تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر


الحلقة مفرغة

قصة محاولة هدم الكعبة

سورة الفيل سورة مكية فيها خمس آيات، وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة وتسعون حرفاً.

وهذه السورة المباركة تحكي قصة معروفة منقولة بالتواتر قد عرفها العرب كلهم أجمعون، وهذه القصة مفادها أن ذا نواس الملك الحميري تهود، فعمد إلى تهويد الناس بالقوة، وقتل خلقاً كُثر من النصارى كانوا بقيادة رجل صالح يقال له عبد الله بن التامر ، وهم الذين حكى الله خبرهم في سورة البروج: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[البروج:4-6].. الآيات.

فتسلط النجاشي ملك الحبشة على بلاد اليمن، أرسل جيشاً إلى بلاد اليمن بقيادة رجل يقال له أرياط ، ثم نازعه رجل يقال له: أبرهة الأشرم ، فدانت بلاد اليمن لهذا الرجل، ثم لما حكم بلاد اليمن رأى أن أهل اليمن في موسم معين يذهبون جماعات جماعات، ويخرجون على حالة معينة وهيئة خاصة، فسأل: أين يريدون؟ وأين يذهبون؟ فقيل له: إنهم يحجون بيتاً في مكة يعظمونه، ويطوفون به، ويقبلون أركانه، ويصلون عنده، فقال لهم: ومن أي شيء بني؟ قالوا: من الحجارة، قال: وبأي شيء كسي؟ قالوا: بهذه الوصائل -الوصائل ثياب يمانية مخططة-، فقال: سأبني خيراً منه، وهذه عادة الطواغيت، فالطواغيت المعاصرون الذين يحكمون بلاد المسلمين كل واحد منهم يبني مسجداً، وتتحدث وكالات الأنباء والجرائد المسبحة بحمده بأن هذا المسجد سعته سعة المسجد الحرام، فبعضهم بنى مسجداً في البحر، فيصلي الإنسان والسمك أمامه، وما يدري ما يصلي.

فـأبرهة لما كان طاغوتاً خبيثاً بنفس المنطق، ظن أن تعظيم البيت راجع للحجارة وإلى الكساء، فبنى كنيسة عظيمة تفنن فيها وحسنها وجملها وزخرفها وسماها القِلّيس أو القُلَّيس، وكتب إلى النجاشي كتاباً قال فيه: أيها الملك! إني ابتنيت لك بيتاً ما سمع الناس بمثله، ولست بمنته حتى أصرف حج العرب إليه، ولن تطيب نفسي إلا إذا تحول العرب من مكة إلى هذه الكنيسة التي في صنعاء.

والعرب كانوا ذوي عصبية لدينهم الباطل، وقد ورثوا تعظيم البيت من دين الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو من الحق القليل الذي بقي بأيديهم، فسمع واحد من بني كنانة بما قال هذا المسكين، فرد عليه رداً عملياً، فجاء إلى هذه الكنيسة وتغوط فيها ثم حمل من النجاسة ولطخ جدرانها، وبعض الروايات تذكر بأن جماعة من العرب جاءوا فأوقدوا نيراناً، وصنعوا طعاماً، فحملت الريح تلك النيران فأحرقت تلك الكنيسة، والله أعلم أي ذلك كان.

فلما سمع أبرهة بذلك استشاض غضباً، وعزم على أن يسير جيشاً عظيماً لهدم الكعبة المشرفة زادها الله شرفاً، وظن أن الأمر يعود إلى القوة المادية وإلى الأمر الظاهر، فذهب إلى هناك، فتعرض له من أشراف العرب رجل يقال له: ذو نفر ، وكان من ملوك اليمن فهُزِم، فلما مر ببلاد خثعم تعرض له رجل يقال له نفيل بن حبيب الخثعمي ، وأراد أن يقاوم جيش أبرهة فهزم وأخذ أسيراً، وأراد أبرهة قتله فقال له نفيل : لا تقتلني وأنا دليلك، فاستبقاه، ثم استمر سائراً إلى أن وصل إلى الطائف وإلى بلاد ثقيف، فخرج له مسعود بن معقب ، وكان سيد ثقيف، وقال له: أيها الملك! هذا بيتنا، وكان عندهم صنم يقال له اللات، وأما البيت الذي تريده فهو بمكة، وسنبعث معك هذا الرجل أبا رغال يكون لك دليلاً يدلك على البيت، فلما كان ببعض الطريق قتله الله عز وجل فهلك، فرجمت العرب قبره.

