تفسير سورة الأنعام - الآية [151]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول سبحانه وتعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].

هذه الآيات المباركات آيات محكمات، لم تنسخ في شريعة من الشرائع، وأنها متضمنة وصية محمد صلى الله عليه وسلم عليها خاتمه لم يفك، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأن هذه الوصايا العشر المباركة قد أنزلها الله عز وجل في كل كتاب وعلى كل رسول، فهي مما اتفقت عليها الشرائع، وهي مقسمة على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: وقد تضمنتها الآية الأولى وهي الوصايا الخمس، وهي آداب اجتماعية، قال تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

القسم الثاني: آداب تكون بين الخلق، وهي ما يسمى بالمعاملات، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، وسيأتي الكلام عن عهد الله عز وجل، وأنه متضمن للعهود التي تكون بين الناس، مما لا يقتضي تحليل حرام، أو تحريم حلال.

القسم الثالث: أدب جامع لهذه الوصايا كلها بلزوم صراط الله المستقيم، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

يقول ربنا الملك العلام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]، وأن هذه دعوة من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس؛ من أجل أن يستمعوا إليه، وينتبهوا لدعوته، ويمتثلوا أمره، وأن هذا الذي يبلغهم إياه إنما هو وحي من الله عز وجل.

الوصية بعدم الشرك وبيان خطره

الوصية الأولى: (ألا تشركوا به شيئاً)، والشرك بالله عز وجل هو أصل المصائب، وأس المعاصي، وبداية الهلاك، وأول درجة في سلم التردي في جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، والحديث في الصحيحين عن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده يوماً؛ فظننت أنه لا يحب أن يماشيه أحد، فصرت أمشي خلفه في ضوء القمر، فالتفت إلي فقال: من؟ قلت: أبو ذر فداك أبي وأمي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبرح حتى آتيك، يقول أبو ذر رضي الله عنه: فذهب عني فسمعت ضجيجاً، فهممت أن آتيه لولا عهده إلي بأن لا أبرح مكاني، ثم رجع إلي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا جبريل قد أتاني، فقال لي: يا محمد! من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فقال أبو ذر رضي الله عنه: وإن زنى وإن سرق؟! فقال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق، فكرر أبو ذر وإن زنى وإن سرق؟! فقال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق، فلما كررها في الثالثة، وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ؛ فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا حدث بهذا الحديث ساقه، ثم قال: رغم أنف أبي ذر ).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث أدب الأصاغر مع الأكابر، وأن الصغير لا يقتحم على الكبير خلوته، فمن أدب أبي ذر رضي الله عنه أنه لما رأى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ما فرض نفسه عليه، وإنما مشى خلفه، ولم يماشه خطوة بخطوة إلا بعدما التفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أدب هذا الحديث: جواز المراجعة في العلم؛ لأن الطالب لا مانع أن يراجع أستاذه إذا تكلم بما يخالف ما تقرر عند الطالب.

فـأبو ذر رضي الله عنه تقرر عنده في آيات القرآن وفي نصوص السنة أن الزاني معاقب، وأن السارق معاقب، وقد مثل رضي الله عنه بالزنا والسرقة؛ لأن الزنا مثال لحقوق الله، والسرقة مثال لحقوق العباد. فقال: وإن زنى وإن سرق؟! وراجع النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة.

ومن أدب هذا الحديث: أن الشيخ قد يزجر الطالب إن رأى منه إلحاحاً في المراجعة وإضجاراً، وهذا نجده في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن رغم أنف أبي ذر ).

ومن فوائد هذا الحديث: ما كان عليه الصحابة من عظم الأمانة وصدق الحديث، حتى إن أبا ذر رضي الله عنه نقله بكلماته وحروفه رغم ما يتضمنه من زجر له، لم يخف ذلك رضي الله عنه، بل نقله إلينا.

تحريم الشرك بأنواعه

لقد تضمنت هذه الآية تحريم الشرك بأنواعه، سواء في ذلك الشرك الأكبر؛ بأن تجعل لله نداً تحبه كحب الله، تخافه كخوفك من الله، ترجوه كرجائك في الله، أو بأن تصرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل، من ركوع، أو سجود، أو نذر، أو طواف، أو استغاثة، أو غير ذلك من أنواع العبادة.

وكذلك هذه الآية متضمنة تحريم الشرك الأصغر، وهو ما كان ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة توصل إليه، كالحلف بغير الله، أو أن يقول القائل لصاحبه: أنا في حسب الله وحسبك، أنا متوكل على الله وعليك، ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك من الكلمات.

