خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام في الآيات السابقة أن المشركين الذين افتروا على الله الكذب يوم القيامة يجحدون شركهم، وينكرون كفرهم، ويقسمون بالله ربهم أنهم ما وقعوا في الشرك؛ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:22-24].
يقول صاحب الظلال رحمه الله: والشرك ليس فقط تلك الصورة الساذجة التي يعتقدها بعض الناس في القديم من عبادة أصنام أو أشجار أو أحجار، بل الشرك تتعدد صوره: في اعتقاد أن أحداً سوى الله يتصرف في هذا الكون، أو في صرف شيء من شعائر التعبد لغير الله، أو اقتباس نظام أو قانون يعارض حكم الله، يقول رحمه الله: بأن هذا كله من صور الشرك، فلو أن إنساناً اعتقد أن ولياً من الأولياء أو صالحاً من الصالحين له تصرف في هذا الكون؛ يعطي ويمنع أو يضر وينفع أو يحيي ويميت فهذا والعياذ بالله شرك، وكذلك من اعتقد أن أحداً غير الله يعلم الغيب بإطلاق فإن هذا شرك، فلو أن إنساناً صرف شيئاً من شعائر التعبد لغير الله عز وجل، ركع لغير الله، أو سجد لغير الله، أو نذر لغير الله، أو استغاث أو استعاذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا أيضاً شرك، ولو أن إنساناً اقتبس نظاماً يعارض به ما شرعه الله عز وجل لعباده، فهذا أيضاً شرك، قال سبحانه: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21].
هؤلاء المشركون ما كانت حجتهم في ذلك اليوم العصيب إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:23-24]، أي: غاب عنهم ما كانوا يفترونه من دون الله من شركاء وأنداد.
هؤلاء المشركون كانوا يستمعون إلى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعجبهم فصاحته وتعجزهم بلاغته، ويجزمون في قرارة أنفسهم أنه ما يقول هذا بشر، ولكنهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب فيقولون: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وهي الكلمة التي كان يرددها النضر بن الحارث ، فقد كان يقص على الناس أخبار رستم و إسفنديار ، وغير ذلك من أساطير الفرس، ويقول: محمد يحكي لكم الأساطير كما أحكي لكم الأساطير.
قال الله عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، ينهون الناس عن استماعه وفي الوقت نفسه يبتعدون عنه، أو إذا كانت الآية نازلة في شأن أبي طالب ، فالمعنى: أنه ينهى عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه ينأى عن اتباع دينه، وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26].
حال الكفار يوم القيامة
يقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، الله عز وجل ينقلنا نقلة سريعة من الدنيا إلى الآخرة، فالكافرون في الدنيا قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وكانوا: يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، وفجأة قضيت هذه الدنيا، ونفخ في الصور وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، ووجد كل أنسان نفسه بين يدي رب العالمين، ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه ).
حال الكفار إذا رأوا نار جهنم وتمنيهم الرجوع
وَلَوْ تَرَى [الأنعام:27]، يا محمد! صلى الله عليه وسلم، إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، وقفوا أي: بلغوا ووصلوا بعد طول سير، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا [الأنعام:27]، بعدما رأوا النار رأي عين، رأوها عين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين، وهم في ذلك اليوم في قمة الإبصار، وفي قمة السمع، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38]، ما أسمعهم وما أبصرهم! وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12]، فهم واقفون على النار، وقد علموا يقيناً أنها مصيرهم، فبدءوا في التمني حيث لا ينفع التمني، يقولون: ليت، حيث لا ينفع شيئاً ليت، يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27]، أي: إلى الدنيا، وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، طلبوا من الله الرد، والرد: هو الرجوع، واشترطوا على أنفسهم أمرين اثنين:
الأمر الأول: ألا يكذبوا بآيات الله مثلما كانوا يكذبون أولاً.
والأمر الثاني: أن يلتحقوا بوصف الإيمان: وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
يقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، الله عز وجل ينقلنا نقلة سريعة من الدنيا إلى الآخرة، فالكافرون في الدنيا قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وكانوا: يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، وفجأة قضيت هذه الدنيا، ونفخ في الصور وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، ووجد كل أنسان نفسه بين يدي رب العالمين، ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه ).
