Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فيقول تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:71-78].

تقدم معنا الكلام عن سبب هذه القصة التي أوردها ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة، وعرفنا من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( أن نبي الله موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: هل أحد أعلم منك؟ فقال: لا )، أو سئل: ( يا نبي الله! أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، ولم يستثن، فعاتبه ربه أن لم يرد العلم إليه، وقال له: بلى، إن عبدنا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب! كيف السبيل إلى لقيه؟ فقال له: خذ حوتاً، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون إلى أن بلغ المكان الذي عين لهما، فوجدا ذلك العبد الصالح مسجىً ببردة خضراء، فسلم عليه موسى عليه السلام، وسأله الصحبة ليتعلم منه علماً نافعاً، فاشترط عليه ذلك العبد الصالح إن صحبه ألا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يخبره، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، وبين له العلة في ذلك، فقال له: يا موسى! أنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت ).

العلة في عدم ذكر يوشع فتى موسى في رحلته مع الخضر كما في قوله تعالى: (فانطلقا)

يقول الله عز وجل في وصف رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، الحديث هنا عن شخصين، (فانطلقا) المراد بذلك: موسى و الخضر ، ولم يذكر يوشع فتى موسى؛ إما لأنه تابع غير أصيل في القصة، وقال بعض المفسرين: بل رده موسى إلى بني إسرائيل، يعني: بعدما وجد موسى ضالته، والتقى العبد الصالح الذي طلبه أمر فتاه بأن يرجع إلى بني إسرائيل فيكون عليهم قائداً يصرف أمورهم، ويسوس شئونهم.

قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق، وهو: ضد التقييد، يقال: أطلقت الدابة إذا تركتها تذهب، وحللت عنها عقالها.

ركوب موسى والخضر في السفينة

حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، (حتى) غائية، أي: إلى غاية ركوبهم في السفينة، وقد مرت بهم سفينة جميلة لا يوجد سفن في ذلك الوقت أجمل منها، فلما عرف أصحاب هذه السفينة العبد الصالح الخضر عليه السلام، حملوه إكراماً له هو وصاحبه من غير نول، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فطلبا منهم أن يحملوهما -أي: موسى و الخضر طلبا من أصحاب السفينة أن يحملوهما- فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، -أي بغير أجرة- فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة -أي وقف على طرفها وحافتها- فنقر نقرةً أو نقرتين في البحر، فقال الخضر : يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر ).

المراد بالنقص من علم الله في قول الخضر: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله ...)

قال شراح الحديث: إما أن يكون المقصود بالنقص: العلم المعلوم؛ لأن العلم صفة أزلية قائمة بذات الله لا تتعرض لنقص، أو أن يكون معنى النقص هنا: الأخذ، ( ما نقص علمي وعلمك من علم الله )، أي: ما أخذنا من علم الله جل جلاله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من ماء البحر، وانظروا إلى النسبة كم أخذ العصفور من ماء البحر، فالنسبة لو أردنا أن نقدرها فهي لا شيء، فعلم نبي الله موسى الذي اصطفاه الله على الناس برسالاته وبكلامه، وكلمه الله تكليماً، وآتاه التوراة فيها هدىً ونور، وعلم الخضر هذا النبي الفاضل، أو العبد الصالح، على سعة علمه، علمه مع علم موسى ما أخذ من علم الله عز وجل إلا كما أخذ هذا العصفور من ماء البحر، ويكفينا الآية التي نحفظها جميعاً، والتي هي سيدة آي القرآن قال الله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255].

وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الكرسي هنا: بالعلم، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، أي: علمه، وقبلها قول الله عز وجل: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، يعني: لا يعلم العباد إلا ما شاء تعليمهم إياه.

خرق الخضر للسفينة وإنكار موسى عليه

يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71]، يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفائدة الظرفية هنا يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذَا رَكِبَا [الكهف:71]، أي: بمجرد ركوبهما عمد العبد الصالح إلى خرق السفينة، فما تلبث ولا انتظر، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71].

هذا الفعل (ركبا) الأصل أنه يتعدى بنفسه، قال الله عز وجل: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، ما قال: لتركبوا عليها؛ لأن الفعل يتعدى بنفسه، تقول: ركبت السفينة، ركبت الطائرة، وركبت القطار، ولكن هنا جيء بحرف الجر (في) لإفادة الدخول، حتى إذا دخلا في السفينة خرقها، والخرق هو: الشق والثقب، وهو: ضد الالتئام، كيف خرقها الخضر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه )، أي: نزع لوحاً واحداً من ألواح السفينة، ( فقال موسى عليه السلام منكراً هذه الفعلة: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] )، وهذه قراءة الجمهور، وفي قراءة حمزة و الكسائي و خلف العاشر : (أخرقتها ليغرق أهلها)، وعلى القراءتين نلاحظ أن موسى عليه السلام لم يتكلم عن نفسه، وإنما يتكلم عن الناس، يعني: ليس همه نفسه، لم يقل عليه السلام: أخرقتها لأغرق، أخرقتها لتغرقني، وإنما همه في الناس (أخرقتها ليغرق أهلها)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ). وجاء في بعض الروايات: أن موسى عليه السلام قال للخضر : ( أخرقتها لتغرق أهلها، لتعلمن أنك أول غارق )، أي: أنت أول واحد سيغرق.

