خطب ومحاضرات
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد
الحلقة مفرغة
فضل سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الأعلى هي السورة التي نقرأ بها في صلاة الوتر في كل ليلة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى).
وثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة ، و أبي بن كعب ، و عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)، زادت أمنا عائشة رضي الله عنها: (وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) .
وثبت في مسند أحمد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية في صلاة العيد، وفي صلاة الجمعة).
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على تسع عشرة آية، وثمان وسبعين كلمة، وإحدى وسبعين ومائتي حرف، بمعنى: أن من قرأ هذه السورة فإن له من الحسنات ألفان وسبعمائة وعشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة لأنها اشتملت على بشارتين:
البشارة الأولى: قول الله عز وجل: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى[الأعلى:8] أي: نيسرك لكل سبيل خير في الأقوال والأعمال.
والبشارة الثانية: قول الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى[الأعلى:6]، فبشره الله عز وجل بأن القرآن محفوظ لا يحتاج منه إلى جهد صلوات الله وسلامه عليه، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[القيامة:17-18].
معنى قوله سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى
وهذه السورة افتتحت بالأمر: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: نزه اسم ربك إذا كان مختصاً به جل جلاله، وقد أجمع أهل العلم على أن هناك اسمين عظيمين لا يطلقان إلا على رب العزة جل جلاله: الله والرحمن، قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ[الإسراء:110]، ولذلك لا يوصف أحد من خلق الله بواحد من هذين، فلا يقال عن أحد: إنه الله، أو الرحمن، ويمكن أن يقال: الرحيم، كما قال الله عز وجل: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[الأحزاب:43]، أو: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] في حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
فنزه اسم الله عز وجل عن أن تطلقه على غيره إذا كان مختصاً به، نزه اسم الله عز وجل أن تؤله غيره، نزه اسم الله عز وجل من أن تعتقد أن غيره يتصف به على سبيل الكمال، بأن تقول: فلان رازقي، أو أنا توكلت على فلان. فهذا كله ممنوع يخالف التنزيه الوارد، ونزه اسم الله عز وجل من أن يطرح على الأرض، أو يلقى في المزابل.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: الأعلى مكاناً جل جلاله، فهو سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، تعرج الملائكة إليه، ويتنزل الأمر من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الأعلى مكاناً، والأعلى مكانة: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[الشورى:4]، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[الحج:62]، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى[الليل:19-20] فهو سبحانه أعلى ذاتاً ومكانة.
لماذا نسبح الله تعالى؟
قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، يا ربنا! لم نسبحك؟ ذكر سبحانه الحيثيات والأسباب لذلك: أول سبب: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[الأعلى:2]، فقد استدل سبحانه بخلقه على جلاله وقدرته سبحانه وتعالى. وهذا سبيل الأنبياء كما قال الرازي رحمه الله، فطريقة أكابر الأنبياء: الاستدلال بالخلق على الله، كما قال إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:77-80]، وكما قال موسى عليه السلام لما سأله فرعون عن رب العالمين جل جلاله، فقال له موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50]، وهذه هي صفته سبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، سوى بين الخلائق في الإحكام والإتقان، فكما أن خلقة السماء محكمة متقنة متينة كذلك فإن أدنى حشرة من الحشرات محكمة.
والسبب الثاني: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى[الأعلى:3].
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا[الأحزاب:38]، فقد هدى بني آدم لما ينفعهم.. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10]، وهدى البهائم لمراتعها، فحتى البهائم والطيور تعرف ما ينفعها مما يضرها أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50].
والسبب الثالث: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى[الأعلى:4].
وهو الحشائش الرطبة التي ترعى فيها البهائم فتسمن وتبدن ويدر ضرعها بإذن ربها، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى[الأعلى:5]، فبعد أن كان هذا المرعى رطباً طيباً يؤكل صار غثاء يابساً هشيماً يحمله السيل بزبده، وأحوى: أي أسود بعدما كان أخضر يانعاً خضرته تسر الناظرين.
إثبات النسخ في الأحكام
ثم وجه ربنا جل جلاله الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى[الأعلى:6]، وهذا القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعاء حافظ، فجبريل ينزل بالوحي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى أن يردد ولا أن يعيد، وإنما يحصل الحفظ تلقائياً ومن ثم البلاغ.
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى[الأعلى:7] إلا ما شاء الله أن ينسيك إياه لكونه منسوخاً، يعني: -ولله المثل الأعلى- كما أن الطبيب يكتب للمريض دواء، ثم بعد حين تقتضي حالة المريض تغيير الدواء، كذلك ربنا جل جلاله يغير في الأحكام، فعلى زمن التشريع كانت تتغير الأحكام، فبعدما كان الواجب هو صيام عاشوراء فقط، نسخ صيام هذا اليوم بصيام شهر كامل هو شهر رمضان، وبعدما كان صيام رمضان على التخيير من شاء صام ومن شاء أطعم صار واجباً فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185]، ولو كان غنياً، ولو أطعم ألف مسكين، بل ألف ألف مسكين لا يسقط عنه الصيام.