وَلَوْ تَرَى [الأنعام:27]، يا محمد! صلى الله عليه وسلم، إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، وقفوا أي: بلغوا ووصلوا بعد طول سير، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا [الأنعام:27]، بعدما رأوا النار رأي عين، رأوها عين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين، وهم في ذلك اليوم في قمة الإبصار، وفي قمة السمع، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38]، ما أسمعهم وما أبصرهم! وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12]، فهم واقفون على النار، وقد علموا يقيناً أنها مصيرهم، فبدءوا في التمني حيث لا ينفع التمني، يقولون: ليت، حيث لا ينفع شيئاً ليت، يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27]، أي: إلى الدنيا، وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، طلبوا من الله الرد، والرد: هو الرجوع، واشترطوا على أنفسهم أمرين اثنين:
الأمر الأول: ألا يكذبوا بآيات الله مثلما كانوا يكذبون أولاً.
والأمر الثاني: أن يلتحقوا بوصف الإيمان: وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
قال الله عز وجل: بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، (بَلْ بَدَا لَهمْ): أي: ظهر لهم، من بدو الشيء وظهوره عياناً، وهو هاهنا مجاز في زوال الشك، بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ [الأنعام:28] في الدنيا، ما الذي كانوا يخفونه؟
كانوا يخفون في الدنيا فطرتهم، ويحرصون على الكفر ويصرون عليه، وهم ثابتو الإقدام، مع كونهم في قرارة أنفسهم يعتقدون يقيناً أن القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صادق لا يكذب، بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28]، الذي كانوا يخفونه هو هذه الفطرة، وهذا الإيمان، فقد كانوا يخفونها؛ حرصاً على السيادة والزعامة والجاه، وحرصاً على الأتباع والمال.. هكذا كان حالهم، ولو تأملت في كفار قريش، واليهود لوجدت أن، هذا كان شأنهم، فقد كان الواحد منهم يأنف بعد أن كان سيداً متبوعاً أن يصير تابعاً مقوداً؛ فمن أجل هذا صدوا عن سبيل الله عز وجل.
وقال بعض أهل التفسير: بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28]، أي: ما كانوا يعلمونه في قرارة أنفسهم من صدق الرسل عموماً، مثلما قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، ومثلما سيأتي معنا في قول ربنا: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وفي هذه السورة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
وقال بعض المفسرين: المراد بذلك: المنافقون الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر، وهذا بعيد؛ لأن سورة الأنعام مكية، ولم يكن في مكة منافقون، بل المنافقون ظهروا في المدينة بعد غزوة بدر، بعدما أظهر الله رسوله.
قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، الله أكبر! الله جل جلاله الذي علم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يكون رد إلى الدنيا بعد الوقوف بين يدي الله للحساب؛ لا رد إلى الدنيا بعد مفارقة الروح الجسد؛ لأن الله عز وجل حكى بأن الواحد من أولئك الفجار في سكرات الموت يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، فيقول الله عز وجل: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]، وفي آية أخرى قال ربنا سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [فاطر:36-37]، أي: في النار، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، قال الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ[فاطر:37]، ألم نعطكم عمراً كافياً للتذكر والتدبر؟ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ[فاطر:37]، جاءكم الرسول، جاءكم الشيب، جاءكم المرض، جاءكم بلوغ الستين، فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
الله عز وجل في هذه الآية الكريمة يخبر أنه عالم بكل موجود ومعدوم، وهو سبحانه يعلم أن هؤلاء الكفار لو ردوا إلى الدنيا مرة أخرى فإنهم لا يؤمنون، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، لعادوا إلى الكفر والتكذيب والعناد والجحود.
وهذا المعنى: أن الله قد علم بما كان وما يكون. جاء في آيات أخرى، كقول الله عز وجل عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهمْ [التوبة:47]، المنافقون لم يخرجوا إلى تبوك، قال الله عز وجل: لو أنهم خرجوا فحالهم أنهم فتانون، يريدون خبال المؤمنين وإضلالهم، وكذلك في قوله سبحانه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75].
قال الله عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، (لو ردوا) إلى الدنيا (لَعَادُوا) إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، أي: في قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
قال الله عز وجل: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، كان دينهم وديدنهم تكذيب رسول الله صلى الله عليه سلم، يقولون: يا محمد! ما تقوله من أن هناك بعد الموت بعثاً، وبعد البعث حساباً، وبعد الحساب جنة أو ناراً هذا كله هراء، ليس هناك إلا هذه الدنيا، ولا يوجد دار بعدها، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، وهذا المعنى في كثير من آي القرآن، كقول الله عز وجل: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، وقوله سبحانه: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]، وفي قوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:1-3]، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، هكذا كان حالهم، وهذا صنف من الكفار لا يؤمنون بالبعث أصلاً.