وهي متضمنة كذلك لتحريم الشرك الخفي، وهو الرياء- والعياذ بالله، وذلك بأن يعمل العبد العمل لا يريد به وجه الله، أو يعمل العمل أو يقول القول يريد به وجه الله وغيره، وقد قال الله عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).

نبذ الشرك والدعوة إلى التوحيد أساس دعوة الأنبياء

إن مما يدل على غلظ الشرك وعظم خطورته أن الأنبياء جميعاً صلوات ربي وسلامه عليهم قد بدءوا دعوتهم لأقوامهم بالنهي عن الشرك، والأمر بعبادة الله وحده، كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:1-3]، وكذلك سائر الأنبياء وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85]، وقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42] إلى أن قال له: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]، وجماع ذلك قول ربنا جل جلاله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ دعوته لقومه أن صعد على الصفا، وقال لهم: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإني رسول الله إليكم جميعاً، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا )، فأول ما بدأ عليه الصلاة والسلام بدأ بالدعوة إلى كلمة التوحيد، كلمة لا إله إلا الله، التي هي جواز المرور إلى الجنة، وبغيرها لا سبيل إلى الجنة وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، إذ لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك إليها فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة )، وهذا الذي يخطئ فيه كثير من الناس حين يتصدون لدعوة غير المسلمين أو مناظرتهم وحوارهم، فإن كثيرين من المسلمين ينساقون إلى مناقشة النصارى أو اليهود في أمور أخلاقية، أو أمور تشريعية، مثل: كيف أعطى الإسلام المرأة حقوقها؟ كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان؟ كيف أن الإسلام أعطى الإنسان حريته في التفكير والاعتقاد؟ وما إلى ذلك. ويغفلون عن الأصل العظيم الذي هو الدعوة إلى التوحيد أولاً؛ ولذلك لما جاء نصارى نجران لمناظرة النبي عليه الصلاة والسلام ما بدأ عليه الصلاة والسلام يشرح لهم نظام الإسلام في الميراث، ولا حدثهم صلى الله عليه وسلم عن فلسفة العبادة في الإسلام- كما يقول المعاصرون - ولا عن نظام الأخلاق في الإسلام، وإنما دعاهم إلى الإسلام، إلى كلمة التوحيد، فقال له أولئك القسس: قد كنا مسلمين قبلك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يمنعكم من الإسلام ثلاثة: قولكم اتخذ الله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير )، هذه الثلاثة تكذب دعواكم في أنكم مسلمون -أي: مستسلمون لله عز وجل- وبدأ عليه الصلاة والسلام يناظرهم في كذب دعواهم، في أن المسيح هو ابن الله، قالوا له: يا محمد! إن كنت صادقاً فأرنا مخلوقاً قد خلق من أم بلا أب؛ فأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فإذا كان المسيح من أم بلا أب، فآدم من غير أم ولا أب، فآية القدرة فيه أظهر، فلو اتخذ إنسان إلهاً لكان آدم أولى من المسيح.

فالمقصود أن النهي عن الشرك، والأمر بعبادة الله وحده هو أس دعوة الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

الأمر بالإحسان إلى الوالدين

لقد ذكر ربنا جل جلاله بالأمر الإحسان إلى الوالدين فقال في الوصية الثانية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وذلك بالعطف عليهما، والشفقة بهما، ورحمتهما، وطاعة أمرهما، وإلانة القول معهما، وإكرام صديقهما، والإكثار من الدعاء لهما، وقضاء حوائجهما، وتعظيم شأنهما.. إلى غير ذلك من أنواع البر.

وقد سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، فقال رضي الله عنه: لا تنفض ثوبك أمامهما لئلا يصيبهما غباره.

إلى هذا الحد يصل البر، بحيث لا ينفض الإنسان ثوباً أمام والديه كراهة أن يؤذيهما بغبار هذا الثوب.

وكان بعض السلف إذا كلم أمه جعل ذقنه في صدره، لا يرفع طرفه إليها عملاً بقول ربنا جل جلاله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

بر الأنبياء بآبائهم

ويكفي أن الله عز وجل قد ذكر أنبياءه بأنهم كانوا يدعون لآبائهم وأمهاتهم؛ فهذا نوح عليه السلام حكى عنه ربنا في القرآن أنه قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28].

وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام، حكى عنه ربنا في القرآن أنه قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].

وكذلك نبي الله سليمان: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

وأثنى ربنا على يحيى بن زكريا بقوله: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وأثنى على عيسى عليه السلام بقوله: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32].

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: ( استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ).

الحكمة من وصية القرآن بحقوق الآباء دون الأبناء

أيها الإخوة الكرام! قد يسأل سائل فيقول: ما بال القرآن يوصي بالوالدين دون العكس؟

والجواب: لأن الوالدين مفطوران على الرحمة بالأولاد، والشفقة عليهم، والإحسان إليهم، والسهر على راحتهم، فقد يجوع الوالدان ليطعم الأولاد، وقد يسهر الوالدان لينام الأولاد، كما في قول الصحابي يخاطب ولده:

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ

هذا حال الوالد، ويكفينا أن القرآن قد حكى أن رجلاً من الرجال- لا كسائر الرجال، بل هو نبي من أنبياء الله - لما فقد ولده صار يبكي عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، وكان عليه السلام يكثر من أن يقول: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84] حتى رد الله إليه ولده.

ولذلك بعض الحكماء لما قيل له: ما تقول في موت الوالد؟ قال: ملك حادث، لو أن الوالد مات فقد تجدد للولد ملك؛ لأنه سيكون في مكان أبيه، سيرث مال أبيه، وربما يرث ملك أبيه، قال: ملك حادث. قيل له: فما تقول في موت الزوجة؟ قال: عرس جديد، فإذا ماتت الزوجة فيخلف الإنسان مكانها غيرها. قيل له: فما تقول في موت الأخ؟ قال: قص الجناح. قيل: فما تقول في موت الولد؟ قال: صدع في الفؤاد لا يندمل. يعني: موت الولد جرح لا يلتئم؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بالأجر العظيم والثواب الكبير الذي أعده الله عز وجل لمن فقد ولده فصبر واحتسب.

تقديم طاعة الزوج أو الزوجة على طاعة الوالدين

وهاهنا سؤالان لا بد من الجواب عنهما:

السؤال الأول: بعض الناس يقول بأنه أحياناً قد يتعارض بر الوالدين مع طاعة الزوج والعكس، فمثلاً قد يقول الزوج: يتعارض بر الوالدين مع إرضاء الزوجة.

وهنا نقول: إن كانت الزوجة يعارض برها بوالديها طاعتها لزوجها؛ فإن طاعة الزوج مقدمة على بر الوالدين، فلو أراد الزوج أن يسافر بزوجته إلى بلد يحل له السفر إليها، نقل من مكان عمله إلى مدينة أخرى مثلاً، أو ذهب يبتغي الرزق في أرض الله، في بلد مسلمة، ويريد أن يصطحب زوجته؛ فقال الوالدان أو أحدهما للزوجة: لا تسافري. هنا نقول لها: أطيعي الزوج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ( أن المرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ).

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الزوج هو جنة المرأة ونارها: ( سأل إحدى النساء: أذات بعل أنت؟ قالت: نعم، قال: كيف زوجك منك؟ قالت: لا آلوه. -لا أقصر معه إلا ما عجزت عنه- قال لها: فإنه جنتك ونارك ).

الزوج إما أن يدخلها الجنة وإما أن يدخلها النار، وأول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة زوجها قبل أن تسأل عن أمها وأبيها.

وإن كان العكس بحيث تعارض بر الوالدين مع إرضاء الزوجة؛ فإن بر الوالدين مقدم على الزوجة والأولاد؛ ولذلك حكوا عن بعض الأعراب: بأنه نحر جزوراً -نحر جملاً- ثم قال لزوجته: أطعمي أمي منه. قالت له: وأيها أطعمها؟ قال لها: الورك. قالت: تلك التي ظاهرها شحم وباطنها لحم، لا لعمر الله! الورك شيء عزيز. قال لها: فالكتف. قالت: تلك التي يكتنفها الشحم من كل جانب، لا لعمر الله! قال لها: فما أردت أن تطعميها؟ قالت له: اللحي. هذه التي ظاهرها جلدة، وباطنها عظم. قال لها: تزودي بها لأهلك. يعني: خذيها واذهبي لأهلك فأنت لا تصلحين زوجة.

هذا هو الزوج المبارك الذي لا يستبدل بأمه غيرها؛ لأن الزوجة يمكن أن تستبدل بها غيرها، أما الأم فليس منها عوض، وليس لها بدل بل هي أوسط أبواب الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الزم رجليها فثم الجنة ).

