خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/929"> الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/929?sub=63704"> تفسير القرآن
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:30-36].
في الآيات التي سبقت بين ربنا جل جلاله حال المتكبرين المتغطرسين، الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحي عن مجلسه الفقراء والمساكين، وبين ربنا جل جلاله أنه أعد لهم جهنم وما فيها من العذاب المقيم فقال: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].
وفي هذه الآيات يبين ربنا جل جلاله حال المؤمنين الطيبين الذين عملوا الصالحات، وأكثروا من القربات، ويبين ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، وهذه عادة القرآن غالباً أنه يثني بعد ذكر أصحاب النار بأصحاب الجنة كما في قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وهذا تأويل قول ربنا جل جلاله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ [الزمر:23].
يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، أي: إن الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وقد وقر الإيمان في قلوبهم، وترجمته أعمالهم، فبعدما قالوا: آمنا بالله استقاموا على أمره جل جلاله، فعملوا الصالحات، و(الصالحات) جمع صالحة، وتطلقها العرب على كل فعلة طيبة، ومنه قول أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه يمدح زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها:
بنت الأمين جزاك الله صالحةً وكل بعل سيثني بالذي علما
وكما في قول الآخر:
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
فقوله: (عملوا الصالحات) أي: أتوا بالأفعال الطيبات، والخصال الحسنات.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الكهف:30]، (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) اسم إن، وخبرها قوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، وقال بعض المفسرين: بل خبرها قوله تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31]، فتكون جملة: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] جملةً معترضة، وهذا قد تكرر في القرآن، كقول ربنا الرحمن في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج:17]، وكقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].
وكقول القائل:
إن الخليفة إن الله سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم
وقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] الضمير في قوله: (إنا) يعود إلى رب العزة جل جلاله.
والإضاعة أصلها جعل الشيء ضائعاً، أي: أن يُفقد من مظنة وجوده، وتطلق الإضاعة على عدم التمكين من الانتفاع بالشيء، وهو إطلاق مجازي، ومنه قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، وقول الله عز وجل: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وقوله سبحانه: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195].
وقوله: أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، أي: أجر من أحسن من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلمة (عملاً) منصوبة على التمييز.
ثم بين ربنا جل جلاله جزاءهم، فقال سبحانه: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31]، (أولئك) الإشارة للبعيد، وهي دلالة على بعد منزلتهم، وارتفاع مكانتهم عند الله، أي: أولئك المؤمنون الذين عملوا الصالحات لهم جنات عدن، ومعلوم بأن الواحد من أهل الإيمان له جنتان، لكن الله عز وجل قال: (لهم جنات) دلالةً على سعتها، وفسحتها، وأن الواحدة منها تصلح أن تكون جنات.
و(جنات عدن) هي سرة الجنة ووسطها، وسميت عدن من العدن وهو الإقامة، يقال: عدنت بالمكان: إذا استوطنته، أو إذا اتخذته لي وطناً، ومنه قيل للمعدن: معدناً؛ لأنه مستقر باق.
أنهار أهل الجنة
وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، وهناك آيات كثيرة في القرآن يقول الله عز وجل: (تجري من تحتها الأنهار)، وفي هذه الآية قال: (من تحتهم الأنهار)، أي: تجري من تحت الغرف، أو من تحت المنازل مياه الأنهار، لكن الله عز وجل هنا عدل عن قوله: (تحتها) إلى قوله: (تحتهم).
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي هذا العدول زيادة تقرير لإفادة معنى الملك، أي: أنهم قد ملكوا تلك الجنات، فصارت تضاف إليهم غرفاً ومنازلاً ونعيماً وأنهاراً.
وقوله تعالى: (الأنهار) مقصود بها مياه الأنهار، كما في قوله تعالى: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، أي: واسأل أهل القرية، هذا إيجاز بالحذف، وكما في قول القائل:
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
أي: أهل المجلس.
وهذه الأنهار التي تجري من تحت أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- بين ربنا جل جلاله أنها على أجناس أربعة، قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15]، أي: غير متغير، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، فهذه كلها تجري من تحت أهل الجنة.
حلية أهل الجنة
ثم قال: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31]، (يحلون) من الحلية، وهي ما يتزين به المرء.
وقوله: (من أساور من ذهب)، (من) الأولى والثانية لبيان الجنس، و(أساور) جمع أسورة، أو سوار وهو ما يحيط بالمعصم من الذراع. وهي من ذهب ومن فضة ومن لؤلؤ كما دل عليه القرآن.