وما أكثر الرغالات في حكام المسلمين، أبو رغال هو دليل الأمريكان الآن ما أكثره في بلاد المسلمين!

واستمر أبرهة ماشياً إلى أن وصل إلى مشارف مكة، فأغار على سرح كان فيه إبل لـعبد المطلب بن هاشم ، ثم بعد ذلك بعث مندوباً إليه، فجاء عبد المطلب وكان رجلاً قسيماً وسيماً عظيماً، عليه مهابة وجلالة ووقار، فكره أبرهة أن يجلسه على الأرض ويجلس هو على سرير الملك، وكره أن يجلس عبد المطلب إلى جواره، فنزل وجلس إليه، وقال له: أنا جئت لهدم هذا البيت، فإن خليتم بيني وبينه فلا حاجة لي في دمائكم، فقال عبد المطلب : أيها الملك! إن لي إبلاً قد أخذتموها، فردوها إلي، أما البيت فله رب يحميه.

فصارت هذه الكلمة مثلاً، واستنكر أبرهة فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، لكنك الآن لست بذاك المكان، تترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وأجدادك، وتحدثني في شأن إبلك! فقال له عبد المطلب : أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فأمر بأن تعاد إليه الإبل.

وعبد المطلب كان رجلاً عاقلاً راجحاً، وأمر أهل مكة أن يصعدوا إلى الجبال وأن يتركوا مكة ويخلوها، وكأنه كان يرى لفراسته بأن أمراً ما سيحدث، ثم ذهب عبد المطلب ومعه بعض كبار قريش، فأخذ بحلقة باب البيت وقال:

اللهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدواً محالك

إن تركتهم وقبـ لتنا فأمر ما بدا لك

إلى آخر ما قال، ثم خرجوا.

ولما تمكن من أبرهة الغرور، ووجد أنه لا مقاومة، وليس هناك من يعترض سبيله، أمر بتسيير الجيش لإنفاذ ما يريد، فكانوا إذا وجهوا الفيل قبل مكة، برك وأبى، وإذا وجهوه قبل اليمن أو قبل المشرق أو قبل المغرب حيثما وجهوه فإنه يمضي ويركض، وهذا ثابت في الحديث الصحيح لما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل).

فبعد ذلك تدخل الله عز وجل بقدرته التي لا مثيل لها في الوقت المناسب، فأرسل طيراً أبابيل، قالت عائشة : كالخطاطيف. وقال بعضهم: كالوطواط، وقال سعيد بن جبير : كانت طيراً لم ير قبلها ولا بعدها مثلها.

وكانت مخصوصة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجر في منقاره، وحجران في رجليه، وكانت هذه الحجارة تنزل على رأس الرجل من الأحباش فتخرق رأسه، ثم تخرج من دبره فتخلص إلى الفيل فتقتله، وكانت الطيور عجيبة تصيب المقاتل، وأصابت بعضهم في جسده، قال ابن عباس : فكان الواحد منهم إذا أصيب نفط جلده -أَيْ: انتفخ-، وكان ذلك أول ظهور الجدري من تلك الحادثة، والله أعلم.

وقالت عائشة : لقد رأيت سائس الفيل وقائده أعميين بمكة يتكففان الناس.

وقال أبو صالح : رأيت تلك الحجارة في بيت أم هانئ بنت أبي طالب -كأنهم جمعوا تلك الحجارة من أجل أن تكون دليلاً- رأيتها حجارة صغاراً سوداً فيها خطوط حمراء.