وقدم صلى الله عليه وسلم طاعة الولدين حتى على الجهاد، حين يكون فرض كفاية، فقال لرجل: ( ففيهما فجاهد ).

ولما قال له الصحابي: ( إني اكتتبت في غزوة كذا، وتركت والدي وهما يبكيان، قال له: فإن الله لا يقبل منك جهاداً حتى ترجع فتضحكهما كما أبكيتهما ).

كيفية التعامل مع المنكر في البيت مع وجود الوالدين

السؤال الثاني: هناك بعض إخواننا من الشباب، ممن لا يزال في كفالة أبيه يرى في البيت منكرات، كأن يكون في البيت تماثيل، وتصاوير، ومزازيق والموسيقى تصدح، والمغني ينبح، يقول: وقد نهيت أهل البيت عن هذا مراراً فلم يستمعوا إلي.

وبصيغة أخرى يقول: إخواني الصغار لا يصلون، وقد أمرتهم مراراً فلم يستجيبوا لأمري، فعاقبت بعضهم فغضب علي أبواي.

ولهذا نقول: أنت مأجور على أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، ولكن عليك ببر الوالدين كليهما، لا تغلظ عليهما، ولا تسيء إليهما، ولا تعبس في وجوههما، ولا تحد النظر إليهما، ولا ترفع صوتك ولو كان بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، وتذكر قول الله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22]، واقتد بالخليل عليه السلام الذي أمر أباه بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وقال له أبوه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم:46-47]، وما زاد على ذلك.. لم يقل لأبيه: اذهب إلى الجحيم. لم يقل لأبيه: أنت حر. لم يقل لأبيه: موعدنا يوم القيامة، وسترى ما يفعل الله بك. لم يقل لأبية: أبشر بالنار. معاذ الله.

فأنت ما دمت في كفالة أبيك فلا سلطان لك. السلطان للوالد، ما عليك إلا أن تستعمل لسانك مع الأدب الجم، والخلق الفاضل، ولو علم الله منك صلاح النية؟ وعلم الله منك أنك تريد الخير، وفي الوقت نفسه لجأت إلى الأسباب المشروعة بخدمة الوالدين والتذلل لهما والإسراع في قضاء حوائجهما وتلبية أوامرهما، مع خفض الجناح والإحسان إليهما، فإنهما عما قريب سيستجيبان.

أما بعض الشباب تجده يطوي كشحاً، يتأبط كتاباً داخلاً خارجاً ينظر شزراً، لا يدرس ولا يعمل، لكن من المسجد وإلى المسجد، آخذ كتابه وهو داخل، وآخذ كتاباً وهو طالع، لا يأتي بخبزة ولا جرجير، ثم بعد ذلك لا يساعد أبويه لو أرادا سفراً أو حضراً، أو قضاء حاجة، ثم بعد هذا كله يغضب إن لم يعط طاعة، فيا سبحان الله! لم يطيعانك؟! لم يستجيبان إليك؟!

تعامل أحد الدعاة مع والده المدخن

هذا أحد الدعاة الفضلاء من الأحياء يحدثني بنفسه يقول: كان الوالد -رحمة الله عليه- مبتلىً بالتدخين، فناصحته مراراً، وكنت أقبل رجليه. يعني: بلغ به التذلل لوالديه مبلغاً، وللأسف نحن ما ربينا على ذلك، إذ قلما تجد إنساناً يقبل رأس أبيه أو يديه، مع أنه -والحمد لله- ما زال البر شريعة سائدة في هذه البلاد؛ لكن برنا له حدود لا يتجاوزها، لكن من أعظم البر أن يقبل الإنسان رأس أبيه ويديه، ولو استطاع رجليه، فهذا طيب.

يقول هذا الابن: فلما أعيتني الحيلة وما زال الوالد مصراً على استعمال التبغ، لجأت إلى حيلة شرعية، فدعوت أحد الأصحاب، وكأنه يدخن، ولم يكن يدخن. فجاءني كأنه زائر، ثم بعد ذلك جلسنا في وجود الوالد، وبدأت أنصح هذا الإنسان بأن يتقي الله ويترك الدخان. وقد قال الله كذا، وسرد له الأدلة في تحريم هذا الشيء الخبيث من القرآن، وسرد الأدلة من السنة، قال: وانفعلت مع الموعظة حتى بكيت، فبكى الوالد رحمه الله ومزق علبة السجاير، والحمد لله رب العالمين.

