تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:21-24]. ‏

كان الكلام في الدرس الذي مضى عن الفوائد التي تستنبط من هذه الآيات المباركات، وتوقف بنا الكلام عند الفائدة السابعة والعشرين، وهي قول الإمام الألوسي رحمه الله: استدل بهذه الآية يعني قول الله عز وجل: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21] على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ المساجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك، وهو مذهب عاطل باطل كاسد فاسد.

واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها ممنوع، وتقدم معنا ذكر الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن ذلك، كما في سنن أبي داود و الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ).

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن أم حبيبة و أم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأتاها في أرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى )، والدلالة ظاهرة من الحديثين، ففي الحديث الأول الرسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور مساجد، واللعن لا يكون إلا على كبيرة كما هو مقرر عند جمهور أهل العلم، وفي الحديث الثاني يحكم النبي صلى الله عليه وسلم على من بنوا على القبور مساجد بأنهم شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة.

قال الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن في الجزء العاشر في الصفحة الحادية والثمانين بعد المائتين: قال علماؤنا: وهذا -أي ما مضى من النصوص- يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد، وفي حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها )، أي: لا تتخذوها قبلةً فتصلوا عليها أو إليها، كما فعل اليهود والنصارى؛ فيؤدي إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام.

وقال عليه الصلاة والسلام: ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ).

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أنه لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً على وجهه )، أي: لما نزل به الموت، أو لما نزل به النزع عليه الصلاة والسلام طفق يطرح خميصةً، والخميص هو الكساء الذي فيه أعلام، ( طفق يطرح خميصةً على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ) أي: وهو على تلك الحال ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا ).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه )، فقوله: ( نهى أن يجصص القبر )، أي: أن يدخل فيه الجص، بمعنى: أن يجير، أو أن يبنى عليه بالحجارة، هذا كله منهي عنه، ( وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه ).

وعند أبي داود و الترمذي عن جابر قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ ).

وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي رحمه الله قال: ( قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة -يعني تمثالاً- إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر علياً بألا يترك تمثالاً إلا كسره، ولا يدع قبراً مشرفاً، أي: ظاهراً بارزاً على الأرض إلا سواه.

يقول القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها، وأن تكون لاطئةً أي: لاصقةً بالأرض، وقد قال به بعض أهل العلم. يعني: أن بعض العلماء قالوا: القبر يسوى، أي: يسطح تماماً، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، يعني: الآن جرت سنة الناس بأنهم إذا قبروا ميتهم فإنهم ينصبون على اللحد لبناً، ثم بعد ذلك يهيلون التراب، ويسنمون القبر، أي: يجعلونه على هيئة سنام الجمل، ويرشونه بالماء، من أجل أن يتميز القبر فلا يوطأ، ولا يجلس عليه، ولا يستند إليه، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، فقالوا: الارتفاع المأمور بإزالته ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه رضي الله عنهما.

قال القرطبي رحمه الله: وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبهاً بمن كان يعظم القبور ويعبدها.

والمعنى أن الواجب على جماعة المسلمين ومن باب أولى على من ولي أمر المسلمين أن يزيل هذه القبور المرتفعة البارزة، ويقتفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير هذه الآية: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21]، وكان بناء المساجد على القبور سنةً لأهل النصرانية، فإن كان شرعاً لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعةً منهم في دينهم فأجدر. يعني: يقول هؤلاء الذين اتخذوا على القبور مساجد إما أن يكونوا قد فعلوا ذلك؛ لأنه كان مشروعاً في دينهم، وليس هو مشروعاً في ديننا، وإما أن يكونوا قد فعلوا ذلك ابتداعاً وافتراءً على الله، فذلك أجدر بنا أن نبتعد عن هديهم، وأن نحذر مثل فعلهم، ولا شك أن الراجح هو الثاني؛ أي: أنهم فعلوا ذلك ابتداعاً في دينهم، ولولا ذلك لما لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد )، فلو كانوا يفعلون ذلك؛ لأنه جائز في دينهم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعنهم.

وقد ذكرنا مقالة شراح الحديث كالإمام الشوكاني ، والإمام محمد بن الأمير الصنعاني ، والإمام ابن حجر الهيتمي ، وكذلك ما ذكره أبو عبد الله ابن القيم وغيرهم.