وهذا صنيع الله عز وجل بمن تكبر وتجبر، وسنة الله أن يهلك المتجبر بأضعف خلقه، فمثلاً النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، أهلكه الله بحشرة البعوضة، وكذلك يأجوج ومأجوج الذين يقولون: فرغنا من أهل الأرض وعلونا أهل السماء، أرسل الله عليهم النغف وهي دود في أنوفهم فتتركهم فرسى.

تفسير قوله تعالى ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل )

يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ[الفيل:1] ألم تر بمعنى: ألم تعلم نبأ أولئك القوم وما صنع الله بهم، قاله أهل التفسير، فالله عز وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأذى من طغيان المشركين وسوء أدبهم معه ومع الله، فقال له: يا محمد! أما علمت ما فعلت بـأبرهة الحبشي ، وجنوده الأقوياء وفيله العظيمة، أما هؤلاء المساكين أمثال: العاص بن وائل السهمي ، و الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبي بن خلف الجمحي و عمرو بن هشام وأمثالهم من الهمازين واللمازين فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحمل هماً، أنا سأنتقم لك منهم، كما انتقمت من أبرهة ! لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من بيت الله، بل المسلم الواحد أكرم على الله، وحرمته أعظم من بيت الله، كما قال عليه الصلاة والسلام حين طاف بالكعبة: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، وما أطيبك وأطيب ريحك، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك، دمه وماله وعرضه، وألا يظن به إلا خيراً).

وكلمة الرب في الآية مضافة إلى ضمير المخاطب، فربك الذي يتولاك هو الذي يرعاك، ويكلؤك ويحفظك، ولم يقل الله: ألم تر كيف فعل الله أو ألم تر كيف فعل رب العالمين، أو رب الناس، وإنما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، والفيل معروف، لكن المفسرون رحمهم الله ما تركوا شيئاً، فقالوا: إن الفيل حيوان من ذوات الأربع، وهو أضخم من البعير وأعلى منه، وبطنه أكبر، وهو ركوبة وحامل أثقال، ويوجد في البلاد الحارة ذوات الأنهار، كالصين والهند والحبشة والسودان، ويجمع على فِيَلة وفيول وأفيلة، وأنثى الفيل فِيْلة، وهو ضخم وله خرطوم طويل، يعدو به على ما يريد من حيوان، وهو غير مأكول ولحمه حرام؛ لأنه خبيث مستقذر، فهو داخل في عموم قول الله عزل وجل: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[الأعراف:157].

تفسير قوله تعالى ( ألم يجعل كيدهم في تضليل

قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ[الفيل:2]، هنا سؤال طرحه العلامة الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير، قال: سمى الله عز وجل حربهم كيداً، فهل أبرهة كاد سراً وخطط أم أنه جاء في حرب معلنة وهدف ظاهر، فالله عز وجل ما قال: ألم يجعل حربهم وإنما قال: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ))؟

الجواب: أنه تعلل بعلة ظاهرة باطلة، وأخفى سبباً كامناً هو الحقيق بحمله على الحرب، أعلن أن سبب حربه الغضب من فعل الكناني الذي تغوط في الكنيسة، ولكن الحقيقة أنه أراد أن يصرف حج العرب من البيت الحرام إلى كنيسته ليتنصروا.

وما أشبه الليلة بالبارحة، فالصليبيون الأمريكان ومن معهم يعلنون لافتة ظاهرة وهي القضاء على الإرهاب، ولكن حقيقة الأمر القضاء على الإسلام، وهذا -والله- ما يحتاج إلى دليل، فكل مسلم ببصيرته يراها رأي العين، إنهم يريدون أن يتدخلوا في المناهج، وأن يوجهوا الثقافات، وأن يفرضوا اتفاقيات، وأن يجعلوا نظماً خاصة بالمرأة تشابه ما عندهم من انحلال وفساد، وهذا كله تحت عنوان ظاهر وهو القضاء على الإرهاب.

