أرشيف المقالات

متى يجوز تمني الموت؟

مدة قراءة المادة : 31 دقائق .
متى يجوز تمني الموت؟

يجوز تمنِّي الموت في حالات، منها:
أولاً: تمنِّي الموت عند حضور أسباب الشهادة، ومن أمثلة ذلك:
ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "إنه في غزوة بدرٍ لما دنا المشركون، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى جَنَّة عرضها السموات والأرض))، فقال عمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال عمير: بخٍ..
بخٍ[1]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحملك على قولك: بخٍ..
بخٍ؟)
)
، قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتِل".
 
وكذلك لما سأله عوف بن الحارث - ابن عفراء - فقال: "يا رسول الله، ما يُضحك الرَّبَّ من عبده؟ قال: ((غمسه يده في العدو حاسرًا))، فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتِل"؛ (ابن الأثير في أُسد الغابة، وابن هشام في السيرة)، والنماذج كثيرة في الصحابة وفي غيرهم من السلف الصالح، حيث كانوا يتمنون الموت طلبًا للشهادة.
 
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا: سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لما وقع بالشام؛ طلبًا للشهادة.
 

ثانيًا: تمنِّي الموت لمَن وثق بعمله شوقًا إلى لقاء الله - عز وجل -:
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله - في "فتح الباري"(10/133 - 134):
"عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنين...)): إنه إذا حلَّ به - أي الموت - لا يمنع من تمنِّيه رضًا بلقاء الله، ولا من طلبه من الله لذلك وهو كذلك، ولهذه النكتة عقَّب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى))؛ إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذًا للأذهان.
 
وقد خَفِي صنيعه هذا على مَن جعل حديث عائشة في الباب "باب تمني المريض الموت" معارضًا لأحاديث الباب، أو ناسخًا لها، وقوَّى ذلك بقول يوسف - عليه السلام -: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، قال ابن التين: "قيل: إن النهي منسوخ بقول يوسف...
فذكره، وبقول سليمان: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره..
قال: وليس الأمر كذلك؛ لأن هؤلاء إنما سألوا لما قارب الموت، قلت (أي الحافظ): وقد اختُلف في مراد يوسف - عليه السلام - فقال قتادة: لم يتمنَّ الموتَ أحدٌ إلا يوسف حين تكاملت عليه النعم، وجُمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله؛ (أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه)، وقال غيره: بل مراده: توفني مسلمًا عند حضور أجلي؛ كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان - عليه السلام.
 
وعلى تقدير الحمل على قول قتادة، فهو ليس من شرعنا، وإنما يُؤخَذ بشرع مَن قبلنا ما لم يَرِدْ في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإذن في ذلك عند نزول الموت؛ لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جَرَت العادة بموت مَن يصل إليها ثم عاش.
 
والجواب:
أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال مَن يتمنى نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعنى: أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه، ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتَّفِق أنه يموت في ذلك المرض"؛ اهـ.
 

وكان كثير من السلف يتمنَّون الموت شوقًا للقاء الله:
فالموت هو السبيل الموصل للقاء الحبيب بحبيبه:
1- ففي "حلية الأولياء" (10/9) عن حبان بن الأسود قال: "الموت خير، يُوصِل الحبيب إلى حبيبه".
 
2- قال حذيفة - رضي الله عنه - لما حضرته الوفاة: "حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح مَن ندم، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة، والموت أحب إليَّ من العيش، فسهِّل عليَّ الموت حتى ألقاك"؛ (الثبات عند الممات لابن الجوزي ص 122).
 
3- وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "أُحِب الفقر تواضعًا لربي، وأحب الموت اشتياقًا لربي، وأحب المرض تكفيرًا لخطيئتي"؛ (شرح الصدور ص 15).
 
4- وقال عنبسة الخولاني: "كان مَن قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد".
 
5- وقال بعضهم: "طال شوقي إليك؛ فعجِّل قدومي عليك".
 
6- وقال بعضهم: "لا تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله - عز وجل - فإنني حينئذٍ أشتاق إلى الموت كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحار الشديد حرُّه إلى الماء البارد الشديد برده".
 
وفي هذا يقول بعضهم:

أشتاقُ إليكَ يا قريبًا نائي
شوقَ ظامٍ إلى زلالِ الماء

 
وقد دلَّ على جواز ذلك قولُ الله - عز وجل -: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 94]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الجمعة: 6]؛ فدلَّ ذلك على أن أولياء الله لا يَكرَهُون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم: ﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الجمعة: 7]؛ فدلَّ على أنه إنما يكره الموت مَن له ذنوب يخاف القدوم عليها.
 
7- كما قال بعض السلف: "ما يكره الموت إلا مريب".
وفي حديث عمَّار بن ياسر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك لذَّة النظر إلى وجهِك، والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرَّة، ولا فتنة مضلة))؛ (أخرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1301).
 
فالشوق إلى لقاء الله - تعالى - إنما يكون بمحبة الموت، وذلك لا يقع غالبًا إلا عند خوف ضرَّاء مضرة في الدنيا، أو فتنة مضلة في الدين، فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقًا إلى لقاء الله - عز وجل - وهو المسؤول في هذا الحديث، فالمطيع لله مستأنس بربه، فهو يحب لقاء الله، والله يحب لقاءه، والعاصي مستوحش بينه وبين مولاه وحشة الذنوب، فهو يكره لقاء ربه ولا بد له منه.
 
8- وقال ذو النون: "كل مطيع مستأنس، وكل عاصٍ مستوحش"، وفي هذا يقول بعضهم:

أمستوحشٌ أنتَ مما جَنَيت
فأحسنْ إذا شئتَ واستأنسِ

 
9- قال أبو بكر الصِّديق لعمر - رضي الله عنهما - في وصيته له عند الموت: "إن حَفِظت وصيتي لم يكن غائبٌ أحبَّ إليك من الموت ولا بد منه، وإن ضيَّعتَها لم يكن غائبٌ أكرهَ إليك من الموت ولن تُعجِزه".
 
10- قال أبو حازم: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.
 
11- ولما احتضر زكريا بن عدي - رحمه الله - قال: "اللهم إني إليك مشتاق"، قال بِشْرٌ معلقًا على كلام زكريا: "ليس أحد يحب الدنيا إلا لم يحب الموت، ومَن زهد فيها أحب لقاء مولاه".
 
12- سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فَكَقُدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما العاصي فكقدوم الآبِق على سيده الغضبان؛ (لطائف المعارف ص582 - 585 بتصرف).
 
13- رُئِيَ أحد الصالحين في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: خيرًا، لم يُر مثل الكريم إذا حلَّ به مطيع، فالدنيا كلها شهر الصيام للمتقين، وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم، وصدق مَن قال:

وقد صُمْتُ عن لذَّاتِ دهري كلِّها
ويومَ لقاكم ذاك فطرُ صيامي


 
ثالثًا: تمنِّي الموت عند خوف الفتنة أو الضرر في الدِّين:
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به - وفي رواية: من ضرٍّ أصابه - فإذا كان لا بد فاعلاً - وفي رواية: فإن كان متمنيًا - فليقل: اللهم أحْيِني ماكانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي)).
 
قال النووي في "شرح مسلم" عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنين أحدُكم الموت من ضرٍّ أصابه)): "فيه التصريح بكراهة تمنِّي الموت لضرٍّ نزل به؛ من مرض، أو فاقة، أو محنة من عدو...
أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررًا في دينه أو فتنة فيه، فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث وغيره، وقد فعل هذا الثاني خلائقُ من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم"؛ اهـ.
 
وفي الحديث السابق للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))؛ ففي هذا تمنِّي الموت وهو خيرٌ للمسلم من أن يفتن في دينه...
أو نحو هذا.
 
وهذا ما كان يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداةٍ عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعًا فثوَّب بالصلاة، وصلَّى وتجوَّز في صلاته، فلما سلَّم، قال: ((كما أنتم على مصافِّكم))، ثم أقبل إلينا، فقال: ((إني سأحدِّثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمتُ من الليل وصلَّيت ما قُدِّر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظتُ، فإذا أنا بربي - عز وجل - في أحسن صورة، فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلتُ: لا أدري يا رب، فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلَّى لي كل شيء وعَرَفتُ، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفَّارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: نقلُ الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نِيام، قال: سَلْ، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحبَّ مَن يحبك وحبَّ عملٍ يُقرِّبني إلى حبِّك))، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)).
 
فالشاهد من الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا أردت فتنةَ قومٍ فتوفَّني غير مفتون))، وهذا يدل على جواز تمنِّي الموت عند الخوف من الفتنة، وهذا ما يؤكِّد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الإمام أحمد عن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اثنان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خيرٌ للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل الحساب))؛ (انظر "السلسلة الصحيحة": 813).
 
وقد تمنَّى الموت ودعا به خشيةَ الفتنةِ خلقٌ من الصحابة وأئمة الإسلام، وغيرهم:
1- فها هي مريم - عليها السلام - تقول: ﴿ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]؛ قال القرطبي في تفسير هذه الآية (11/92): "تمنَّت مريم - عليها السلام - الموت من جهة الدين، لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يُظَن بها الشرُّ في دينها، وتُعيَّر فيفتنها ذلك، الثاني: لئلاَّ يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا، وذلك مُهلِك، وعلى هذا الحد يكون تمنِّي الموت جائزًا".
 
وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أيضًا (3/103):
"فيه دليل جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عَرَفت أنها ستُبْتَلى وتُمْتَحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يُصدِّقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾؛ أي: قبل هذا الحال، ﴿ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾؛ أي: لم أخلق ولم أك شيئًا؛ (قاله ابن عباس)؛ اهـ.
 
2- وأخرج الإمام مالك عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أنه سمع أباه يقول: "لما صدر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من مِنى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مدَّ يده إلى السماء، فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرِّط، ثم قَدِم المدينة فخطب الناس، فقال: أيها الناس، قد سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالاً، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدَّين في كتاب الله؛ فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتُها: (الشيخ والشيخة فارجموها ألبتَّة)، فإنا قد قرأناها"، قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتِلَ عمر - رضي الله عنه.
 
• قال يحيى: سمعتُ مالكًا يقول: "الشيخ والشيخة"؛ يعني: الثيِّب والثيبة، والشاهد قول عمر - رضي الله عنه - عندما خاف أن يتغير، فقال: "فاقبضني إليك غير مفتون ولا مفرط".
 
وقد أبدع ابن الأحنف في قوله:

يَبْكِي رجالٌ على الحياةِ وقد
أفنَى دُمُوعي شوقي إلى الأجلِ

أَمُوتُ من قبلِ أن يغيِّرني
الدهرُ فإني منه على وَجَلِ

(العزلة: ص 91).
 
3- قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في يوم الجمل: "ليتني متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة!"؛ (كتاب المتمنين لابن أبي الدنيا ص 62).
 
4- وعن عُبيدة بن عبدالله بن مسعود قال: "مرَّ سليمان بن صُرد بأمي، فطلب ماءً ليتوضأ به، فأَتَتْه الجارية بماء، فمرُّوا برجل مجلود يقول: أنا والله مظلوم، فقال: يا هذه، لمثل هذا كان زوجك (يعني عبدالله بن مسعود) يتمنَّى الموت"؛ (كتاب المتمنين: ص 83).
 
5- وقال عمرو بن مرة الهمداني: "تمنَّى عبدالله لأهله ولنفسه الموت، فقيل له: تمنيت لأهلك، فلِمَ تمنيت لنفسك؟ فقال: لو أني أعلم أنكم تبقون على حالكم هذه لتمنيت أن أعيش، فذكر عشرين سنة"؛ (كتاب المتمنين: ص 83).
 
6- وتمنَّى عطاء السلمي الموت، وقال: "إنما يريد الحياة مَن يزداد خيرًا، فأما مَن يزداد شرًّا فما يصنع بالحياة!"؛ (المصدر السابق: ص 69).
 
7- وكان أبو رجاء العطاردي يقول: "لأنا إلى مَن في بطنها أشوق مني إلى مَن في ظهرها"؛ (المصدر السابق: ص 84).
 
8- وقال طاوس: "لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته"؛ (ابن أبي شيبة: 13/537، وأبو نعيم في الحلية: 4/6).
 
9- وقال الثوري: "لا يحرز دين المرء إلا قبره" (الحلية: 7/22).
 
10- وعن ربيعة بن زُهير قال: قيل لسفيان: "كم تتمنَّى الموت، وقد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟! فقال: لو سألني ربي، لقلتُ: يا رب لثِقَتِي بك، وخوفي من الناس؛ لأني لو خالفت واحدًا في رمَّانة، فقلت: حُلوة، وقال: مُرة، لخِفتُ أن يُشاط بدمي"؛ (العزلة للخطابي: ص 91).
 
11- وجاء في كتاب "رياض النفوس" (2/236) عن يونس أنه قال:"ما رأيت أحدًا سُرَّ بالموتِ من أبي الفضل يوسف بن مسرور مولى نجم الصيرفي، كان يقول: والله، لو أعلم أن أحدًا تُجاب دعوته، لسألتُه أن يسأل الله - تعالى - لي الموت، فقلت له: أصلحك الله، أَوَتُحِب أن تموت؟ فقال: وكيف لا أحب الخروج من دار الفتن، وإبليس، وكذا...
وكذا، إلى دارٍ أرجو فيها الاجتماع مع محمد - صلى الله عليه وسلم؟
 
وتحدَّث أبو علي الحسن بن فتحون، فقال: "كنتُ جالسًا يومًا عند أبي محمد البرقي؛ حتى دخل عليه أبو الفضل، فقال له: إن شئت تدعو ونُؤمِّن، أو ندعو وتُؤَمِّن، فقال أبو الفضل: أي ذلك شئت، وأخذ أبو الفضل في الدعاء، وأخذ الآخر يُؤمِّن على دعائه، يسألان الله - تعالى - الموت، فما أتى بعد ذلك شهر حتى مات أبو الفضل، ثم شهر آخر بعده حتى مات محمد البرقي - رحمهما الله تعالى.
 
يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "سيأتي على الناس زمان، يكون الموت أحبَّ إلى العلماء من الذهب الأحمر، حتى يأتي الرجل قبر أخيه، فيقول: يا ليتني مكانك"، وصدق أبو هريرة - رضي الله عنه - فها هو سفيان الثوري يقول: "كان من دعائي ألا أموت فجأة، فأما اليوم فوددتُ أنه قد كان"؛ (كتاب المتمنين: ص 84)، وكان - رحمه الله -: إذا اغتمَّ رمى بنفسه عند وهيب بن الورد، فقال له: يا أبا أمية، أتدري أحدًا يتمنَّى الموت؟ قال وهيب: أمَّا أنا فلا! قال له سفيان: أما أنا، فوالله لوددت أني مت، ووالله لوددت أني مت، قالها ثلاثًا"؛ (المصدر السابق: ص 73).
 
وعن أبي مهلهل سعيد بن صدقة قال: "أخذ بيدي سفيانُ الثوري يومًا، فأخرجني إلى الجبَّان، فاعتزلنا ناحية من طريق الناس، فبكى ثم قال: يا أبا مهلهل، وددتُ أني لم أكن كتبت من هذا العلم حرفًا واحدًا، إلا ما لا بد للرجل منه، قال: ثم بكى، ثم قال: يا أبا مهلهل، قد كنت قبل اليوم أكره الموت، فقلبي اليوم يتمنَّى الموت، وإن لم ينطق به لساني، قلت: ولم ذاك؟ قال: لتغيُّر الناس وفسادهم"؛ (المصدر السابق: ص 64).
 
وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمرَّ الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتي كنتُ مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين إلا البلاء)).
 
قال أبو نعيم في "الحلية" (2/14):
"كان العرباض بن سارية - رضي الله عنه - يقول وقد كبرت سنه: "اللهم كبرت سني، ووهن عظمي، فاقبضني إليك".
 
وقال أيضًا في "الحلية" (2/39):
"قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن أنه لما نزل القوم بالحسين - رضي الله عنه - وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "قد نزل من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيَّرت وتنكرت، وأدبر معروفها، وانشمرت حتى لم يبقَ منها إلا كصبابة الإناء، إلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتنَاهَى عنه، ليرغَبِ المؤمنُ في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا جرمًا؛ اهـ.
 
تمنِّي الموت في غير الوجوه السابقة:
"فقد اختلف العلماء في كراهيته واستحبابه، وقد رخَّص فيه جماعة من السلف، وكَرِهه آخرون، وحكى بعضُ أصحابنا عن أحمدَ في ذلك روايتين، ولا يصح، فإن أحمد إنما نصَّ على كراهة تمني الموت لضرر الدنيا، وعلى جواز تمنِّيه خشية الفتنة في الدين.
 
واستدل مَن كَرِهه بعموم النهي عنه؛ كما في حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تتمنَّوا الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة))، وقد علل النهي عن تمنِّي الموت في حديث جابر بعلتين:
إحداهما: أن هول المطلع شديد، وهول المطلع: هو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي لا عهد له بشيء منها في الدنيا؛ من رؤية الملائكة، ورؤية أعماله من خير أو شر، وما يبشَّر به عند ذلك من الجنَّة أو النار، هذا مع ما يلقاه من شدة الموت وكربه وغُصَصِه.
 
قال الحسن - رحمه الله -: "لو علم ابنُ آدم أن له في الموت راحة وفرحًا، لشق عليه أن يأتيَه الموتُ؛ لما يعلم من فظاعته وشدته وهوله، فكيف وهو لا يعلم ما له في الموت نعيم دائم، أو عذاب مقيم؟!".
 
فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلول البلاء، وإنما أمرنا بسؤال العافية.
 
والعلة الثانية: أن المؤمن لا يزيدُ عمره إلا خيرًا، فمن سعادته أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة إليه.
 
• واختلف السالكون أيما أفضل، مَن تمنَّى الموت شوقًا إلى لقاء الله، أو تمنَّى الحياة رغبة في طاعة الله؟ أو مَن فوَّض الأمر إلى الله ورَضِي باختياره ولم يختر شيئًا؟
 
فذهب قوم إلى تفضيل الموت على الحياة، واستدلَّ طائفةٌ من الصحابة بقول الله - عز وجل -: ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، ولكن الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن عمر المؤمن كلما طال، ازداد بذلك ما له عند الله من الخير، فلا ينبغي له أن يتمنَّى انقطاع ذلك، اللهم إلا أن يخشى الفتنة على دينه، فإنه إذا خشي الفتنة على دينه، فقد خشي أن يفوته ما عند الله من خير، والموت خير له على هذه الحال.
 
قال ميمون بن مهران: "لا خير في الحياة إلا لتائب، أو رجل يعمل في الدرجات".
 
وأخرج ابن ماجه - بسند صحيح - عن طلحة بن عبيدالله: "أن رجلين من بَلِيٍّ قَدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إسلامُهما جميعًا، فكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم تُوُفِّي، قال طلحة: فرأيتُ في المنام: بينا أنا عند باب الجنَّة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنَّة، فأَذِن للذي تُوُفِّي الآخر منهما، ثم خرج، فأَذِن للذي استشهد، ثم رجع إليَّ فقال: ارجعْ، فإنك لم يأنِ لك بعدُ، فأصبح طلحة يُحدِّث الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَّثوه الحديث، فقال: ((من أي ذلك تعجبون؟))، فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهادًا، ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنَّة قبله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟))، قالوا: بلى، قال: ((وأدرك رمضان؛ فصام وصلَّى كذا وكذا من سجدة في السنة؟))، قالوا: بلى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فما بينهما أبعدُ ممَّا بين السماء والأرض)).
 
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبدالله بن بسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ الناس مَن طال عمره، وحَسُن عمله))؛ (صحيح الجامع: 3296).
 
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي بكرة - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الناس مَن طال عمره وحسن عمله، وشر الناس مَن طال عمره وساء عمله))؛ (صحيح الجامع: 3297).
 
وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بخياركم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((خيارُكم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالاً)).
 
• طلب أحدهم الموت، فقيل له: لا تفعل، لَسَاعةٌ تعيش فيها تستغفرُ الله خير لك من فوت الدهر.
 
• وقيل لشيخ كبير منهم: تحبُّ الموت؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، إذا قمتُ، قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا.
 
• الموتى في قبورهم يتمنَّون زيادة في أعمالهم بتسبيحة أو بركعة.
 
ومنهم مَن يسأل الرجعةَ إلى الدنيا للتوبة، وإصلاح الزاد، فلا يقدرون على ذلك، قد حيل بينهم وبين العمل.
 
• ورُئِي بعضُهم في المنام، فقال: نَدِمنا على أمرٍ عظيم، نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون، والله لَتَسبيحةٌ أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدِنا أحب إليه من الدنيا وما فيها.
 
• قال بعض السلف: "كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة".
 
• وقال بعضهم: ما فات من عمر المؤمن لا قيمة له؛ يعني: أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة، وأن يجتهد فيه في بلوغ الدرجات العالية بالعمل الصالح، فأما مَن فرَّط في بقية عمره فإنه خاسر، فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين، الأعمال بالخواتيم، مَن أصلح فيما بقِي غُفِرَ له ما مضى، ومَن أساء فيما بقي أُخِذ بما بقي وما مضى"؛ (لطائف المعارف لابن رجب).
 
• وعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يغتنم عمره باكتساب الطاعات.
 
تنبيه:
يستحب أن يتمنَّى الإنسان الموت في أرض مباركة:
قال البخاري - رحمه الله - باب "مَن أحبَّ الدفن في الأرض المقدسة ونحوها".
 
وقد دعا موسى - عليه السلام - ربَّه عند الموت أن يُدْنِيه من الأرض المقدسة، وكان عمر - رضي الله عنه - يتمنَّى أن يموت بالمدينة؛ فقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يدعو فيقول: "اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك".

[1] ((بخٍ..
بخٍ)
)
: كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير