تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين, وآل كل وصحبه أجمعين, وأسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم وختام المسلمين, وأن يحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.

اللهم علمنا علمًا نافعًا, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أما بعد:

أيها الفضلاء! فقد توقف بنا الكلام في الدرس الذي مضى عند قول ربنا جل جلاله: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [الأنعام:114], وعلمنا أن هذه الحجة الناصعة لقنها رب العالمين جل جلاله محمداً صلى الله عليه وسلم, حين عرض عليه المشركون أن يذهبوا معه إلى بعض كهنتهم أو إلى بعض علماء اليهود والنصارى ليسألوهم: أمحمد صلى الله عليه وسلم صادق أم كاذب؟ فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول لهؤلاء القوم: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114], أأطلب حكماً غير الله عز وجل؟! والحال أنه سبحانه: أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114], قد فصل فيه الأحكام والأخبار والقصص والأمثال والأمر والنهي والوعد والوعيد.

ثم قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114].

هؤلاء الذين يريد المشركون أن يأتوهم ليسألوهم عنك يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ , كما قال سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].

ثم ختمت الآية بقول ربنا: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [الأنعام:114], وعلمنا أن هذا الخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمراد به أمته كما في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65], وكما في قول الله عز وجل: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ [القصص:86], ونحو ذلك من الآيات, فمعاذ الله أن يمتري رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعاذ الله أن يكون صلوات ربي وسلامه عليه ظهيراً للكافرين, ومثلها قول ربنا جل جلاله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24], وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يطيع آثماً أو كفوراً.

أوجه القراءات في قوله: (وتمت كلمة ربك)

يقول الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

هذه الآية المباركة قرأها الكوفيون الثلاثة, أعني: عاصماً و حمزة و الكسائي , بالإفراد: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], وقرأها بقية السبعة أعني: نافعاً و ابن كثير و أبا عمرو و ابن عامر , بالجمع: (وتمت كلمات ربك), والقراءتان متفقتان في المعنى, فمعلوم أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة أفاد ما يفيده الجمع, كما في قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34], المقصود: وإن تعدوا نعم الله, وكما في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63], أي: عن أوامره، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

بيان كثرة كلمات الله عز وجل

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , كلمات ربك جل جلاله منها هذا القرآن الكريم, وقد بين ربنا في كتابه أن هذه الكلمات لا نهاية لها, فقال سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109], وفي هذا المعنى قول ربنا جل جلاله في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27], لو أن شجر الأرض كله تحول إلى أقلام, وبحار الأرض كلها تحولت إلى مداد, هذا كله ينفد قبل أن تنفد كلمات الله.

قول ربنا جل جلاله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , المقصود بالتمام هاهنا: الكمال, أي: كملت، فيصف ربنا جل جلاله كلامه بالكمال المطلق.

أوجه الإعراب في قوله: (صدقاً وعدلاً)

يقول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115], صدقًا وعدلًا، للمفسرين في إعرابها وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنهما تمييز محول عن الفاعل, والمعنى: وتم صدق وعدل كلمات ربك، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا , أي: تم صدقها وتم عدلها.

والوجه الثاني: أنها منصوبة على الحالية: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], حال كونها: صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

والوجه الثالث: أنها نابت مناب المفعول المطلق.

كلمات الله صدق وأحكامه عدل

يخبر ربنا جل جلاله في هذا الآية المباركة أن كلماته موصوفة بالصدق فلا يعتريها كذب, وموصوفة بالعدل فلا يعتريها جور ولا ظلم؛ لأن أخبار القرآن كلها صدق لا يتطرق إليها الكذب بحال؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42], وسواء في ذلك ما كان من أخبار الأمم الداثرة والقرون الغابرة, أو ما كان من أخبار المستقبل وما يأتي في مقبل الأيام, فكل هذه صدق لا ينبغي أن يشك فيها مؤمن.