إحاطة علمه سبحانه بالسر والعلانية
قال تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى[الأعلى:7]، فالله جل جلاله يعلم ما نجهر به وما نعلن، وما نخفيه ونضمره، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
لذلك كان بعض الناس يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده سؤال فيقول: يا رسول الله! إني سائلك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سل، وإن شئت أخبرتك قبل أن تسأل) فمن أين عرف عليه الصلاة والسلام؟ من الله سبحانه وتعالى.
كذلك الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنه سيد بني المصطلق: فقد جاء يوماً في فداء ابنته جويرية بإبل كثيرة، ولما وصل على مشارف المدينة أعجبه بعيرين، فغيبهما في شعب من الشعاب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جئتك في فداء ابنتي، وهذه الإبل كلها في فدائها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دع عنك هذا وأخبرني عن البعيرين اللذين غيبتهما في ذلك الشعب ما خبرهما؟! فقال الرجل: والله ما أعلمك إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله).
فالله عز وجل يعلم السر وما كان أخفى من السر، والسر: هو ما يكون بينك وبين فلان، والأخفى من السر: هو ما أضمرته في نفسك ولم تحدث به أحداً قط.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى[الأعلى:8]، أي: الشريعة السمحة السهلة الميسرة في أحكامها، الميسرة في فهمها وأداء أركانها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمح الناس وأيسرهم، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما عليه الصلاة السلام، ودينه اليسر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185].
مكانة الذكرى في قلوب المتقين
قال الله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[الأعلى:9]. وهذا كقوله سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ[ق:45].
قال أهل العلم: يؤخذ من هذا أدب: أن العلم لا يوضع عند من لا يوقره ولا يحترمه، وإنما يبذل العلم لمن ينتفع به: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[الأعلى:9].
قال الله عز وجل: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى[الأعلى:10] كما قال: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا[يس:70]، فمن يخشى الله عز وجل ويتقيه هو الذي ينتفع بهذا القرآن. أما الفاجر والمنافق والشقي فإن القرآن ظلمات عليه.
وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى[الأعلى:11]، نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يسمع القرآن، ويقول: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، ثم قال بعد ذلك: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ[المدثر:24]، فهذا هو الأشقى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:12]، الذي سيعاني حرها، ويصلى سعيرها.
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:13]، نسأل الله العافية، فهو في النار لا ميتاً فينسى، ولا حياً فيرجع، قال الله عز وجل: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ[إبراهيم:17]، وليته مات، يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، يطلبون من الله أن يميتهم وأن يهلكهم لكن لا يستجاب لهم، وهكذا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[النساء:56]، كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسراء:97].
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14]، نال الفلاح من زكى نفسه بالطاعة والعبادة والذكر وقراءة القرآن والدعاء.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى:15] قالوا: المقصود بالزكاة زكاة الفطر، فهو يزكى ثم يصلى بعدها صلاة العيد، وذكر اسم ربه بالتكبير فصلى.
شقاء من آثر الدنيا على الآخرة
قال الله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[الأعلى:16] وهذه هي عادة بني آدم في الأعم الأغلب، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ[القيامة:20-21] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ويجمع لها من لا عقل له).
وقال علي بن أبي طالب : (الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل يحق الحق ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها)، بل حالكم أنكم تؤثرون الحياة الدنيا، تؤثرون العاجلة، كما قال بعض الفساق: لا أبيع نقداً بنسيئة، يعني بالنقد: الدنيا، وبالنسيئة: الآخرة، أنا لا أبيع الدنيا من أجل الآخرة.
قال الحسن البصري رحمه الله: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لوجب على العاقل أن يؤثر الباقي على الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى؟! بالله عليكم! لو أن إنساناً يبني بيتاً ويجمله فهل يبقى على جماله؟ بل إنه يصير بعد سنة وسنتان وثلاث وعشر بالياً خرباً، لكن الآخرة ذهب يبقى، وأهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم، لا يبصقون، ولا يمرضون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، في نعيم الأبد هذا حالهم.
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى:17] وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، كقول الله عز وجل: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا[الفرقان:24] إذ لا مقارنة بين مقيل أهل الجنة وأهل النار لأجل أن يقال: أحسن، فأفعل التفضيل ليس على بابه.
الأمثال والعبر هي فحوى صحف إبراهيم وموسى
قال الله: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى[الأعلى:18]، الإشارة هنا لقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14] وهذا مذكور في قوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ[الشعراء:196] .. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:19]، سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كانت أمثالاً)، ومن بين أمثاله التي وردت وحكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينبغي للعاقل أن تكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو بحاجته من المطعم والمشرب، وينبغي للعاقل ألا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم) .