ومعنى قوله: فِي تَضْلِيلٍ )) أي: في تضييع وإبطال وخسار.

تفسير قوله تعالى ( وأرسل عليهم طيراً أبابيل )

قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ[الفيل:3] قال الرازي رحمه الله في تفسيره : التنكير للتحقير، والمعنى: أي طير، فالله عز وجل قال لها: كوني، فكانت، وليست طيوراً ضخاماً كباراً، إنما طيراً أبابيل، جمع إبيل، على وزن سكين، أَيْ: مجموعات مجموعات، أو جماعات جماعات.

تفسير قوله تعالى ( ترميهم بحجارة من سجيل )

قال تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ[الفيل:4] السجيل هو الطين المحترق، وهو الآجر المطبوخ بنار جهنم، من جنس ما أرسله الله على قوم لوط، والقرآن يفسر بالقرآن، قال تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ[الذاريات:31-34]، وفي سورة هود قال الله عز وجل: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ[هود:82].

وقال بعض المفسرين: سجيل، أصلها سجين بالنون، وهي دركة من دركات جهنم وأبدلت النون لاماً.

تفسير قوله تعالى ( فجعلهم كعصف مأكول )

قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[الفيل:5] أي: كتبن أكلته الدواب فراثته، والروث هو البعر الذي يتقطع عما قليل، ويصير قطعاً قطعاً، أو كطحين أكل ثم راثته الدواب، فالله عز وجل قتل بعض أصحاب الفيل قتلاً فورياً، وبعضهم كـأبرهة جعل لحمه يتزايل قطعة قطعة، ولما وصل إلى صنعاء مذعوراً مدهوشاً انصدع صدره عن قلبه فهلك.

والسؤال الذي طرحه بعض المفسرين، ومنهم صاحب أضواء البيان رحمه الله، كيف ينصر الله عز وجل أهل مكة وهم وثنيون على أبرهة ومن معه وهم أهل كتاب نصارى؟

فأجاب من وجوه وهي:

الوجه الأول: أنهم كانوا ظلمة، والظلم مرتعه وخيم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم ولو كان كافراً) أي: ولو كان وثنياً، وهذا الذي يجعلنا نستبشر بأن نهاية الأمريكان الظالمين قريبة وشيكة؛ لأنهم ظلمة، فتعديهم على أفغانستان ظلم، وتعديهم على العراق ظلم، وتعديهم على إخواننا في فلسطين ظلم، وتعديهم على بلاد السودان قبل سنوات كان ظلماً، فهم استمروا في الظلم واعتادوه، والظلم عاقبته وخيمة، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ثلاث -أي ثلاث خصال- من فعلهن عادت عليه، من بغى، ومن مكر، ومن نكث، أما من بغى فقد قال الله عز وجل: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ[يونس:23]، وقال الله عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ[الفتح:10]، وقال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر:43]، من بغى أو مكر أو نكث عاد عليه.

الوجه الثاني: أن الوثنية كانت اعتداء على حق الخالق، أما فعل أبرهة فكان اعتداء على المخلوقين، والله عز وجل في حقه يمهل ويتسامح، لكن في حق المخلوقين يأخذ أخذ عزيز مقتدر.

الوجه الثالث: أن البيت في أساسه بني على التوحيد، وأسس على تقوى من الله ورضوان، رفع قواعده الخليل إبراهيم أستاذ التوحيد العظيم وشيخ الأنبياء، ومعه ولده إسماعيل، وبقي البيت قبلة وكهفاً للموحدين ومثابة للمؤمنين زماناً طويلاً، والوثنية كانت شيئاً طارئاً، والحمد لله لم تستمر طويلاً فقد طهرها الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعاد إلى البيت رونقه وبهاءه.

فهذه القصة كما يقول أهل التفسير: كانت معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صاحبت مولده المبارك، إيذاناً بأن الظلم قد انتهى، وأن عهده قد ولى، وأن مولده عليه الصلاة والسلام علامة وأمارة على رفع لواء العدل ورد الحقوق إلى أهلها.