إطلاع الله أنبياءه على ما يشاء من علم الغيب

وفي بعض الروايات: ( بأن موسى عليه السلام انتحى جانباً -بعدما قال له الخضر : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]- وبدأ يحدث نفسه، ويقول: قد كنت في بني إسرائيل أعظهم وأذكرهم فينفعهم الله بكلامي، فما أصنع بصحبة هذا الرجل؟ )، يعني: أوقعني في هذه المصيبة، ( فجاء الخضر وقال له: يا موسى! إن شئت أخبرتك بما حدثتك نفسك )، ولا غرابة فليس هذا دليلاً على أن الخضر يعلم الغيب؛ بل الخضر كما مضى الكلام نبي، والأنبياء يطلعهم الله عز وجل على ما شاء من الغيوب، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جاء أحد الناس قال: يا رسول الله! أريد أن أسألك، فقال له عليه الصلاة والسلام: إن شئت سألت، وإن شئت أخبرتك، فقال: أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ البر: حسن الخلق، والإثم: ما تردد في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس )، وكذلك ( الرجل الذي جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يشكو أن أباه يأخذ ماله -أي: معه مال وأبوه يستولي عليه- فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ادع لي أباك، فلما ذهب الشاب ليدعو أباه نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد! إن جاءك الشيخ فسله عن شيء تحدثت به نفسه، لم تسمعه أذنه ) يعني: هو نفسه ما تكلم به، ( فلما جاء الشيخ قال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن ولدك يشكو أنك تأخذ ماله، فقال: يا رسول الله! سله -يعني سل هذا الولد- هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته؟ )، يعني: أنا آخذ ماله نعم، ولكن أين أذهب به؟ أنفقه على إحدى عماته أو خالاته، ( فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: دع عنك هذا، وحدثني بشيء تحدثت به في نفسك لم تسمعه أذناك، فقال الرجل: يا رسول الله! والله ما زلنا في كل يوم نزداد يقيناً بأنك رسول الله، ثم قال له: لقد قلت في نفسي كلمات أخاطب بها ولدي هذا:

غذوتك مولوداً ومنتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل

فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل

فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل

فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بتلابيب الولد، وقال له: قم، أنت ومالك لأبيك ).

فالشاهد أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يطلعهم الله عز وجل على ما شاء من الغيوب.

أما بالنسبة للأولياء فسيأتي بحث إن شاء الله في خواتيم هذه القصة فيما يتعلق بما يسمى بالكشف أو المكاشفة، وأبين إن شاء الله وجه الحق في هذا والعلم عند الله تعالى.

رد الخضر على موسى وإنكاره خرق السفينة

قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام مخاطباً العبد الصالح: أَخَرَقْتَهَا [الكهف:71]، أي: أخرقت تلك السفينة؛ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، (لقد جئت) أي: أتيت وفعلت، (شيئاً إمراً) أي: منكراً عظيماً، وفعلةً شنيعة، والإمر يقال: أمر الشيء يأمر، أمر يأمر إمراً، من باب فرح يفرح، أمر يأمر إمراً، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71].

وقال الشاعر:

لقد لقي الأقران مني نكراً داهيةً دهياء إداً إمراً

أي: لقد جئت منكراً عظيماً وشيئاً فظيعاً تستحق المؤاخذة عليه، جاء في بعض الروايات أن السفينة لم يدخلها الماء، رغم أنه قد قلع لوحاً من ألواحها، وجاء في بعضها أن الخضر عليه السلام عمد على شيء من زجاج، فسد به تلك الفتحة أو ذلك الخرق الذي أحدثه.

لما أنكر موسى على الخضر بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، قال له الخضر المعلم الشفوق مذكراً هذا التلميذ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، أي: لقد كنت أعلم حين أخبرتك أولاً أنك لن تستطيع معي صبراً، وأنت يا موسى! قلت عن نفسك: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، والآن يبدو من حالك أنك لن تصبر، أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، فبادر موسى عليه السلام على علو كعبه في العلم، وعظيم منزلته عند الله إلى الاعتذار: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، (لا تؤاخذني) (لا) الناهية، (تؤاخذني) من المؤاخذة، وهي مشتقة من الأخذ، إذا أخذ الإنسان بجريرته قيل عن ذلك: مؤاخذة، وهي مفاعلة على سبيل المبالغة، وإلا فالأخذ حقيقةً يكون من طرف واحد.

معنى النسيان في القرآن الكريم

قوله تعالى: بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، الباء: باء السببية، أي: بسبب ما نسيت، (ما) إما أن تكون موصولة، أي: لا تؤاخذني بالذي نسيت، وإما أن تكون مصدرية، لا تؤاخذني بنسياني، ومعنى النسيان هنا: إما أن يكون مراداً به: الذهول، فقولك: أنا ذهلت، أي: حصل لي شيء من نسياني ما أخذته على نفسي من عهد، وإما أن يكون مراداً بالنسيان: الترك، لا تؤاخذني بما تركت من العهد الذي قطعته على نفسي، وكلا المعنيين في القرآن مذكور، فالنسيان بمعنى: الذهول كثير، وقد مضى معنا قول الله عز وجل: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف:63]، أما النسيان بمعنى: الترك، فهو في قول الله عز وجل: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، (نسيهم) بمعنى: تركهم، وإلا لا يتصور في حق الله جل جلاله الذهول كما قال نبي الله موسى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:50-52].

النسيان من الله عز وجل معناه: الترك، (نسوا الله فنسيهم) أي: تركهم وأهملهم، فموسى عليه السلام يعتذر إلى الخضر ، يقول له: قد أصابني شيء من الذهول والنسيان، وهذه من عوارض البشرية التي تطرأ على الأنبياء، وسيد الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه مرةً فقام من اثنتين، يعني: بعد ركعتين، فبدلاً من أن يجلس للتشهد قام لثالثة، ومرةً قام لخامسة صلوات الله وسلامه عليه، ومرةً سلم من اثنتين، يعني: بعدما صلى بهم ركعتين في إحدى صلاتي الظهر أو العصر سلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني )، وربنا سبحانه وتعالى قال عن آدم: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]، فهذا دليل على استيلاء النقص على جملة البشر؛ لأن جملة البشر معرضون للنسيان.

معنى قوله: (ولا ترهقني) واختلاف القراءات في (عسراً)

موسى عليه السلام قال: وَلا تُرْهِقْنِي [الكهف:73]، يقال: رهقه إذا غشيه، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:73]، (عسراً) هذه قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : (ولا ترهقني من أمري عسراً)، بضم العين والسين، وهما لغتان، كما يقال: نكراً، ونكراً، سيأتي معنا في الآية التي بعدها قراءة: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، وقراءة: (لقد جئت شيئاً نكراً)، هنا أيضاً (عُسْراً) (عُسُراً)، يقول موسى عليه السلام لأستاذه: عاملني باليسر لا بالعسر، لا تؤاخذني بالنسيان الذي طرأ علي، ففرط مني ما فرط من إنكار وغلظة قول، فأرجو منك المسامحة لا المؤاخذة.

يقول الله عز وجل في وصف رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، الحديث هنا عن شخصين، (فانطلقا) المراد بذلك: موسى و الخضر ، ولم يذكر يوشع فتى موسى؛ إما لأنه تابع غير أصيل في القصة، وقال بعض المفسرين: بل رده موسى إلى بني إسرائيل، يعني: بعدما وجد موسى ضالته، والتقى العبد الصالح الذي طلبه أمر فتاه بأن يرجع إلى بني إسرائيل فيكون عليهم قائداً يصرف أمورهم، ويسوس شئونهم.

قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق، وهو: ضد التقييد، يقال: أطلقت الدابة إذا تركتها تذهب، وحللت عنها عقالها.

حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، (حتى) غائية، أي: إلى غاية ركوبهم في السفينة، وقد مرت بهم سفينة جميلة لا يوجد سفن في ذلك الوقت أجمل منها، فلما عرف أصحاب هذه السفينة العبد الصالح الخضر عليه السلام، حملوه إكراماً له هو وصاحبه من غير نول، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فطلبا منهم أن يحملوهما -أي: موسى و الخضر طلبا من أصحاب السفينة أن يحملوهما- فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، -أي بغير أجرة- فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة -أي وقف على طرفها وحافتها- فنقر نقرةً أو نقرتين في البحر، فقال الخضر : يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر ).

قال شراح الحديث: إما أن يكون المقصود بالنقص: العلم المعلوم؛ لأن العلم صفة أزلية قائمة بذات الله لا تتعرض لنقص، أو أن يكون معنى النقص هنا: الأخذ، ( ما نقص علمي وعلمك من علم الله )، أي: ما أخذنا من علم الله جل جلاله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من ماء البحر، وانظروا إلى النسبة كم أخذ العصفور من ماء البحر، فالنسبة لو أردنا أن نقدرها فهي لا شيء، فعلم نبي الله موسى الذي اصطفاه الله على الناس برسالاته وبكلامه، وكلمه الله تكليماً، وآتاه التوراة فيها هدىً ونور، وعلم الخضر هذا النبي الفاضل، أو العبد الصالح، على سعة علمه، علمه مع علم موسى ما أخذ من علم الله عز وجل إلا كما أخذ هذا العصفور من ماء البحر، ويكفينا الآية التي نحفظها جميعاً، والتي هي سيدة آي القرآن قال الله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255].

وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الكرسي هنا: بالعلم، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، أي: علمه، وقبلها قول الله عز وجل: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، يعني: لا يعلم العباد إلا ما شاء تعليمهم إياه.