ثم إن أحكام القرآن كلها عدل لا يعتريها ظلم ولا جور, والمتأمل في القرآن يجد أن هذا المعنى ظاهر تمام الظهور, فإن كلام ربنا جل جلاله قد تضمن كل ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم, أمر ربنا جل جلاله بمكارم الأخلاق, وأمر بسلامه المعتقد, وأمر بأن يعبد جل جلاله حق عبادته, وأن يذكر حق ذكره, وأن يشكر حق شكره, أمر ربنا جل جلاله كل واحد منا بأن يكون سخياً كريماً شجاعًا باذلاً نفسه في نفع الناس, مخلصاً لأمته غير غاش لها, حتى في العلاقة الخاصة التي تكون بين الإنسان وزوجه وعياله, أمر ربنا جل جلاله بالإحسان إليهم ومعاشرتهم بالمعروف, والحذر منهم؛ لئلا يوقعوك في مأثم أو مغرم, فقال جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14], ثم زين ربنا جل جلاله هذه الآية بتوجيه يدل على أن الإنسان لو اطلع من أهله وعياله على ما لا ينبغي فلا ينبغي أن يغلظ عليهم ولا أن يسيء إليهم، بل يستعمل العفو والصفح, فقال جل جلاله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14-15].

وكذلك نظم ربنا جل جلاله العلاقة التي تكون بين الرؤساء والمرءوسين، فأمر الرؤساء بالرفق واللين والرحمة والعطف، فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وبالمقابل أمر المرءوسين بالطاعة والتعاون على البر والتقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59], وأرشدهم إلى حل النزاع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

الضروريات وحفظها

ثم أحاط ربنا جل جلاله تلك الجواهر الست بتشريعات منظمة, أمرنا جل جلاله بحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والنسب والمال, ففي حفظ الدين أمر جل جلاله بالجهاد من أجل حفظه؛ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ [البقرة:193], وأوجب جل جلاله قتل المرتد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحديث في الصحيحين: ( من بدل دينه فاقتلوه ), وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة ).

ومن أجل حفظ النفس حرم ربنا جل جلاله الاعتداء عليها فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29], وقال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

وأوجب في الاعتداء عليه عمداً قصاصاً: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179], وقال سبحانه: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45].

وفي حفظ العقل حرم ربنا جل جلاله إذهاب هذه النعمة بشرب مسكر أو تناول مخدر أياً كان, فثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كل مسكر حرام ).

وفي حفظ العرض حرم ربنا جل جلاله الزنا, وأوجب جل جلاله فيه حداً إما أن يكون جلداً وإما أن يكون رجماً, وأوجب ربنا جل جلاله في الاعتداء على الأعراض والأنساب بقذفها ونفيها حداً آخر وهو حد القذف, فقال في الزنا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32], وقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2], وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خذوا عني خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام, والثيب بالثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة ), وفي القذف قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5], وفي سبيل المحافظة على المال حرم ربنا جل جلاله أكل الأموال بالباطل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].

وأوجب ربنا جل جلاله في الاعتداء على المال بالسرقة حداً, فقال سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].

هذه كلمات ربنا جل جلاله في القرآن, أحكامها عدل وأخبارها صدق.

عجز البشر عن تبديل كلمات الله عز وجل

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115], لا يستطيع أحد من الناس أن يبدل كلمات الله عز وجل, فيجعل عدلها جوراً أو صدقها كذباً، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ , وقد قال ربنا جل جلاله جواباً للمشركين الذين قالوا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يتلو عليهم القرآن: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس:15], الله جل جلاله هو الذي يبدل لو شاء؛ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106], هذا صنيعه جل جلاله.

دلالة اختتام الآية بقوله: (وهو السميع العليم)

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115], ختم ربنا جل جلاله هذه الآية المباركة بهذين الاسمين الحسنين الجليلين: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , وقد دل على صفتين عظيمتين:

الصفة الأولى: أنه جل جلاله سميع بسائر المسموعات، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, ( يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ), وأنه سبحانه وتعالى عليم بكل معلوم لا تخفى عليه خافية: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3]. لا يكاد الواحد منا يقلب صفحة من صفحات المصحف الشريف إلا وجد تذييلاً للآيات بهذه الأسماء وتلك الصفات: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115], إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139], وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11], وهذا يدل على أن أعظم زاجر وأقوى رادع هو مراقبة الله عز وجل, فمن راقب الله سارع إلى إنفاذ أوامره واجتناب نواهيه.

والمثال المحسوس كما قال بعض المفسرين: لو أن ناساً علموا أن ملكاً في ناحية من النواحي -شديداً بأسه عظيماً بطشة, سيفه مسلط, ونطعه مبسوط, وجلاده قائم- واقف بين الناس وقد خشعت منهم الأبصار وسكنت منهم الحركات وخفتت الأصوات, وحول هذا الملك حشمه وحريمه, فإنه لا يجرؤ أحد أن يغمز لأحداهن، ولا يجرؤ أحد منهم أن يلقي بورقة لواحدة منهن؛ لأنه يعلم أن هذا الملك الشديد البطش، العظيم البأس قد بث عيونه وأرسل في الناس جواسيسه, وأن من فعل ذلك فعقوبته إهدار الدم, وقطع الرأس.

لله المثل الأعلى, لو أن الواحد منا استيقن أن الله عز وجل يسمع كلامه ويرى مكانه ولا يخفى عليه شيء من أمره, وأنه جل جلاله عليم بحاله مطلع على أمره، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7], مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7], فإن هذا الإنسان يرتدع عن معصية الله عز وجل.

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

يقول الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

هذه الآية المباركة قرأها الكوفيون الثلاثة, أعني: عاصماً و حمزة و الكسائي , بالإفراد: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], وقرأها بقية السبعة أعني: نافعاً و ابن كثير و أبا عمرو و ابن عامر , بالجمع: (وتمت كلمات ربك), والقراءتان متفقتان في المعنى, فمعلوم أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة أفاد ما يفيده الجمع, كما في قول ربنا جل جلاله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34], المقصود: وإن تعدوا نعم الله, وكما في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63], أي: عن أوامره، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , كلمات ربك جل جلاله منها هذا القرآن الكريم, وقد بين ربنا في كتابه أن هذه الكلمات لا نهاية لها, فقال سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109], وفي هذا المعنى قول ربنا جل جلاله في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27], لو أن شجر الأرض كله تحول إلى أقلام, وبحار الأرض كلها تحولت إلى مداد, هذا كله ينفد قبل أن تنفد كلمات الله.

قول ربنا جل جلاله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ , المقصود بالتمام هاهنا: الكمال, أي: كملت، فيصف ربنا جل جلاله كلامه بالكمال المطلق.

يقول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115], صدقًا وعدلًا، للمفسرين في إعرابها وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنهما تمييز محول عن الفاعل, والمعنى: وتم صدق وعدل كلمات ربك، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا , أي: تم صدقها وتم عدلها.

والوجه الثاني: أنها منصوبة على الحالية: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115], حال كونها: صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

والوجه الثالث: أنها نابت مناب المفعول المطلق.

يخبر ربنا جل جلاله في هذا الآية المباركة أن كلماته موصوفة بالصدق فلا يعتريها كذب, وموصوفة بالعدل فلا يعتريها جور ولا ظلم؛ لأن أخبار القرآن كلها صدق لا يتطرق إليها الكذب بحال؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42], وسواء في ذلك ما كان من أخبار الأمم الداثرة والقرون الغابرة, أو ما كان من أخبار المستقبل وما يأتي في مقبل الأيام, فكل هذه صدق لا ينبغي أن يشك فيها مؤمن.

ثم إن أحكام القرآن كلها عدل لا يعتريها ظلم ولا جور, والمتأمل في القرآن يجد أن هذا المعنى ظاهر تمام الظهور, فإن كلام ربنا جل جلاله قد تضمن كل ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم, أمر ربنا جل جلاله بمكارم الأخلاق, وأمر بسلامه المعتقد, وأمر بأن يعبد جل جلاله حق عبادته, وأن يذكر حق ذكره, وأن يشكر حق شكره, أمر ربنا جل جلاله كل واحد منا بأن يكون سخياً كريماً شجاعًا باذلاً نفسه في نفع الناس, مخلصاً لأمته غير غاش لها, حتى في العلاقة الخاصة التي تكون بين الإنسان وزوجه وعياله, أمر ربنا جل جلاله بالإحسان إليهم ومعاشرتهم بالمعروف, والحذر منهم؛ لئلا يوقعوك في مأثم أو مغرم, فقال جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14], ثم زين ربنا جل جلاله هذه الآية بتوجيه يدل على أن الإنسان لو اطلع من أهله وعياله على ما لا ينبغي فلا ينبغي أن يغلظ عليهم ولا أن يسيء إليهم، بل يستعمل العفو والصفح, فقال جل جلاله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14-15].

وكذلك نظم ربنا جل جلاله العلاقة التي تكون بين الرؤساء والمرءوسين، فأمر الرؤساء بالرفق واللين والرحمة والعطف، فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وبالمقابل أمر المرءوسين بالطاعة والتعاون على البر والتقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59], وأرشدهم إلى حل النزاع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2546 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2535 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2378 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2296 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2263 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2128 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2049 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] 1952 استماع