فالإنسان إما أن يسعى للآخرة، أو للدنيا، أو يتلذذ بغير محرم.
وينبغي للعاقل أن يكون مقبلاً على شانه، ممسكاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا في ما يعني، قال أبو ذر : يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: (كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟! وعجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف لا يعمل؟! وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟!) إنسان رأى الدنيا، ورأى تقلبها بأهلها، الصحيح يسقم، والغني يفتقر، والقوي يضعف، كيف يطمئن إلى هذه الدنيا ويخلد إليها؟!
ومن السنة: قراءة سورة الأعلى مع سورة الكافرون في صلاة الوتر، ومن السنة: قراءة سورة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة، ومن السنة: قراءتهما في صلاة العيد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المرتفعين المعتدلين المتعظين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
سورة الأعلى هي السورة التي نقرأ بها في صلاة الوتر في كل ليلة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى).
وثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة ، و أبي بن كعب ، و عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)، زادت أمنا عائشة رضي الله عنها: (وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) .
وثبت في مسند أحمد من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية في صلاة العيد، وفي صلاة الجمعة).
وقد اشتملت هذه السورة المباركة على تسع عشرة آية، وثمان وسبعين كلمة، وإحدى وسبعين ومائتي حرف، بمعنى: أن من قرأ هذه السورة فإن له من الحسنات ألفان وسبعمائة وعشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة لأنها اشتملت على بشارتين:
البشارة الأولى: قول الله عز وجل: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى[الأعلى:8] أي: نيسرك لكل سبيل خير في الأقوال والأعمال.
والبشارة الثانية: قول الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى[الأعلى:6]، فبشره الله عز وجل بأن القرآن محفوظ لا يحتاج منه إلى جهد صلوات الله وسلامه عليه، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[القيامة:17-18].
وهذه السورة افتتحت بالأمر: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: نزه اسم ربك إذا كان مختصاً به جل جلاله، وقد أجمع أهل العلم على أن هناك اسمين عظيمين لا يطلقان إلا على رب العزة جل جلاله: الله والرحمن، قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ[الإسراء:110]، ولذلك لا يوصف أحد من خلق الله بواحد من هذين، فلا يقال عن أحد: إنه الله، أو الرحمن، ويمكن أن يقال: الرحيم، كما قال الله عز وجل: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[الأحزاب:43]، أو: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] في حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
فنزه اسم الله عز وجل عن أن تطلقه على غيره إذا كان مختصاً به، نزه اسم الله عز وجل أن تؤله غيره، نزه اسم الله عز وجل من أن تعتقد أن غيره يتصف به على سبيل الكمال، بأن تقول: فلان رازقي، أو أنا توكلت على فلان. فهذا كله ممنوع يخالف التنزيه الوارد، ونزه اسم الله عز وجل من أن يطرح على الأرض، أو يلقى في المزابل.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، أي: الأعلى مكاناً جل جلاله، فهو سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، تعرج الملائكة إليه، ويتنزل الأمر من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الأعلى مكاناً، والأعلى مكانة: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[الشورى:4]، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[الحج:62]، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى[الليل:19-20] فهو سبحانه أعلى ذاتاً ومكانة.
قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1]، يا ربنا! لم نسبحك؟ ذكر سبحانه الحيثيات والأسباب لذلك: أول سبب: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[الأعلى:2]، فقد استدل سبحانه بخلقه على جلاله وقدرته سبحانه وتعالى. وهذا سبيل الأنبياء كما قال الرازي رحمه الله، فطريقة أكابر الأنبياء: الاستدلال بالخلق على الله، كما قال إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:77-80]، وكما قال موسى عليه السلام لما سأله فرعون عن رب العالمين جل جلاله، فقال له موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50]، وهذه هي صفته سبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، سوى بين الخلائق في الإحكام والإتقان، فكما أن خلقة السماء محكمة متقنة متينة كذلك فإن أدنى حشرة من الحشرات محكمة.
والسبب الثاني: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى[الأعلى:3].
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا[الأحزاب:38]، فقد هدى بني آدم لما ينفعهم.. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[البلد:10]، وهدى البهائم لمراتعها، فحتى البهائم والطيور تعرف ما ينفعها مما يضرها أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50].
والسبب الثالث: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى[الأعلى:4].
وهو الحشائش الرطبة التي ترعى فيها البهائم فتسمن وتبدن ويدر ضرعها بإذن ربها، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى[الأعلى:5]، فبعد أن كان هذا المرعى رطباً طيباً يؤكل صار غثاء يابساً هشيماً يحمله السيل بزبده، وأحوى: أي أسود بعدما كان أخضر يانعاً خضرته تسر الناظرين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر | 2539 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] | 2511 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] | 2379 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] | 2369 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] | 2297 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] | 2265 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] | 2172 استماع |
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] | 2089 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] | 2052 استماع |
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] | 1966 استماع |