سورة الفيل سورة مكية فيها خمس آيات، وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة وتسعون حرفاً.

وهذه السورة المباركة تحكي قصة معروفة منقولة بالتواتر قد عرفها العرب كلهم أجمعون، وهذه القصة مفادها أن ذا نواس الملك الحميري تهود، فعمد إلى تهويد الناس بالقوة، وقتل خلقاً كُثر من النصارى كانوا بقيادة رجل صالح يقال له عبد الله بن التامر ، وهم الذين حكى الله خبرهم في سورة البروج: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[البروج:4-6].. الآيات.

فتسلط النجاشي ملك الحبشة على بلاد اليمن، أرسل جيشاً إلى بلاد اليمن بقيادة رجل يقال له أرياط ، ثم نازعه رجل يقال له: أبرهة الأشرم ، فدانت بلاد اليمن لهذا الرجل، ثم لما حكم بلاد اليمن رأى أن أهل اليمن في موسم معين يذهبون جماعات جماعات، ويخرجون على حالة معينة وهيئة خاصة، فسأل: أين يريدون؟ وأين يذهبون؟ فقيل له: إنهم يحجون بيتاً في مكة يعظمونه، ويطوفون به، ويقبلون أركانه، ويصلون عنده، فقال لهم: ومن أي شيء بني؟ قالوا: من الحجارة، قال: وبأي شيء كسي؟ قالوا: بهذه الوصائل -الوصائل ثياب يمانية مخططة-، فقال: سأبني خيراً منه، وهذه عادة الطواغيت، فالطواغيت المعاصرون الذين يحكمون بلاد المسلمين كل واحد منهم يبني مسجداً، وتتحدث وكالات الأنباء والجرائد المسبحة بحمده بأن هذا المسجد سعته سعة المسجد الحرام، فبعضهم بنى مسجداً في البحر، فيصلي الإنسان والسمك أمامه، وما يدري ما يصلي.

فـأبرهة لما كان طاغوتاً خبيثاً بنفس المنطق، ظن أن تعظيم البيت راجع للحجارة وإلى الكساء، فبنى كنيسة عظيمة تفنن فيها وحسنها وجملها وزخرفها وسماها القِلّيس أو القُلَّيس، وكتب إلى النجاشي كتاباً قال فيه: أيها الملك! إني ابتنيت لك بيتاً ما سمع الناس بمثله، ولست بمنته حتى أصرف حج العرب إليه، ولن تطيب نفسي إلا إذا تحول العرب من مكة إلى هذه الكنيسة التي في صنعاء.

والعرب كانوا ذوي عصبية لدينهم الباطل، وقد ورثوا تعظيم البيت من دين الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو من الحق القليل الذي بقي بأيديهم، فسمع واحد من بني كنانة بما قال هذا المسكين، فرد عليه رداً عملياً، فجاء إلى هذه الكنيسة وتغوط فيها ثم حمل من النجاسة ولطخ جدرانها، وبعض الروايات تذكر بأن جماعة من العرب جاءوا فأوقدوا نيراناً، وصنعوا طعاماً، فحملت الريح تلك النيران فأحرقت تلك الكنيسة، والله أعلم أي ذلك كان.

فلما سمع أبرهة بذلك استشاض غضباً، وعزم على أن يسير جيشاً عظيماً لهدم الكعبة المشرفة زادها الله شرفاً، وظن أن الأمر يعود إلى القوة المادية وإلى الأمر الظاهر، فذهب إلى هناك، فتعرض له من أشراف العرب رجل يقال له: ذو نفر ، وكان من ملوك اليمن فهُزِم، فلما مر ببلاد خثعم تعرض له رجل يقال له نفيل بن حبيب الخثعمي ، وأراد أن يقاوم جيش أبرهة فهزم وأخذ أسيراً، وأراد أبرهة قتله فقال له نفيل : لا تقتلني وأنا دليلك، فاستبقاه، ثم استمر سائراً إلى أن وصل إلى الطائف وإلى بلاد ثقيف، فخرج له مسعود بن معقب ، وكان سيد ثقيف، وقال له: أيها الملك! هذا بيتنا، وكان عندهم صنم يقال له اللات، وأما البيت الذي تريده فهو بمكة، وسنبعث معك هذا الرجل أبا رغال يكون لك دليلاً يدلك على البيت، فلما كان ببعض الطريق قتله الله عز وجل فهلك، فرجمت العرب قبره.

