افتتاحية سورة الفرقان
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
افتتاحية سورة الفرقان﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [1] عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [2] * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا [3] وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 1 - 3].
بدأت السورة بالثناء على الله تعالى الذي تنامى خيره وتكاثر، فشمل كل شيء ومن أعظم مظاهر الخير المتنامي إنزال الفرقان على صفيه وخليله خاتم الأنبياء ليبلغ عن ربه وينذر به[4] العالمين.
يبين الميزان الذي يفرق به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، ويميز بين منهج السعادة والنجاة ومنهج الشقاء والهلاك..
ومن أوائل الذين يقصدون بالتبليغ والإنذار أولئك الذين اتخذوا معبودات صنعوها بأيديهم ثم أضفوا عليها بأوهامهم صفة القدسية، وهم يدركون عجزها المطلق عن دفع الضر عن أنفسها أو إيصال النفع لها، ناهيك عن دفع الضر عن عابديها أو إيصال الخير إليهم، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولو أنهم فكَّروا في أنفسهم وما وهبهم الله من قدرات وطاقات واستعدادات لأدركوا من أنفسهم أنهم أفضل من تلك الأصنام والأوثان، لأنهم يستطيعون الحركة والسعي والكسب، والفهم والمخاطبة أما تلك فهي عاجزة عن السمع والبصر والفقه والتصرف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [الأعراف: 194 - 195].
إن من شأن المعبود الحق ملك السماوات والأرض خلقاً وإيجاداً من العدم وأن يكون غنياً من مساعدة غيره في تدبير هذا الملك، وأن لا ينازعه أحد ملكه، وأن تكون هذه المخلوقات قد وضعت في مواضعها المعينة لتؤدي دورها في هذا الكون على الوجه الذي قدر لها.
وأن يكون له مطلق الإرادة والمشيئة في مخلوقاته فإذا أراد إنهاء وجودها أنهاها، وإذا أراد بعثها للمحاسبة والجزاء بعثها، فهل تقدر آلهتهم المزيفة على شيء من ذلك؟!
تضمنت افتتاحية سورة الفرقان الحديث المجمل عن قضايا العقيدة الأساسية:
الألوهية: فبعد ذكر تقديس الله عزَّ وجلّ جاءت أربعة أوصاف تؤكد التنزيه والتقديس للمعبود بحق.
• ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الفرقان: 2].
• ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ [الفرقان: 2].
• ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ [الفرقان: 2].
• ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2].
وتحدثت عن البعث بعد الموت وعن النشور للحساب والجزاء ولكن في لمحة خاطفة، وقد جاءت الإشارات إلى ذلك من خلال مقاطع السورة لأن هذا المجال لا يشكل محوراً رئيساً من محاور السورة.
أما الحديث عن الرسالة والرسول والمعجزة فقد تكرر بأساليب متنوعة عرضاً وبياناً، وردّ شبهات لأن المحور الأساس للسورة كما تقدم هو تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معجزة القرآن العظيم.
وهذا شأن افتتاحيات السور، أن تشتمل على القضايا الرئيسة في السورة ثم تفصل في المقاطع ويعاد ذكرها وتأكيدها في الخاتمة.
[1] المراد بالفرقان هو القرآن إجمالاً، وصف بذلك لأن الله سبحانه وتعالى فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كما في قوله تعالى: ﴿ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، ويرجح الرازي التأويل الثاني للتعبير عنه بصيغة (نزل) وهي تدل على التفريق.
ولعل الإشارة في سورة آل عمران إلى ذلك، حيث جاء في قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 3].
[2] ذهب ابن عاشور إلى جعل الافتتاحية من آيتين فقط، وقال: إنها براعة استهلال وبمثابة خطبة الكتاب أو الرسالة.
انظر التحرير والتنوير: 18/ 319.
وهو صنيع الرازي في تفسيره، انظر: 24/ 44، فكأنهم نظروا إلى الإخبار عن تنزيه الله وإرسال رسوله ثم انتقل الحديث عن أفعال المشركين في اتخاذ الآلهة وأقوالهم في القرآن والرسول.
فالجامع عندهم الانتقال من تقرير الحقائق إلى الإخبار عن الواقع الباطل للمشركين.
أما وجهة نظرنا في ضم الآية الثالثة إلى الافتتاحية فمن حيث توضيح صفات الإله الحق الذي ذكرت له أوصاف أربعة تثبت له التوحيد والتقديس، وبيان الآلهة المزيفة وأوصافها الأربعة التي تثبت لها العجز والقصور.
فاتحاد موضوع الآية الثانية والثالثة هو تقرير توحيد الله، وبطلان ألوهية ما سواه.
[3] قدم ذكر الضر لأن دفعه أهم، والقاعدة الشرعية دفع الضرر مقدّم على جلب المنفعة، وكذلك تقديم الموت في الذكر لمناسبة الضر.
انظر الألوسي: 9/ 243.
[4] اسم يكون ضمير يحتمل إعادته إلى العبد وإلى الفرقان وإلى لفظ الجلالة.
ورجح الشوكاني إعادته إلى العبد لسببين:
الأول: لأنه أقرب مذكور، والثاني: لأن الإنذار من العبد حقيقة ومن غيره مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
فتح القدير: 4/ 60.