كيف يعظون
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
للأستاذ عباس محمود العقاد
أيام الحوادث الفادحة هي أيام العظات البليغة لمن يحسن استخراجها من حوادثها ثم يحسن التعليل بين مقدماتها وعواقبها والحرب أبلغ العظات
لأنها تمتحن النفوس فتثير فيها الشكوك وتقلقل فيها دعائم الإيمان فهي في حاجة إلى اليقين والاستقرار
ولأنها ترين على القلوب بالغموم وتلعج فيها الأحزان فهي في حاجة إلى الترفيه والتأسية والعزاء
ولأنها تكتظ بالشواهد والمثل وأسباب الخبرة ومجامع العبرة فهي في حاجة إلى من يحسن التعبير والاعتبار
رأيت مثلين من أمثلة العظات العصرية هما اللذان بعثاني إلى كتابة هذا المقال: أحدهما مسيحي والآخر إسرائيلي، وكلاهما من مبتكرات الوعظ (العقل التاريخي) الحديث
جاء المثل الأول في مقال بصحيفة (المانشستر جارديان) الأسبوعية لواعظ يصف تجاربه في الحرب الماضية قال:
كثيراً ما وعظت في أثناء فترات الغداء بالمصانع فكانوا يلقونني برفق وإكرام
ولكني في بعض الأيام لقيت رجلاً غاضباً محنقاً وإن كان مؤدباً في مسلكه يقول لي: ما هذه الجرأة منك على الوعظ باسم إله المحبة والرحمة وهذه الحرب الخبيثة تطحن الناس؟
فقلت له: إنك يا أخانا لقاس على الأقدار. فهبك في مكان القدر فماذا عساك كنت صانعاً بالدنيا؟.
لا أحسبك كنت تخليها من الخطيئة لأنك بهذا تهدم تكوين النفس الإنسانية باعتبارها نفساً مريدة مكلفة ذات حرية ومشيئة.
فإن لم تصنع هذا فماذا أنت صانع؟ قال: على أية حال كنت لا أدع إنساناً يألم في حياته لجريرة غير جريرته وذنب غير ذنبه فأجبته قائلاً: آه! يالها من حياة مخيفة تلك التي تريدها.
فماذا تنوي أن تصنع بالأمهات مثلاً؟ أتريد من الأم إذا ذهبوا بابنها إلى الموت أو ذهبوا بابنتها إلى العار أن تمضي في طريقها ضاحكة راضية وهي تقول: لا يعنيني! فالذنب ذنب غيري؟ (إن الدنيا التي تريدها لتكونن دنيا خلواً من الآباء والأمهات والأصدقاء والقديسين والأبطال والشهداء) هذا هو المثل المسيحي وله شروحه ومعقباته عند من تناولوا مسألة الاختيار ومسألة الشر الدنيوي في الفلسفة الحديثة ولكنه كلام يقال للرجل العصري فإذا هو أقرب إلى فهمه والإصغاء إليه من كلام لا يقوم على فكر ولا على حجة وإنما يقوم على إلزام كإلزام الآلات وتكرير كتكرير الببغاوات أما المثل الإسرائيلي فقد قرأته في رسالة يقول كاتبها وقد عرض حوادث العالم أمامه فإذا هو يقول: إن الله يبتلي بالقصاص العاجل كل بلد يظلم أبناء إسرائيل، ويكتب النصر والقوة لكل بلد يعاملهم معاملة الرفق والمساواة.
فلن ترى أمة شاعت فيها المذابح والمظالم للإسرائيليين إلا أصيبت بثورة أو سيقت إلى حرب أو منيت بهزيمة هذه روسيا كانت أسبق الأمم إلى ظلم اليهود فابتلاها الله بالثورة البلشفية وهذه أسبانيا تعاقبت فيها المظالم عليهم فابتلاها الله بالحرب الأهلية وهذه بولونيا نفسها لم تخل في بعض عهودها من ظلمهم ومطاردتهم، فشاءت الأقدار أن تكفر عن سيئاتها وهذه ألمانيا النازية تنساق إلى حرب زبون تهدمها من أركانها (يهواه رب جبار لا ينسى الثأر ولا يصبر على الأشرار) وهذا الكلام أيضاً قريب إلى عقل الرجل العصري الذي يفكر تفكير المشاهدة وينظر بعين التاريخ، وإن كان قائله ليخلف الأمر فيضع المقدمة موضع النتيجة ويضع النتيجة موضع المقدمة.
إذ الحقيقة أن الاضطراب هو السبب المؤدي إلى ظلم (الأقليات) ومنها اليهود، وليس ظلم الأقليات عامة أو اليهود خاصة هو السبب المؤدي إلى وقوع الاضطراب.
فالروسية وأسبانيا وبولونيا وألمانيا كانت فيها المساوئ الاجتماعية والقلاقل السياسية سابقة للخصومات والفتن التي تقع بين عناصر الكثرة وعناصر القلة فيها، وقد حدث أن بلاداً وقعت فيها الهزائم والفتن وليس فيها يهود مضطهدون كما حدث في بلاد الترك والصين.
فالعلة الأولى هي الاضطراب والعلة الثانية هي الاضطهاد، وهذا هو موضع الخطأ في تفسير إرادة الله كما رآها واعظ إسرائيل إلا أن الكلام كما أسلفنا كلام يقال في العظات العصرية لإقناع السامعين العصريين، وهو خير من كل كلام لا ينظر قائله إلى الواقع ولا ينظر إلى التاريخ قرأت هذين المثلين في شهر رمضان وشهر رمضان عندنا هو شهر العظات وشهر السهرات في سماع القرآن والدروس وقد سمعت بعضها وقرأت بعضها وذكرت بعضها مما كان يلقى في السنوات الماضية فيطيب لي أن أقول إنها تتقدم من المحاكاة إلى الابتكار، وأنها تخرج من حفائر الموت إلى ميادين الحياة، وأنها تخاطب الناس خطاب الإقناع بعد أن خاطبتهم طويلاً خطاب الإلزام والإرهاب.
فإذا اطردت على هذه الوتيرة فسبيلها غداً (1) أن تشمل الآفاق الواسعة وتتعمق في أغوار النفس الإنسانية و (2) أن تربط بين موضوعاتها وكبريات الحوادث الحاضرة و (3) أن تعمم الإقناع في خطاب العقل البشري فلا تقصره على من يؤمن بالقرآن والسنة والمسلمين، بل تجعله مقنعاً خليقاً بالبحث والنظر في رأي كل صاحب عقل وتفكير وهل أضيف أمنية أخرى؟ يقول أناس إن بائع الحرير لا يلزم أن يلبس من حريره، وإن واصف الدواء لا يلزم أن يتناول من دوائه، وإن الأب الذي يقدم لوليده الطعام لا يلزم أن يأكل من طعام الأطفال، ولكن الواعظ لا يكون واعظاً إلا إذا عمل بما يأمر به الناس ويقول آخرون: بل حكم الواعظ في ذلك حكم بائع الحرير وواصف الدواء ومقدم الطعام لبنيه، فليس بالواجب عليه أن يعمل بكل ما يقول، وإنما الواجب عليه أن يهدي كلاً من سامعيه إلى ما يحسن به عمله وتصلح له هدايته وأياً كان مقطع الرأي في اختلاف الواجبات أو اتفاقها بين الناس فهناك واجب مشترك متفق عليه بين جميع الواعظين والعاملين: وهو الإيمان بالواجب والإيمان بالأمانة والإخلاص في أدائه. عباس محمود العقاد