وما أكثر الرغالات في حكام المسلمين، أبو رغال هو دليل الأمريكان الآن ما أكثره في بلاد المسلمين!

واستمر أبرهة ماشياً إلى أن وصل إلى مشارف مكة، فأغار على سرح كان فيه إبل لـعبد المطلب بن هاشم ، ثم بعد ذلك بعث مندوباً إليه، فجاء عبد المطلب وكان رجلاً قسيماً وسيماً عظيماً، عليه مهابة وجلالة ووقار، فكره أبرهة أن يجلسه على الأرض ويجلس هو على سرير الملك، وكره أن يجلس عبد المطلب إلى جواره، فنزل وجلس إليه، وقال له: أنا جئت لهدم هذا البيت، فإن خليتم بيني وبينه فلا حاجة لي في دمائكم، فقال عبد المطلب : أيها الملك! إن لي إبلاً قد أخذتموها، فردوها إلي، أما البيت فله رب يحميه.

فصارت هذه الكلمة مثلاً، واستنكر أبرهة فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، لكنك الآن لست بذاك المكان، تترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وأجدادك، وتحدثني في شأن إبلك! فقال له عبد المطلب : أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فأمر بأن تعاد إليه الإبل.

وعبد المطلب كان رجلاً عاقلاً راجحاً، وأمر أهل مكة أن يصعدوا إلى الجبال وأن يتركوا مكة ويخلوها، وكأنه كان يرى لفراسته بأن أمراً ما سيحدث، ثم ذهب عبد المطلب ومعه بعض كبار قريش، فأخذ بحلقة باب البيت وقال:

اللهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدواً محالك

إن تركتهم وقبـ لتنا فأمر ما بدا لك

إلى آخر ما قال، ثم خرجوا.

ولما تمكن من أبرهة الغرور، ووجد أنه لا مقاومة، وليس هناك من يعترض سبيله، أمر بتسيير الجيش لإنفاذ ما يريد، فكانوا إذا وجهوا الفيل قبل مكة، برك وأبى، وإذا وجهوه قبل اليمن أو قبل المشرق أو قبل المغرب حيثما وجهوه فإنه يمضي ويركض، وهذا ثابت في الحديث الصحيح لما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل).

فبعد ذلك تدخل الله عز وجل بقدرته التي لا مثيل لها في الوقت المناسب، فأرسل طيراً أبابيل، قالت عائشة : كالخطاطيف. وقال بعضهم: كالوطواط، وقال سعيد بن جبير : كانت طيراً لم ير قبلها ولا بعدها مثلها.

وكانت مخصوصة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجر في منقاره، وحجران في رجليه، وكانت هذه الحجارة تنزل على رأس الرجل من الأحباش فتخرق رأسه، ثم تخرج من دبره فتخلص إلى الفيل فتقتله، وكانت الطيور عجيبة تصيب المقاتل، وأصابت بعضهم في جسده، قال ابن عباس : فكان الواحد منهم إذا أصيب نفط جلده -أَيْ: انتفخ-، وكان ذلك أول ظهور الجدري من تلك الحادثة، والله أعلم.

وقالت عائشة : لقد رأيت سائس الفيل وقائده أعميين بمكة يتكففان الناس.

وقال أبو صالح : رأيت تلك الحجارة في بيت أم هانئ بنت أبي طالب -كأنهم جمعوا تلك الحجارة من أجل أن تكون دليلاً- رأيتها حجارة صغاراً سوداً فيها خطوط حمراء.