نموذج من بر الصالحين المعاصرين

ومن البر العظيم ما يحكى عن بعض الصالحين من المعاصرين، قال: بلغ أبوه من الكبر عتياً, واشتعل رأسه شيباً، ولزم سرير المستشفى, وكان يبول ويتغوط بغير إرادة منه، لا يقدر على التحكم، وكان هذا الولد يبقى ساهراً ومتى ما أراد أبوه أن يبول وضع تحته الوعاء من أجل أن يبول ويتغوط، ثم يذهب بهذا الوعاء وينظفه بنفسه، وفي يوم من الأيام غفل عن أبيه، وكان الوعاء بعيداً، فالتفت أبوه يريد البول فما كان من ذلك الولد البار إلا أن وضع كفيه فبال فيهما أبوه.

وهذه صورة من صور البر لا يوفق إليها إلا الصالحون من عباد الله.

نموذج من عقوق الأبناء

وبالمقابل -والعياذ بالله- عهد من بعض الناس أن أمه لزمت سرير المرض -وقد أصابها داء خطير- الشهر والشهرين، فكان يعاودها كل أسبوع، ثم انقطع عنها، ويحدث بهذا الحديث أخوه فيقول: فاتصلت به أمه، أي: اتصلت بذلك العاق يوماً بصوتها الضعيف، وهي تنازع الموت، قالت له: يا بني! اتق الله، فقد أرضعتك من ثديي حولين كاملين، فما كان من ذلك العاق -قبحه الله- إلا أن قال لها: أرضعتني سنتين، وأنا على استعداد أن أبعث إليك بسيارة مملوءة حليباً لتشربي حتى تشبعي -نعوذ بالله-.

مثلما تفعل من البر تجد

إن البر سلف؛ فمن بر أبويه بره أولاده، ومن عق أبويه عقه أولاده، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.

قال الله عز وجل: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وهذا الإحسان متأكد في حال الكبر، إذا تقدمت بالوالدين أو بأحدهما السن؛ فإنه يكثر كلامهما، وتكثر شكايتهما، وتكثر مطالبهما، ولربما يكثر منهما الضجر والتأفف، ولربما يأمرك الواحد منهما بالأمر ونقيضه في وقت واحد، ولربما يغلظ عليك في القول، فهاهنا يكون البر آكد، والعقوق أشد حرمة، قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23].

قال الله عز وجل: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، أي: من فقر، أو خوف جوع، أو خوف عار، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، فالرزق من الله عز وجل وقد تكفل به وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

قال تعالى: ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، وفي آية الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31], لا تقتلوا أولادكم من إملاق حاصل، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق متوقع، لأن الله قال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31].

النهي عن ارتكاب الفواحش وخصال القبح

قال الله عز وجل في الوصية الرابعة: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

والفواحش: جمع فاحشة، وهي: كل خصلة متناهية في القبح، سواء كانت من معاصي الجوارح كالزنا والسرقة والغصب والقتل، أو كانت من معاصي القلوب كالكبر، والشح والحسد، والغل والبغضاء.. وما إلى ذلك، فينهانا ربنا جل جلاله أن نقرب الفواحش كلها، الظاهرة والباطنة.

ومن تفسير العام لبعض أفراده قول بعضهم: بأن العرب كان منهم أنذال يزنون علانية، وكان منهم ذوو مكانة وشرف، يتخذون الخدن سراً، وهذا كله حرام، الفاحشة المعلنة حرام، وكذلك الفاحشة الباطنة حرام؛ لأن الله قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

ونظير هذه الآية قول ربنا جل جلاله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

الحكمة من تخصيص النهي عن قتل النفس المحرمة بعد ذكر عموم الفواحش

قال الله عز وجل في الوصية الخامسة: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

قتل النفس فاحشة داخلة في عموم قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ [الأنعام:151]، ولكن خصها ربنا بالذكر كما قال أهل التفسير لمعنيين:

المعنى الأول: تعظيماً وتهويلاً وتبشيعاً لجريمة القتل؛ لأنها فاحشة لا كالفواحش، ومعلوم أن قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك بالله؛ لأن الله عز وجل قرن بينها وبين الشرك، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، ومصداق ذلك في السنة ما ثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه: ( قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ).