هناك صنف آخر من الكفار يؤمنون بالبعث ولكن ليس على الصفة الشرعية، فهم يؤمنون بأن البعث للأرواح فقط لا للأجساد، أو يؤمنون بأن النعيم والعذاب ليس إلا شيئاً نفسياً، يعني: كحال النائم الذي يرى في منامه أشياء فيفرح ويسر، أو يرى في منامه أشياء فيحزن ويضيق، ولربما يصرخ، لكن في الوقع ليس هناك شيء محسوس، هذا والعياذ بالله كفر.
قال عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، في الآية السابقة وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، وهنا وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، سيقوا إلى ربهم جل جلاله سوق العبد الآبق العاصي المجرم الذي يقدم على سيده بعدما سب سيده وأساء إليه، وكفر بنعمه، وصد عن سبيله، وقاتل أولياءه، وعاند دينه، يقف بين يدي هذا السيد الجليل، فيوجه إليه سؤالاً: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الأنعام:30]، الآن أنت ترى البعث، فقد جئنا بك يا من كنت تقول: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا [الإسراء:49]، أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا [الرعد:5]، يا من كنت تقول: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، يا من كنت تقول: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم:66]، الآن أنت ترى، أليس هذا بالحق؟! يا من كنت تقول: لا جنة ولا نار، الآن أنت ترى، أليس هذا بالحق؟! النار ها هي أمامك، لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ألا تسمع تغيظها وزفيرها؟ أليس هذا بالحق؟! فيأتي الجواب الذليل المهين: بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، لو قال: بلى لكفى، ولم يطلب منه أحد أن يحلف، لكنه الكذاب الأفاك، يظن أن يمينه ستنجيه، أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30].
وهم يتصورون بعد هذا الإقرار أن يعفى عنهم، وأن يغفر لهم، قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، الآن: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، لا ينفعها الإيمان.
قوله: بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، لن يغنيه من الله شيئاً، فَذُوقُوا الْعَذَابَ [الأنعام:30]، على كفركم، والذوق استعارة لشيء محسوس، فَذُوقُوا الْعَذَابَ [الأنعام:30]، بسبب كفركم، بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].
ثم قال ربنا جل حلاله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
خسارة المكذبين بلقاء الله يوم القيامة
قوله: (( قَدْ خَسِرَ ))، حكم وخبر، والخسارة: الحرمان من خيرات الآخرة، لا الدنيا؛ فإن الدنيا ليست داراً للجزاء، فالله عز وجل يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب، لكن المقصود الآخرة، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، والذين كذبوا بلقاء الله هم الذين قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29].
وفي قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: لقاء الله هو ظهور آثار غضبه ورضاه، دون تأخير ولا إمهال، ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا، فلما كان العالم الأخروي -وهو ما بعد البعث- عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى، الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل لقاءه مماثلاً للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زماناً طويلاً، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، قالوا: لن نلقى ربنا؛ بل هو موت وانتهى الأمر.
مباغتة القيامة لمن كذب بلقاء الله وتحسرهم على التكذيب والتفريط
وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الأنعام:31]، أي: فجأة، على وزن فعلة من البغت، وهو المفاجأة من غير ترقب ولا إعلام، فالساعة تأتي بغتة، ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام ( بأن الساعة تأتي وتقوم على رجل يلوط حوض إبله )، أي قاعد يجهز للأبل الحوض، فهو يصهر ويسدد من أجل أن تشرب الإبل، ( فينفخ في الصور فيصغي ليتاً ويرفع ليتاً )، يعني: يستمع إليه والصوت عجيب! فيرفع عنقه، ويميل بها ذات اليمين وذات الشمال فيصعق، ينفخ في الصور وبعض الناس يأكل وقد رفع اللقمة إلى فيه فلا يأكلها، ومن الناس من يتكلم فلا يتم كلمة.
قوله: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا [الأنعام:31]، الله أكبر! يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك، الآن الحسرات بدأت، قال الله عز وجل: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39]، كل إنسان سيتحسر، العاصي على أنه ما أطاع، والكافر على أنه ما آمن، والمطيع يتحسر على أنه ما ازداد من الطاعات والقربات، عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، على ما أضعنا وتهاونا ولم نحفظ ولم نكتسب، عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا[الأنعام:31]، أي في العمل لهذه الساعة.