وهذا صنيع الله عز وجل بمن تكبر وتجبر، وسنة الله أن يهلك المتجبر بأضعف خلقه، فمثلاً النمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، أهلكه الله بحشرة البعوضة، وكذلك يأجوج ومأجوج الذين يقولون: فرغنا من أهل الأرض وعلونا أهل السماء، أرسل الله عليهم النغف وهي دود في أنوفهم فتتركهم فرسى.

يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ[الفيل:1] ألم تر بمعنى: ألم تعلم نبأ أولئك القوم وما صنع الله بهم، قاله أهل التفسير، فالله عز وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأذى من طغيان المشركين وسوء أدبهم معه ومع الله، فقال له: يا محمد! أما علمت ما فعلت بـأبرهة الحبشي ، وجنوده الأقوياء وفيله العظيمة، أما هؤلاء المساكين أمثال: العاص بن وائل السهمي ، و الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبي بن خلف الجمحي و عمرو بن هشام وأمثالهم من الهمازين واللمازين فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحمل هماً، أنا سأنتقم لك منهم، كما انتقمت من أبرهة ! لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من بيت الله، بل المسلم الواحد أكرم على الله، وحرمته أعظم من بيت الله، كما قال عليه الصلاة والسلام حين طاف بالكعبة: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، وما أطيبك وأطيب ريحك، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك، دمه وماله وعرضه، وألا يظن به إلا خيراً).

وكلمة الرب في الآية مضافة إلى ضمير المخاطب، فربك الذي يتولاك هو الذي يرعاك، ويكلؤك ويحفظك، ولم يقل الله: ألم تر كيف فعل الله أو ألم تر كيف فعل رب العالمين، أو رب الناس، وإنما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، والفيل معروف، لكن المفسرون رحمهم الله ما تركوا شيئاً، فقالوا: إن الفيل حيوان من ذوات الأربع، وهو أضخم من البعير وأعلى منه، وبطنه أكبر، وهو ركوبة وحامل أثقال، ويوجد في البلاد الحارة ذوات الأنهار، كالصين والهند والحبشة والسودان، ويجمع على فِيَلة وفيول وأفيلة، وأنثى الفيل فِيْلة، وهو ضخم وله خرطوم طويل، يعدو به على ما يريد من حيوان، وهو غير مأكول ولحمه حرام؛ لأنه خبيث مستقذر، فهو داخل في عموم قول الله عزل وجل: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[الأعراف:157].

قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ[الفيل:2]، هنا سؤال طرحه العلامة الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير، قال: سمى الله عز وجل حربهم كيداً، فهل أبرهة كاد سراً وخطط أم أنه جاء في حرب معلنة وهدف ظاهر، فالله عز وجل ما قال: ألم يجعل حربهم وإنما قال: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ))؟

الجواب: أنه تعلل بعلة ظاهرة باطلة، وأخفى سبباً كامناً هو الحقيق بحمله على الحرب، أعلن أن سبب حربه الغضب من فعل الكناني الذي تغوط في الكنيسة، ولكن الحقيقة أنه أراد أن يصرف حج العرب من البيت الحرام إلى كنيسته ليتنصروا.

وما أشبه الليلة بالبارحة، فالصليبيون الأمريكان ومن معهم يعلنون لافتة ظاهرة وهي القضاء على الإرهاب، ولكن حقيقة الأمر القضاء على الإسلام، وهذا -والله- ما يحتاج إلى دليل، فكل مسلم ببصيرته يراها رأي العين، إنهم يريدون أن يتدخلوا في المناهج، وأن يوجهوا الثقافات، وأن يفرضوا اتفاقيات، وأن يجعلوا نظماً خاصة بالمرأة تشابه ما عندهم من انحلال وفساد، وهذا كله تحت عنوان ظاهر وهو القضاء على الإرهاب.

ومعنى قوله: فِي تَضْلِيلٍ )) أي: في تضييع وإبطال وخسار.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2546 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2378 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2263 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2128 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2049 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] 1951 استماع