بعض الشبهات حول بناء المساجد على القبور والرد عليها

هنا شبهات يطرحها بعض الناس، فيقول قائلهم: إذا كان بناء المساجد على القبور ممنوعاً ومنهياً عنه، فما بال المسلمين من قديم الزمان يبنون على القبور؟

وقد تقدم معنا الجواب عن هذه الشبهة وهو: أن المسلمين قد اتفق سابقهم ولاحقهم -ونعني بذلك العلماء الذين يعتد بأقوالهم- وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم وإلى يومنا هذا أن رفع القبور، والبناء عليها من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بقوله.

والشبهة الثانية يقولون: بأن المساجد المبنية على القبور قد انتشرت في بلاد المسلمين مشرقاً ومغرباً دون نكير من العلماء، والجواب عن هذه الشبهة بأن سكوت العلماء عن هذه المظاهر الشركية والبدعية عند القبور لا يعني الرضا والإقرار؛ لأنه قد يتعذر على العالم الإنكار باليد، ويتعذر عليه الإنكار باللسان، فلم يبق إلا الإنكار بالقلب، ثم إن كثيراً من هذه المشاهد أي: القباب والمساجد على القبور قد أسسها من بيده السيف والسنان، نعني بذلك أصحاب السلطان، يقول الصنعاني رحمه الله: فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد، ولا يخفى على أحد يعرف بارقةً من علم الكتاب والسنة أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر؛ لأن الحجة في قول الله عز وجل وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن فلاناً أو فلاناً من العلماء سكتوا فليس هذا دليلاً على الرضا، فضلاً عن أن يكون دليلاً على الجواز.

والشبهة الثالثة: يحتج بعضهم بأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضُمِّن في المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لما دفن فيه، وكذلك يحتجون بوجود القبة الخضراء على قبره الشريف صلوات ربي وسلامه عليه، والجواب عن هذه الشبهة بأن نبينا عليه الصلاة والسلام باتفاق أهل الإسلام لم يدفن في مسجده، وإنما دفن في حجرة عائشة ؛ لأن الصحابة قد اختلفوا بعد موته: أيدفنونه في بقيع الغرقد أم يدفنونه في مكة أم يذهبون به إلى الشام؟ فقال الصديق رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض )، فرفعوا الفراش الذي توفي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ، وحفروا له تحته، وهو قبره صلوات ربي وسلامه عليه، ودفن إلى جانبه أبو بكر و عمر رضوان الله عليهما.

ثم لما احتاج الصحابة رضوان الله عليهم في عهد عمر وفي عهد عثمان إلى توسعة المسجد وسعوه من الناحية الغربية، ومن الناحية الجنوبية، أما الناحية الشرقية التي فيها القبر فإنهم لم يتعرضوا لها بتوسيع، إلى أن كان زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي فإنه أمر بتوسعة المسجد من الناحية الشرقية، وإدخال الحجرات في المسجد، وقد أنكر ذلك جماعة من العلماء على رأسهم سيد التابعين سعيد بن المسيب رضي الله عنه، لكنهم احتاطوا، فجعل القبر في زاوية منحرفة عن القبلة أي مثلث، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبلة والقبر معاً، فإما أن يستقبل القبلة، وإما أن ينحرف عنها فيستقبل القبر؛ لأن القبر جعل في الزاوية الشمالية.

ونقول: إن فعل الوليد بن عبد الملك غفر الله له ليس حجةً على نقض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للقبة فمعلوم أنه ما بناها الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وما أحدثت هذه القبة إلا في عهد بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو الملك قلاوون الصالحي ، وذلك في القرن السابع الهجري في سنة ثمان وسبعين وستمائة، أي: بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة أحدثت هذه القبة التي على قبره الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.

والشبهة الرابعة: يقول بعضهم: إن هذا النهي إنما كان لقرب العهد بعبادة الأوثان، مع أنه لا يقول هذا إنسان يوقر الصحابة رضوان الله عليهم ويعرف لهم قدرهم، ولا يمكن أن يقول قائل: إن الصحابة نهوا عن بناء المساجد على القبور؛ لأنهم كانوا قريبي عهد بالأوثان، أما نحن فديننا أسلم من دين الصحابة! ونحن أبعد عن الأوثان من الصحابة! نعوذ بالله من هذه المقالة، ونعوذ بالله من حال من يقولها، فإننا نعتقد وندين الله بأن الصحابة كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلها تكلفاً، وكانوا أعلم الناس بالتنزيل والتأويل، رضوان الله عليهم.