المعنى الثاني: خص ربنا جل جلاله القتل بالذكر؛ لأن من القتل ما هو بحق، ومنه ما هو بغير حق، والفواحش ممنوعة بإطلاق؛ لكن القتل ليس ممنوعاً بإطلاق.

بل القتل ممنوع إذا كان قتلاً بغير حق، أما إذا كان قتلاً بحق فلا بأس.

قتل المرتد الزاني والمحصن والقاتل عمداً

فيكون القتل بحق إذا كان كما ثبت في الحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة )؛ فبين رسول صلى الله عليه وسلم أن القتل يكون بحق في هذه الأحوال الثلاثة: من زنى بعد إحصان، ومن كفر بعد إيمان، ومن قتل نفساً بغير نفس.

ويستثنى من ذلك ما لو قتل الوالد ولده، فإنه لا يقاد الوالد بالولد.

ويستثنى من ذلك أيضاً: لو قتل المسلم كافراً، فإنه لا يقتل المسلم بالكافر.

ويستثنى من ذلك أيضاً في قول بعض أهل العلم: فيما لو قتل الحر عبداً، على خلاف بينهم: هل المقصود عبد نفسه أم المقصود العبد بإطلاق؟

قتل اللوطي والواقع على ذات المحرم وعلى البهيمة

وهناك أحوال أخرى يكون فيها القتل بحق، من ذلك قتل من عمل عمل قوم لوط، عند جمهور أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ).

ومن القتل بحق: من وقع على ذات محرم، كمن وقع- والعياذ بالله - على أمه أو على أخته أو على بنته أو على زوجة أبيه، ( فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل رجل نكح زوجة أبيه ).

ومن القتل بحق: إذا وقع الإنسان على بهيمة، كما جاء في بعض الأحاديث: ( أن من وقع على بهيمة فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ).

قتل المحارب والآخر من الخليفتين

ومن القتل بحق: قتل المحارب: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33]، ومذهب إمامنا مالك رحمه الله أن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربعة المذكورة: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33]، قال: ليست مرتبة، كما قال الجمهور: بأن القتل يكون لمن قتل، والقتل مع الصلب يكون لمن قتل وأخاف السبيل، وأن القطع من خلاف لمن أخذ المال، وأن النفي من الأرض يكون لمن أخاف السبيل؛ لكنه لم يقتل نفساً، ولم يأخذ مالاً.

يقول مالك رحمه الله: لا؛ لأن هذه قيود بغير مقيد، والقرآن أطلق، و(أو) تفيد التخيير؛ فالإمام مخير إن شاء قتل وإن شاء صلب، وإن شاء قطع وإن شاء نفى، ينظر فيما يحقق مصلحة الناس. هذا رأي مالك رحمه الله.

ومن القتل بحق: إذا بويع لخليفتين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ).

وقال عليه الصلاة والسلام: ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه )، فمن جاء ينازع ويفرق فإنه يقتل.

قتل تارك الصلاة

ومن القتل بحق: قتل تارك الصلاة، كأن يكون إنساناً لا يصلي، قلنا له صل، فقال: إن شاء الله، ثم قلنا: صل، فقال: إن شاء الله، وإذا قلنا له: صل، فقال: لا أصلي؛ بلا صلاة بلا كلام فارغ، فهذا يدخل في النوع الثالث: التارك لدينه، المفارق للجماعة، هذا مرتد، ولا خلاف فيه بين أهل العلم، وإنما الخلاف فيمن نقول له: صل، فيقول: إن شاء الله، ويتكاسل عنها لانشغاله بأمور الدنيا أو غيرها؛ فمثل هذا عند الأئمة الثلاثة: مالك ، و الشافعي ، و أحمد يحبس. فإذا قلنا له: صل المغرب فقال: إن شاء الله، ورأيناه لا يصلي فإنه يحبس، فإذا خرج وقتها ولم يصل فإنه يقتل عند مالك و الشافعي حداً، أي: أنه مسلم، وعند أحمد بن حنبل كفراً.

والدليل على قتل تارك الصلاة مفهوم قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. فمفهوم الآية: إن لم يقيموا الصلاة فلا تخلوا سبيلهم.

أما من السنة: فلما ورد أن ذا الخويصرة التميمي الأعرابي سيء الأدب، لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( لما رآه يقسم غنائم حنين، فقال له: يا محمد! اتق الله واعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغير وجهه، قال له: ويحك من يعدل إن لم أعدل أنا، خبت وخسرت إن لم أعدل، ألا تأمنوني وأنا أمين