حمل الوزر يوم القيامة
قال سبحانه: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31].
الأوزار جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، قال الله عز وجل: وَلا تَزِرُ [الأنعام:164] أي: لا تحمل، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقيل: سمي الوزير وزيراً لأنه يحمل الوزر مع السلطان.
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31]، هذا تمثيل لتلك الحالة.
معلوم أن الذنوب ليست كلها محسوسة، يعني: الإنسان لو كذب، أو اغتاب، أو نم، أو شتم، أو لعن؛ فإن هذه كلها ليست أشياء محسوسة حتى تحمل، نعم هناك أشياء محسوسة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله عز وجل: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، قال: ( لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا رسول الله! أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته شاة تيعر، أي: تصيح، يقول: يا رسول الله! أغثني، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق )، أي: أقمشة، هذه أشياء محسوسة، إن سرق جملاً يوم القيامة يأتي حاملاً له، ولا يقل أحد كيف يحمله؟! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليعظم ضرس الكافر في النار حتى يكون مثل جبل أحد )؛ فالخلقة غير الخلقة والحال غير الحال، والذي بعثه بعدما صار رميماً قادر على أن يقدره على أن يحمله تلك الأثقال إن كانت بعيراً أو قطيعاً من الأبل أو من البقر أو من الغنم أو كان قد سرق من الرقاع ما تنوء بحمله الجبال، وسيأتي يوم القيامة حاملاً له، هذه أشياء محسوسة.
لكن هناك أشياء معنوية؛ ولذلك الله عز وجل جعل الكل في حال سواء، وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، قال ابن كثير رحمه الله: قال السدي : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره، وتأمل في هذا، لو جاء إنسان في مسجد فسيح ضخم وهو بهذه الصفة، وجلس إلى جوارك، فإنك يضيق صدرك، فما بالك في القبر ذلك المكان الذي هو أصلاً ضيق.
يأتي رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، دنس الثياب، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه -يعني هذا الميت- قال له: ما أقبح وجهك! يقول له: كذلك كان عملك قبيحاً، يقول له: ما أنتن ريحك! يقول له: كذلك كان عملك منتناً، يقول: ما أدنس ثيابك! فيقول: إن كان عملك دنساً، يقول له: من أنت! أنت رجل لئيم -وكل كلمة ترد عليها بكلمة-! يقول له: أنا عملك، فيكون معه في قبره، قاعداً معه مئات وآلاف السنين، إلى أن تقوم القيامة، فإذا بعث يوم القيامة، قام هذا الرجل من قبره؛ وذلك يقوم معه، يقول له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني، فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
حمل وزر الغير يوم القيامة
بعض الناس يحمل وزره، وبعض الناس يحمل وزره ووزر غيره، قال الله عز وجل: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، وقال: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]، دعاة الضلالة، المحرضون على الفواحش، من كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، من حرض على بدعة منكرة حاد بها الله ورسوله، وضاد الطريقة الشرعية فضلَّ بسببه ناس كثيرون، يوم القيامة يحمل وزره وأوزارهم، من كتب قصة خليعة قبيحة ففتن بها الشباب، ووقعوا في الفواحش، يحمل وزره وأوزارهم، من غنى وطرب وأطرب الناس وتمايل، ثم هلك؛ فبقيت الأسطوانات محفوظة وتتكرر خاصة في الذكرى السنوية، فإنه في الذكرى السنوية في قبره سيتقلب؛ لأنه كان سبباً في ضلال من لا يحصيهم إلا الله، أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
قوله: (( قَدْ خَسِرَ ))، حكم وخبر، والخسارة: الحرمان من خيرات الآخرة، لا الدنيا؛ فإن الدنيا ليست داراً للجزاء، فالله عز وجل يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب، لكن المقصود الآخرة، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، والذين كذبوا بلقاء الله هم الذين قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29].
وفي قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: لقاء الله هو ظهور آثار غضبه ورضاه، دون تأخير ولا إمهال، ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا، فلما كان العالم الأخروي -وهو ما بعد البعث- عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى، الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل لقاءه مماثلاً للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زماناً طويلاً، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ [الأنعام:31]، قالوا: لن نلقى ربنا؛ بل هو موت وانتهى الأمر.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد | 2550 استماع |
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر | 2540 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] | 2513 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] | 2380 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] | 2371 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] | 2299 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] | 2175 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] | 2091 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] | 2054 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] | 1969 استماع |