده كانوا يتواصون بذلك ويوبخون تاركه إذا قدر عليه.
ولا يشكل عليك أيها القارئ الكريم قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105] لأن المعنى إذا فعلتم ما كلفتم به إذ أنتم مكلفون بالأمر والنهي وليس عليكم إدراك الهداية بل ذاك عائد لي.
قال ابن مسعود رضي الله عنه إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك.
وبعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين وواجب الكفاية واجب على الجميع.
فيسقط بفعل البعض ويأثم الكل لتركه ومن هذا أن الأمر والنهي مطالب به جميع الناس لا فرق في ذلك بين عالم وغيره متى كان غير العالم يعلم المنكر والمعروف فيصح له أن يأمر وينهى.
وبما أن علماء الدين ودعاة كتاب الله وسنة نبيه أعرف من غيرهم بالمحظورات والمنهيات وجب عليهم المبادرة لهذا الأمر الهام قبل غيرهم على الوجه الذي أمر به الشارع ولو أن المسلمين في سائر الأقطار قاموا بالأمر والنهي ولم يألوا جهداً في ذلك لما تفشت المنكرات والبدع ولما عمت المعاصي والمخزيات ولَوَقَفَ كلٌّ عند الحد الذي حده الشرع.
ومما لا يخفى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان حتى على العاصي الفاسق فقد وجب على المكلف أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره فهو مطالب بأمرين فإن تقصيره في أحد الوجهين يرفع عنه وجوب الآخر.
وأما قوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44] فهو تأنيب على نسيان النفس على الأمر بالمعروف وكذلك قوله تعالى: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3] لأن الغرض منها النهي عن أن يقول خلاف ما يفعل لا أن يقول الخير وهو لا يفعله.
قال إمام الحرمين يجب على متعاطي الكأس أن ينهى الجلاس.
ومما تذوب له النفوس أسىً أن تشاهد المنكرات ترتكب علناً والحرمات تنتهك جهاراً ولا يحرك لها امرؤ ساكناً ولا ينبث ببنت شفة حتى كاد يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً فيفتخر بالبدعة ويستحى بالسنة.
وعن حذيفة بن اليمان "يأتي على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر".
وأصبح الكثيرون هائمين بالتقليد حذو النعل بالنعل حتى لو دخل المقلَّد جحر ضب لاتبعوه.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن المخجل أن أصبح بعض ولاة الأمور يسمحون بفتح الحانات والمراقص ودور الدعارة والفحش ويسمحون لبعض الصحف المجونية التي تتاجر بانهيار الأخلاق وإفشاء الرذيلة وقمع الفضيلة.
فيقرأها الكثيرون ومنهم الطلاب والطالبات وإذا طلب منهم الكف عن هذه المنكرات أو منعها أخذتهم العزة بالإثم وقالوا نحن في عصر المدنية والحرية والنور!
فقدر أيها القارئ الفاضل جهاد جمعيات الإصلاح ومجلاته في هذا الموقف.
واسأل نفسك هل تقوم بما يجب عليك نحوها.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104] فجاءت جملة معرَّفة الطرفين وفيها ضمير بينهما فهي مفيدة لقصر الفلاح على المؤمنين الذين يأمرون وينهون كما بيناه فيما تقدم، وقد سئل عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم".
وقبل أن أختم كلمتي هذه أقدم لك أيها القارئ هذا الحديث تذكرة فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
قال - صلى الله عليه وسلم - "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر.
أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون".
ربنا اجعلنا من الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الأولى، العدد السادس، 1354هـ
[1] مِن للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض من فروض الكفاية لا يصلح له كل فرد من الأمة فقد يوجد من لا يحسن إقامتهما على الوجه المشروع.
[2] الأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ومنه ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120] أطلقت عليه لاستجماعه كمالات وفضائل لا تكاد توجد إلا في أمة، وعلى الدين والملة ومنه قوله تعالى ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22]، وعلى الزمان ومنه قوله: ﴿ وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [يوسف: 45] أي بعد زمن.