ففي هذه الآية قال الله عز وجل: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الحج:23]، وفي سورة الحج بين ربنا جل جلاله أنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً [الحج:23].
وفي سورة فاطر يقول الله عز وجل: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر:33].
وفي سورة الإنسان بين ربنا جل جلاله أن تلك الأساور من فضة، قال سبحانه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21]، فأهل الجنة ينعمون بهذه الأنواع الثلاثة: يحلون أساور من ذهب، ويحلون أساور من فضة، ويحلون أساور من لؤلؤ، قال أهل التفسير: لما جرت عادة ملوك الدنيا أنهم يحلون بالأساور مثل ما قال اللئيم فرعون لعنه الله معترضاً على موسى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:51-53]، عاب على موسى أنه ليس له أساور، فالله عز وجل جعل جزاء أهل الجنة في الجنة أنهم يحلون فيها من أساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ.
ثياب أهل الجنة
وقوله تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف:31]، هذا نعيم آخر من نعيم أهل الجنة، بعدما نالوا نعيم الشراب الحسن في الأنهار التي تجري من تحتهم، وبعدما نالوا نعيم التحلي، لهم نعيم ثالث وهو نعيم اللباس، واللباس هو ما يستر البدن من قميص أو إزار أو رداء، وهو في الدنيا إما للوقاية من حر، أو برد، أو للتجمل والتزين، ومعلوم أن الجنة لا حر فيها ولا برد، قال الله عز وجل: لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان:13]، فلم يبق إلا التجمل والتزين، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
وقوله: (ثياباً) الثياب: جمع ثوب وهو الشقة من النسيج، وفي الحديث: ( جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أخبرني عن ثياب أهل الجنة، أخلق يخلق أم نسيج ينسج؟ ) أي: هل تخلق خلقاً بكلمة (كن)، أم تنسج نسجاً في الجنة؟ ( فضحك الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وفداه أبي وأمي ما من معلم أحسن منه- للصحابة: مم تضحكون؟ من جاهل يسأل عالماً )، يعني: ما ينبغي لكم أن تضحكوا، ( ثم التفت عليه الصلاة والسلام إلى السائل وقال له: تشقق من ثمار الجنة )، أي: أن هذه الثياب تشقق من ثمار الجنة.
ثم بين لون تلك الثياب فقال: ثِيَاباً خُضْراً [الكهف:31]، بين ربنا جل جلاله: أن ثياب أهل الجنة ذات لون أخضر، قال أهل التفسير: وقد جعل الله ثياب أهل الجنة خضراً؛ لأن الخضرة هي أروح الألوان وأهدؤها، وأسلمها للعين، وأدخلها للسرور على النفس، فاللون الأخضر يريح العين، ويهدئ النفس، ويدخل عليها السرور، وقد قال القائل:
أربعة مذهبة لكل هم وحزن: الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن
وهذه الأربعة كلها موجودة في الجنة: أما الماء فقال تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، والخضرة قال تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا [الكهف:31]، والبستان ذكره ربنا جل جلاله في كثير من الآيات كقوله سبحانه: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23]، وكقوله سبحانه: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، أي: شديدتا الخضرة، وكقوله سبحانه: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52]، يعني: أن أهل الجنة يعيشون في تلك الحال. أما الوجه الحسن فحدث ولا حرج، كما قال الله عز وجل: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:19-20].
وهذه الثياب من نوعين في هذه الآية: من سندس وإستبرق، أما السندس فهي ثياب رقاق رفاع تلبس مما يلي البدن؛ لأنها ناعمة، ثم بعدها ثياب من إستبرق، والإستبرق هو غليظ الديباج الذي حلي بخيوط الذهب، وله بريق، فالثياب الناعمة من سندس يلبسونها كدثار مما يلي البدن، ثم بعد ذلك الثياب الغليظة التي هي من غليظ الديباج (الإستبرق)، والتي غشيت بخيوط الذهب، ولها بريق يأخذ بالأبصار تلبس من خارج البدن.
جلوس أهل الجنة واتكاؤهم على الأرائك
ثم نعيم رابع: وهو نعيم الجلوس، قال الله عز وجل في وصف حالهم: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31]، يعني: بعدما تمتعوا بالشراب، وتمتعوا بالتحلي، وتمتعوا باللباس، بعد ذلك هم متمتعون في هيئتهم، وفي جلستهم، وفي راحة بالهم وطمأنينة قلوبهم، فلا يكونون واقفين، ولا مضطربين، ولا يذهبون ويروحون، وإنما هم متكئون، والاتكاء قيل: معناه الاضطجاع، وقيل: معناه التربع في الجلوس، والتربع: هي جلسة دالة على التنعم والترفه، وهذا هو الأنسب لحالهم كما بين ربنا جل جلاله في سورة الغاشية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [الغاشية:8-13]، وهذه السرر هي التي يتكئون عليها، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ [الغاشية:14]، أي: أكواب من ذهب، وأكواب من فضة، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية:15]، والنمارق جمع نمرقة، وهي الوسادة، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:16]، والزرابي جمع زربية، وهي السجادة الصغيرة التي تلقى في المداخل مبثوثة هنا وهناك.