أقوال المالكية في البناء على القبور

المسألة الثالثة: ما هو قول المالكية رحمهم الله في هذه المسألة؟ يعني: نحن معشر أهل السودان نقول: نحن مالكية، ونحن نعبد الله على مذهب مالك ، فهل مالك رحمه الله أو المالكية رحمة الله عليهم يجيزون ذلك؟

الجواب: هناك نقولات موثقة في المدونة، وهي التي حوت روايات ابن القاسم رحمه الله عن مالك ، ففي الجزء الأول الصفحة التاسعة والثمانين بعد المائة، قال مالك : أكره تجصيص القبور، والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يبنى عليها.

وكلمة (أكره) في اصطلاح أولئك الأئمة الكبار رحمة الله عليهم تعني في كثير من الأحوال التحريم، إذا قال الإمام: أكرهه، أو قال: أكره، فإنما يعني الحرمة، لكنه يتورع عن إطلاق لفظ الحرام حذراً من قول الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116].

وفي مقدمة ابن رشد في الصفحة الرابعة والسبعين بعد المائة قال ابن رشد : كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة.

وقال ابن أبي زيد رحمه الله في الرسالة: ويكره البناء على القبور وتجصيصها. قال شارحها في الفواكه الدواني، في المجلد الأول الصفحة الحادية والتسعين بعد المائتين: وأما القبب ونحوها مما يضرب على القبر فلا شك في حرمتها في الأرض المحبسة على دفن الأموات، لما في ذلك من التحجير على ما هو حق لعموم المسلمين، وكما يكره البناء على القبور على الوجه المذكور يكره تجصيصها أي: تبييضها لما رواه مسلم رحمه الله وغيره من نهيه عليه الصلاة والسلام عن تجصيص القبر، والبناء عليه.

وأما الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي رحمه الله فقد قال في كتابه التمهيد في المجلد الأول الصفحة الثامنة والستين بعد المائة وهو يشرح قول مالك : أكره تجصيص القبور، قال: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد.

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] قال: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد.

وقال الشيخ محمد عليش رحمه الله في كتابه فتح العلي المالك في المجلد الأول الصفحة الثامنة والخمسين بعد المائة، عندما سئل: ما قولكم في المقابر المجاورة لمسجد سيدنا الحسين من الجهة الشرقية، هل يجوز تعلية ظاهرها، وجعلها مساويةً لأرضه أي: لأرض المسجد وإدخالها فيه لتوسعته؟ وتجوز الصلاة عليها بعد ذلك بلا كراهة؟

فقال رحمه الله: نعم، يجوز ذلك كله بلا كراهة، يعني: يجوز تعلية سور تلك القبور، وتسويتها، وضمها إلى المسجد. وما علة ذلك؟

قال ابن عرفة في مختصره: سمع ابن القاسم مالكاً يقول: لا بأس بالمساجد على القبور العافية، أي: الدارسة التي علم أنه ما بقي فيها شيء من آثار الموتى، يعني: ما بقي فيها لا صديد ولا دم، فضلاً عن لحم وعظم، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجده المبارك، كانت هناك أرض خربة، ومقابر للمشركين، فأمر عليه الصلاة والسلام بالنخل فقطعت، وبالمقابر فسويت، ثم بنى مسجده عليه الصلاة والسلام، يعني: كانت مقابر دارسةً عافية، قال: سمع ابن القاسم مالكاً يقول: لا بأس بالمساجد على القبور العافية، وكراهتها على غير العافية، فوجه ابن رشد الأول بأن القبر حبس والمسجد كذلك، وما كان لله يستعان ببعضه في بعضه.

وقال المواق : قال ابن رشد : أما بناء المسجد على المقبرة العافية فلا كراهة فيه. قال ابن القاسم : لأن القبر والمسجد حُبسا على المسلمين، ودفن موتاهم، فإذا لم يمكن التدافن فيها واحتيج أن تتخذ مسجداً فلا بأس بذلك؛ لأن ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه في بعض على ما النفع فيه أكثر والناس إليه أحوج، هذا الكلام عن المقابر العافية والدارسة لو احتيج إلى ضمها إلى المسجد، وكيف نعرف بأن هذه المقابر دارسة عافية؟ قالوا: يختلف ذلك باختلاف التربة، ويرجع في معرفة ذلك لأهل الخبرة.

وكذلك النهي عن السجود على القبور والصلاة إليها وقد مضى معنا ذكر الأحاديث.

قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في المدخل: لا يجوز الطواف حول الأضرحة، فإنه لا يطاف إلا بالبيت العتيق، وكذا لم يشرع التقبيل والاستلام إلا للحجر الأسود، يعني: الحجر الأسود نقبله ونستلمه، وكذلك الركن اليماني نستلمه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

المسألة الرابعة: وبها ختام الكلام في هذا المبحث: ما حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور يعني: الآن هناك مساجد ضمت قبراً أو أكثر، فما حكم الصلاة في هذه المساجد التي بها قبور؟

الجواب: هناك حديث رواه الخمسة: الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام )، يعني: هناك مواطن نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيها، والأحاديث في ذلك مروية عن أبي مرثد الغنوي ، و ابن عمر ، و جابر ، و عبد الله بن عمرو بن العاص ، و عمران بن الحصين ، و معقل بن يسار ، و أنس بن مالك رضي الله عنهم جميعاً.

ومن تلك الأحاديث: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، والحمام، ومعاطن الإبل، وقارعة الطريق، وفوق ظهر بيت الله )، وهذه المواطن بعضها نهي عن الصلاة فيها؛ لأنها مظنة النجاسة، كالمجزرة، والحمام، والمزبلة، وما أشبه ذلك، وبعضها نهي عن الصلاة فيها سداً لذريعة الشرك، يعني مثلاً: المقبرة بعض العلماء قالوا: نهي عن الصلاة فيها أو إليها سداً لذريعة الشرك، وبعضهم قالوا: نهي عن الصلاة فيها؛ لأنها مظنة النجاسة أيضاً، لأن الميت يستحيل فيخرج منه الصديد، يخرج منه الدم، ويتعفن، وغير ذلك، لكن نقول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم )، هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبورهم مظنة النجاسة؟ هل الأنبياء يتحللون؟ هل الأنبياء ويخرج منهم دم وصديد وما إلى ذلك؟ لا والله، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )، والحديث صحيح، وأول الحديث قال عليه الصلاة والسلام: ( إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعنون بليت، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )، أي: كل الأنبياء، فثبت في هذا أن النهي عن السجود على قبور الأنبياء، والنهي عن الصلاة فيها وإليها إنما هو سد لذريعة الشرك؛ لئلا يقود ذلك إلى عبادتهم من دون الله عز وجل.

ونقول: بالنسبة للنهي عن الصلاة في المقابر فقد ذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء أو لا يفرش، قال ابن حزم رحمه الله: وبه يقول طوائف من السلف، فحكي عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك، يعني: النهي عن الصلاة في القبور، وهم عمر ، و علي ، و أبو هريرة ، و أنس ، و ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وقال: ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. هذا كلام ابن حزم رحمه الله.

وحكي عن جماعة من التابعين منهم إبراهيم النخعي ، و نافع بن جبير بن مطعم ، و طاوس بن كيسان ، و عمرو بن دينار ، و خيثمة وغيرهم، ثم ذهب الشافعي رحمه الله إلى التفريق بين المنبوشة وغيرها، فقال: إذا كانت مختلطةً بلحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى الرجل في مكان طاهر منها أجزأته، وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب و أبو العباس وغيرهما، وذهب الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي ومن معه بين المنبوشة وغيرها.

يقول الشوكاني رحمه الله: وأحاديث النهي المتواترة لا تقصر دلالتها عن التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، أي: للنهي، وقد تقرر في الأصول أن النهي يدل على فساد المنهي عنه.. إلى آخر كلامه رحمه الله.

وهناك كلام منقول عن النووي ، وعن ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيرهم.

والخلاصة: أن من صلى في مسجد فيه قبر فعليه التوبة والاستغفار، ولا يلزمه إعادة الصلاة في قول أكثر أهل العلم، منهم المالكية والحنفية والشافعية وهي رواية عن أحمد رحمه الله.

يعني: من صلى في مسجد فيه قبر فقد ارتكب حراماً، فيلزمه التوبة والاستغفار، لكن لا يلزمه إعادة الصلاة في قول جمهور العلماء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ولهذا نظائر كثيرة، فلو أن إنساناً صلى وهو مثلاً يلبس شيئاً من ذهب، فعليه التوبة والاستغفار، ولا يلزمه إعادة الصلاة، ومن صلى في ثوب حرير فعليه التوبة والاستغفار، ولا يلزمه إعادة الصلاة، يعني: نفرق بين التحريم والبطلان، هذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله.

هنا شبهات يطرحها بعض الناس، فيقول قائلهم: إذا كان بناء المساجد على القبور ممنوعاً ومنهياً عنه، فما بال المسلمين من قديم الزمان يبنون على القبور؟

وقد تقدم معنا الجواب عن هذه الشبهة وهو: أن المسلمين قد اتفق سابقهم ولاحقهم -ونعني بذلك العلماء الذين يعتد بأقوالهم- وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم وإلى يومنا هذا أن رفع القبور، والبناء عليها من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بقوله.

والشبهة الثانية يقولون: بأن المساجد المبنية على القبور قد انتشرت في بلاد المسلمين مشرقاً ومغرباً دون نكير من العلماء، والجواب عن هذه الشبهة بأن سكوت العلماء عن هذه المظاهر الشركية والبدعية عند القبور لا يعني الرضا والإقرار؛ لأنه قد يتعذر على العالم الإنكار باليد، ويتعذر عليه الإنكار باللسان، فلم يبق إلا الإنكار بالقلب، ثم إن كثيراً من هذه المشاهد أي: القباب والمساجد على القبور قد أسسها من بيده السيف والسنان، نعني بذلك أصحاب السلطان، يقول الصنعاني رحمه الله: فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد، ولا يخفى على أحد يعرف بارقةً من علم الكتاب والسنة أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر؛ لأن الحجة في قول الله عز وجل وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن فلاناً أو فلاناً من العلماء سكتوا فليس هذا دليلاً على الرضا، فضلاً عن أن يكون دليلاً على الجواز.

والشبهة الثالثة: يحتج بعضهم بأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضُمِّن في المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لما دفن فيه، وكذلك يحتجون بوجود القبة الخضراء على قبره الشريف صلوات ربي وسلامه عليه، والجواب عن هذه الشبهة بأن نبينا عليه الصلاة والسلام باتفاق أهل الإسلام لم يدفن في مسجده، وإنما دفن في حجرة عائشة ؛ لأن الصحابة قد اختلفوا بعد موته: أيدفنونه في بقيع الغرقد أم يدفنونه في مكة أم يذهبون به إلى الشام؟ فقال الصديق رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض )، فرفعوا الفراش الذي توفي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ، وحفروا له تحته، وهو قبره صلوات ربي وسلامه عليه، ودفن إلى جانبه أبو بكر و عمر رضوان الله عليهما.

ثم لما احتاج الصحابة رضوان الله عليهم في عهد عمر وفي عهد عثمان إلى توسعة المسجد وسعوه من الناحية الغربية، ومن الناحية الجنوبية، أما الناحية الشرقية التي فيها القبر فإنهم لم يتعرضوا لها بتوسيع، إلى أن كان زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي فإنه أمر بتوسعة المسجد من الناحية الشرقية، وإدخال الحجرات في المسجد، وقد أنكر ذلك جماعة من العلماء على رأسهم سيد التابعين سعيد بن المسيب رضي الله عنه، لكنهم احتاطوا، فجعل القبر في زاوية منحرفة عن القبلة أي مثلث، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبلة والقبر معاً، فإما أن يستقبل القبلة، وإما أن ينحرف عنها فيستقبل القبر؛ لأن القبر جعل في الزاوية الشمالية.

ونقول: إن فعل الوليد بن عبد الملك غفر الله له ليس حجةً على نقض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للقبة فمعلوم أنه ما بناها الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وما أحدثت هذه القبة إلا في عهد بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو الملك قلاوون الصالحي ، وذلك في القرن السابع الهجري في سنة ثمان وسبعين وستمائة، أي: بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة أحدثت هذه القبة التي على قبره الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.

والشبهة الرابعة: يقول بعضهم: إن هذا النهي إنما كان لقرب العهد بعبادة الأوثان، مع أنه لا يقول هذا إنسان يوقر الصحابة رضوان الله عليهم ويعرف لهم قدرهم، ولا يمكن أن يقول قائل: إن الصحابة نهوا عن بناء المساجد على القبور؛ لأنهم كانوا قريبي عهد بالأوثان، أما نحن فديننا أسلم من دين الصحابة! ونحن أبعد عن الأوثان من الصحابة! نعوذ بالله من هذه المقالة، ونعوذ بالله من حال من يقولها، فإننا نعتقد وندين الله بأن الصحابة كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلها تكلفاً، وكانوا أعلم الناس بالتنزيل والتأويل، رضوان الله عليهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2551 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2541 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2513 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2380 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2300 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2267 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2175 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2091 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2055 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] 1970 استماع