تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:79-82].

تذكيراً لكم بما مضى أقول: إن هذه القصة قد ساقها الله عز وجل في سياق التعقيب على كفار مكة، الذين استنكفوا من مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجلسه يضم فقراء أصحابه، ومن لا جاه لهم؛ فقالوا: يا محمد! اجعل لنا يوماً؛ ولهؤلاء يوماً، فخاطب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].

ثم ذكر ربنا جل جلاله قصة موسى مع العبد الصالح؛ ليبين لكفار مكة أن التواضع هو سمة العقلاء من الأنبياء والمرسلين والصالحين، وأن طلب العلم يستوي فيه الغني والفقير، والكبير والصغير، والمأمور والأمير، كلهم ينبغي أن يكونوا في طلب العلم سواء، وتقدم معنا الكلام في أن هذه القصة سببها كما روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فقال له بنو إسرائيل: يا نبي الله! أي عباد الله أعلم؟ فقال: أنا )، وفي رواية: أنهم قالوا: ( يا نبي الله! هل أحد على وجه الأرض أعلم منك؟ فقال: لا، فقال الله عز وجل: بلى، عبدنا خضر بمجمع البحرين، عنده من العلم ما ليس عندك، فقال: يا رب! كيف لي به؟ فقال الله عز وجل: خذ حوتاً في مكتل؛ فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة، فقال موسى لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً )، أي: زماناً طويلاً.

وفي رواية الإمام ابن جرير رحمه الله: ( أن موسى عليه السلام قال: يا رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: أي رب! فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: يا رب! فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه. قال: يا رب! فهل أحد على وجه الأرض أعلم مني؟ قال: بلى، عبدنا خضر بمجمع البحرين ).

ذهب موسى عليه السلام للقاء العبد الصالح، وشرط على نفسه شرطاً بعدما بذل أسباب الأدب، قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فقال له العبد الصالح: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:67]، فبذل موسى عليه السلام الوعد، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [الكهف:69]، فاشترط عليه العبد الصالح ألا يبادر بالسؤال عن شيء حتى يكون هو الذي يخبره، قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف:70]، فرضي موسى عليه السلام بهذا الشرط، ثم بعد ذلك وقعت ثلاث حوادث:

الحادثة الأولى: حين ركبا في السفينة بغير نول -بغير أجر- عمد الخضر عليه السلام إلى لوح من ألواحها فقلعه، فبادر موسى بالإنكار، قال له: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ [الكهف:71] وفي قراءة: (ليغرق) أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، أي أنك فعلت شيئاً عظيماً، وبادر عليه السلام إلى ثوبه فحشا به موضع ذلك الخرق؛ فذكره الخضر قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، فاعتذر موسى عليه السلام بالنسيان، قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، وكن معي ميسراً لا معسراً، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:73].

الحادثة الثانية: وقعت بعدما نزلا من السفينة ووجدا صبيةً يلعبون، فعمد الخضر إلى أصبحهم وجهاً، فقتله، إما أنه قد لوى عنقه، أو أنه اقتلع رأسه، أو أنه أضجعه فذبحه بالسكين، فموسى عليه السلام اشتد غضبه، وعظم إنكاره، فقال له: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الكهف:74] أو زاكيةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، أي: ليست في مقابل نفس، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، و(نكراً) أبلغ من (إمراً)؛ لأن الجرم الأول في نظر موسى إتلاف مال، والجرم الثاني قتل نفس، ولا شك أن قتل النفس أعظم عند الله من إتلاف المال، فواجه الخضر عليه السلام إنكار موسى بتشديد، قال له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75]، وفي المرة الأولى قال له: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، وفي المرة الثانية قال له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:75]، فأخذ موسى عليه السلام على نفسه عهداً، وقال له: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي [الكهف:76] أو (من لدني) عُذْراً [الكهف:76].

الحادثة الثالثة: حين وصلا إلى قرية لئام أهلها، سيئة طباعهم، فاسدة أخلاقهم، وطلبا من أهل تلك القرية طعاماً فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا[الكهف:77]، أبى أهل القرية أن يبذلوا ما يجب نحو الضيف، فوجد الخضر عليه السلام جداراً مائلاً أوشك على الانقضاض والانهيار، فعمد إلى إصلاحه، إما أنه لمسه بيده فاستقام، أو أنه فعل كما يفعل الناس من البناء المعتاد، فقال له موسى عليه السلام: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77]، فهنا تعين الفراق والإعراض، قال له الخضر عليه السلام: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78]، هنا قد وقع الشرط فوقع المشروط، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78]، أي: سأنبئك يا موسى! بتأويل أي: بتفسير تلك الحوادث التي لم تصبر عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله موسى وددنا لو أنه صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما ).

ثم بعد هذا الإجمال بدأ المعلم في التفصيل، بدأ يشرح لموسى عليه السلام، قال له: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، وهنا قراءة شاذة وليست متواترة: (أما السفينة فكانت لمسَّاكين) والمسَّاك هو القبطان أو الكابتن؛ لأنه يمسك السفينة عن أن تميد وتضطرب، أو مساكين جمع مساك، وهم دبغة المسوك وهي الجلود؛ لكنها قراءة شاذة، والقراءة المتواترة: أنها كانت لمساكين.

القول بأن المسكين أفضل حالاً من الفقير

استدل بهذه الآية من يقول: بأن المسكين أفضل حالاً من الفقير؛ لأن هؤلاء عندهم سفينة ومع ذلك وصفوا بأنهم مساكين؛ لكن نقول: لا يلزم؛ لأنه ليس في الآية أن السفينة كانت ملكاً لهم، وإنما ربما كانوا يؤاجرون أنفسهم؛ لأنه معروف بأن السفينة إذا غرقت فهؤلاء المستأجرون على العمل فيها سيذهب مورد رزقهم، كما لو أن مصنعاً فيه عمال وموظفون، هذا المصنع احترق أو انهدم؛ فهؤلاء الموظفون والعمال سيشردون.

وقال بعضهم: ليس المقصود بالمساكين مسكنة المال، وإنما المقصود مسكنة الحال؛ بأنهم متعبون في حال سفر، وتعرفون السفر حال ضعف، وحال غربة، كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين، وقد يكون إنسان غني عنده أموال كثيرة؛ لكن وقع في ضيق، أو في حرج، أو في مرض، أو شبه ذلك فتقول: فلان مسكين، وليس المقصود بالمسكنة هنا مسكنة المال.

الحكمة من قول الخضر لموسى: (فأردت أن أعيبها)

على كل حال الله عز وجل قال على لسان الخضر : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79].

هذا العبد الصالح قال: (فأردت أن أعيبها)، ألم يكن كافياً أن يقول: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فعبتها؟ أو أما السفينة فعبتها؟ فلماذا قال: (فأردت أن أعيبها)؟ خذوها قاعدة: ليس في القرآن لفظ يصلح مكانه لفظ آخر، كل لفظ في مكانه، ولا يمكن أن تقول: هذا التعبير أخصر أي: أشد اختصاراً من هذا التعبير، صحيح أنه قد يكون أخصر لكنه لا يؤدي نفس المعنى.

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: قال الخضر : (فأردت أن أعيبها) ليبين أن فعله كان عن قصد وتأمل، يعني: لو قال: السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر فعبتها، فيمكن أن يكون هذا الفعل خبط عشواء؛ لكنه قال: (فأردت أن أعيبها) يعني: عندي قصد، وهذا القصد حصل بعد تأمل وإمعان نظر، وإعمال فكر، (فأردت أن أعيبها)، أي: أجعلها ذات عيب، ثم قال معللاً لئلا يقول له موسى: ولماذا تعيبها: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، هذا الملك اسمه كما قال بعض المفسرين: هدد بن بدد ، أو اسمه الجلندا ، والله أعلم، وليس في تعيينه فائدة، يَأْخُذُ [الكهف:79]، أي: يغتصب ويستولي ويسرق كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]، (كل سفينة) عموم في معنى الخصوص، والمقصود: يأخذ كل سفينة صالحة، وكل سفينة جيدة، وكل سفينة سليمة يأخذها غصباً، أي: قهراً رغم أنف أهلها.

معنى الوراء الوارد في قوله تعالى: (وكان وراءهم ملك)

قول الله عز وجل: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ [الكهف:79]، قال بعض المفسرين: الوراء بمعنى الأمام، فهي من ألفاظ الأضداد، كلفظة البيع، تستخدم للبيع والشراء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )؛ لكن بعض النحويين وعلى رأسهم الفراء يقول: إن وراء على بابها، ونصر هذا المعنى الإمام ابن عطية .

كلمة (وراء) في الزمان تستعمل للشيء المتقدم، يقول الله عز وجل مثلاً في شأن التوراة والإنجيل: مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31]؛ لأن القرآن في الزمان جاء متقدماً أي من بعد التوراة والإنجيل، وكذلك قول الله عز وجل: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية:10]، أي: أمامهم أي في الزمان، وقال الله عز وجل: وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17]، (ومن ورائه) أي: أمامه في الزمان، وهنا أيضاً (وكان وراءهم) أي: في الزمان الذي سيقابلونه فيما بعد، أي: أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، ومنه قول القائل:

أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أليس ورائي، أي: أمامي، إن تراخت منيتي، يعني: حتى لو تأخر الموت عني، فلا بد أن أستعمل العصا.

قال الله عز وجل: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]، قال المفسرون: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: أما السفينة التي اعترضت على خرقها يا موسى فكانت لمساكين يعملون عليها في البحر، (وكان وراءهم) أي: فيما يستقبلون من الطريق أمامهم ملك يأخذ كل سفينة جيدة رغم أنف أهلها؛ فأردت أن أعيبها، هذا هو سياق الكلام: أن السفينة لمساكين وأن هناك ملك يتربص بهم؛ فمن أجل هذا أردت أن أعيبها، فحصل في الآية تقديم وتأخير كما قال البيضاوي رحمه الله: قدمت إرادة العيب للعناية بها، أو لأن السبب مجموع الأمرين وهو خوف الغصب، ومسكنة الملاك، يعني: الخضر عليه السلام خرق السفينة لسببين: خوفاً من غصبها، ولأن ملاكها أو العاملين عليها مساكين؛ فمن أجل هذا قدم العيب.

استدل بهذه الآية من يقول: بأن المسكين أفضل حالاً من الفقير؛ لأن هؤلاء عندهم سفينة ومع ذلك وصفوا بأنهم مساكين؛ لكن نقول: لا يلزم؛ لأنه ليس في الآية أن السفينة كانت ملكاً لهم، وإنما ربما كانوا يؤاجرون أنفسهم؛ لأنه معروف بأن السفينة إذا غرقت فهؤلاء المستأجرون على العمل فيها سيذهب مورد رزقهم، كما لو أن مصنعاً فيه عمال وموظفون، هذا المصنع احترق أو انهدم؛ فهؤلاء الموظفون والعمال سيشردون.

وقال بعضهم: ليس المقصود بالمساكين مسكنة المال، وإنما المقصود مسكنة الحال؛ بأنهم متعبون في حال سفر، وتعرفون السفر حال ضعف، وحال غربة، كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين، وقد يكون إنسان غني عنده أموال كثيرة؛ لكن وقع في ضيق، أو في حرج، أو في مرض، أو شبه ذلك فتقول: فلان مسكين، وليس المقصود بالمسكنة هنا مسكنة المال.

على كل حال الله عز وجل قال على لسان الخضر : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79].

هذا العبد الصالح قال: (فأردت أن أعيبها)، ألم يكن كافياً أن يقول: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فعبتها؟ أو أما السفينة فعبتها؟ فلماذا قال: (فأردت أن أعيبها)؟ خذوها قاعدة: ليس في القرآن لفظ يصلح مكانه لفظ آخر، كل لفظ في مكانه، ولا يمكن أن تقول: هذا التعبير أخصر أي: أشد اختصاراً من هذا التعبير، صحيح أنه قد يكون أخصر لكنه لا يؤدي نفس المعنى.

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: قال الخضر : (فأردت أن أعيبها) ليبين أن فعله كان عن قصد وتأمل، يعني: لو قال: السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر فعبتها، فيمكن أن يكون هذا الفعل خبط عشواء؛ لكنه قال: (فأردت أن أعيبها) يعني: عندي قصد، وهذا القصد حصل بعد تأمل وإمعان نظر، وإعمال فكر، (فأردت أن أعيبها)، أي: أجعلها ذات عيب، ثم قال معللاً لئلا يقول له موسى: ولماذا تعيبها: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، هذا الملك اسمه كما قال بعض المفسرين: هدد بن بدد ، أو اسمه الجلندا ، والله أعلم، وليس في تعيينه فائدة، يَأْخُذُ [الكهف:79]، أي: يغتصب ويستولي ويسرق كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]، (كل سفينة) عموم في معنى الخصوص، والمقصود: يأخذ كل سفينة صالحة، وكل سفينة جيدة، وكل سفينة سليمة يأخذها غصباً، أي: قهراً رغم أنف أهلها.

قول الله عز وجل: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ [الكهف:79]، قال بعض المفسرين: الوراء بمعنى الأمام، فهي من ألفاظ الأضداد، كلفظة البيع، تستخدم للبيع والشراء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )؛ لكن بعض النحويين وعلى رأسهم الفراء يقول: إن وراء على بابها، ونصر هذا المعنى الإمام ابن عطية .

كلمة (وراء) في الزمان تستعمل للشيء المتقدم، يقول الله عز وجل مثلاً في شأن التوراة والإنجيل: مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31]؛ لأن القرآن في الزمان جاء متقدماً أي من بعد التوراة والإنجيل، وكذلك قول الله عز وجل: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية:10]، أي: أمامهم أي في الزمان، وقال الله عز وجل: وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17]، (ومن ورائه) أي: أمامه في الزمان، وهنا أيضاً (وكان وراءهم) أي: في الزمان الذي سيقابلونه فيما بعد، أي: أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، ومنه قول القائل:

أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أليس ورائي، أي: أمامي، إن تراخت منيتي، يعني: حتى لو تأخر الموت عني، فلا بد أن أستعمل العصا.

قال الله عز وجل: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]، قال المفسرون: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: أما السفينة التي اعترضت على خرقها يا موسى فكانت لمساكين يعملون عليها في البحر، (وكان وراءهم) أي: فيما يستقبلون من الطريق أمامهم ملك يأخذ كل سفينة جيدة رغم أنف أهلها؛ فأردت أن أعيبها، هذا هو سياق الكلام: أن السفينة لمساكين وأن هناك ملك يتربص بهم؛ فمن أجل هذا أردت أن أعيبها، فحصل في الآية تقديم وتأخير كما قال البيضاوي رحمه الله: قدمت إرادة العيب للعناية بها، أو لأن السبب مجموع الأمرين وهو خوف الغصب، ومسكنة الملاك، يعني: الخضر عليه السلام خرق السفينة لسببين: خوفاً من غصبها، ولأن ملاكها أو العاملين عليها مساكين؛ فمن أجل هذا قدم العيب.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2546 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2535 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2378 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2263 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2128 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2049 استماع