وقوله: عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31]، (الأرائك) جمع أريكة، والأريكة: السرير الذي له حجال، قال أهل التفسير: الحجلة: قبة من ثياب تجعل على السرير تجلس فيه المرأة أو تنام، ولذلك يقال للنساء: ذوات الحجال أو ربات الحجال، ولعل الأقدمين من جداتكم وأجدادكم يعرفون ذلك، فهكذا كان الحال إلى عهد قريب.
وقول الله عز وجل: نِعْمَ الثَّوَابُ [الكهف:31]، هناك الله عز وجل قال عن أهل النار: بِئْسَ الشَّرَابُ [الكهف:29]، وهنا يقول عن أهل الجنة: نِعْمَ الثَّوَابُ [الكهف:31]، والثواب لغةً: يطلق على الجزاء، سواء كان جزاءً على الخير أو على الشر، فجزاء الخير بالخير، وجزاء الشر بالشر، كما في قول الله عز وجل: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36]، أي: هل جوزوا، وكما في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60].
قال الله عز وجل: َحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:31]، وهناك قال: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29]، وليس لهم ما يرتفقون به، لكن من باب السخرية والتبكيت لهم، وهنا قال: (حسنت مرتفقاً) أي: حسنت منزلاً، ومقاماً، وموضعاً، ومقيلاً.
فهذا الذي بينه ربنا جل جلاله في هذه السورة، من أن الجنة الطيبة المباركة ذات النعيم المقيم هي جزاء عباد الله المتقين، وقد بينه ربنا في آيات أخرى كما في سورة الإنسان: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً [الإنسان:5] إلى أن قال ربنا جل جلاله: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الإنسان:22]، وكما في قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، وكما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] إلى أن قال: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:24].
وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، وهناك آيات كثيرة في القرآن يقول الله عز وجل: (تجري من تحتها الأنهار)، وفي هذه الآية قال: (من تحتهم الأنهار)، أي: تجري من تحت الغرف، أو من تحت المنازل مياه الأنهار، لكن الله عز وجل هنا عدل عن قوله: (تحتها) إلى قوله: (تحتهم).
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي هذا العدول زيادة تقرير لإفادة معنى الملك، أي: أنهم قد ملكوا تلك الجنات، فصارت تضاف إليهم غرفاً ومنازلاً ونعيماً وأنهاراً.
وقوله تعالى: (الأنهار) مقصود بها مياه الأنهار، كما في قوله تعالى: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، أي: واسأل أهل القرية، هذا إيجاز بالحذف، وكما في قول القائل:
نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
أي: أهل المجلس.
وهذه الأنهار التي تجري من تحت أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- بين ربنا جل جلاله أنها على أجناس أربعة، قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15]، أي: غير متغير، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، فهذه كلها تجري من تحت أهل الجنة.
ثم قال: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31]، (يحلون) من الحلية، وهي ما يتزين به المرء.
وقوله: (من أساور من ذهب)، (من) الأولى والثانية لبيان الجنس، و(أساور) جمع أسورة، أو سوار وهو ما يحيط بالمعصم من الذراع. وهي من ذهب ومن فضة ومن لؤلؤ كما دل عليه القرآن.
ففي هذه الآية قال الله عز وجل: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الحج:23]، وفي سورة الحج بين ربنا جل جلاله أنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً [الحج:23].
وفي سورة فاطر يقول الله عز وجل: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر:33].
وفي سورة الإنسان بين ربنا جل جلاله أن تلك الأساور من فضة، قال سبحانه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21]، فأهل الجنة ينعمون بهذه الأنواع الثلاثة: يحلون أساور من ذهب، ويحلون أساور من فضة، ويحلون أساور من لؤلؤ، قال أهل التفسير: لما جرت عادة ملوك الدنيا أنهم يحلون بالأساور مثل ما قال اللئيم فرعون لعنه الله معترضاً على موسى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:51-53]، عاب على موسى أنه ليس له أساور، فالله عز وجل جعل جزاء أهل الجنة في الجنة أنهم يحلون فيها من أساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ.