تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف:99-106].

تقدم معنا الكلام في الدرس الذي مضى عن الرحلة الثالثة للعبد الصالح ذي القرنين عليه السلام، وأنه لما بلغ بين السدين قبل أرمينيا وأذربيجان كما قال بعض المفسرين، وجد في تلك المنطقة قوماً لغتهم غريبة، ما استطاع تراجمة ذي القرنين أن يفهموا مرادهم، وأن يفقهوا قولهم، وهؤلاء القوم مثلما كانوا لا يُفقهون فإنهم كانوا لا يَفقهون، فاستخلص ذو القرنين عليه السلام من كلامهم بأنهم يشكون من أمتين من الناس يأجوج ومأجوج، وهما أمتان من بني آدم كثير عددهم، شديد بأسهم، وأنهم مفسدون في الأرض، وكان إفسادهم في الأرض عاماً بالظلم والجور والغشم والعلو في الأرض، وغير ذلك من أنواع الفساد.

وعرضوا على ذي القرنين عليه السلام أن يجعلوا له خراجاً؛ أي: يفرض له مال يجمعونه من أفرادهم في مقابل أن يقيم بينهم وبين أولئك المفسدين سداً حائطاً حائلاً يمنع خروجهم عليهم، وكان ذو القرنين عليه السلام عفيفاً عظيماً كعادة أنبياء الله ورسله وأوليائه لا يطلبون من الناس أجراً، قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95]، أي: ما آتاني الله عز وجل من أسباب القوة والتمكين خير مما تعرضونه علي من المال، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [الكهف:95]، أي: كل الذي أريده منكم عمالاً أقوياء أستعين بهم في بناء السد، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً [الكهف:95]، (ردما) مشتق من الثوب المردم أو المتردم، وهو الذي تكون رقاعه بعضها فوق بعض.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96]، (الزبر): جمع زبرة وهي القطعة الكبيرة، فرص هذه القطع بعضها فوق بعض، حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96] -أو (بين الصُدُفين) أو (بين الصُدْفين) قراءات- وهما قمتا الجبل، قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [الكهف:96]، أتى بالنحاس المذاب فأفرغه بين هذا الحديد المنضد المرصوص، فصار سداً قوياً منيعاً، قال الله عز وجل: فَمَا اسْطَاعُوا [الكهف:97] أي: يأجوج ومأجوج، أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] أي: أن يعلوا عليه ويتسلقوه، وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً [الكهف:97]، أي: ما استطاعوا أن يحدثوا فيه ثقباً يخرجون به على الناس.

وتقدم معنا الكلام أن يأجوج ومأجوج من بني آدم بنص حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار من ولدك، فيقول آدم: وما بعث النار؟ يقول الله عز وجل: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فقال الصحابة: فمن يكون ذلك الواحد يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام: إن يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، وإن أمتي بين الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود )، فيأجوج ومأجوج من بني آدم، وهم قوم مفسدون لا خلاق لهم، وخروجهم من علامات الساعة الكبرى، كما قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنهم لا يتركون شيئاً رطباً إلا أكلوه، ولا شيئاً يابساً إلا أفسدوه، وأنهم يظهرون في الأرض الفساد، حتى إن المسيح بن مريم عليه السلام يحرز من معه من المؤمنين إلى الطور، يعتزلون حذراً من هؤلاء المفسدين، وما زال المسيح يرغب إلى ربه ويدعوه، فيرسل الله عليهم النغف )، أي: يرسل عليهم الدود ( يتسلط عليهم في أعناقهم حتى يفنيهم، ثم يرسل الله طيراً كأعناق البخت، فتحمل جثثهم وتلقي بها حيث شاء الله، ثم ينزل الله عز وجل من السماء مطراً، فيغسلها من زهمهم ونتنهم، وتحل البركة في الأرض، وتنبت نباتها بعهد آدم ) كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عادة الأنبياء والأولياء في إرجاع الفضل لله تعالى

ذو القرنين عليه السلام بعدما بنى السد قال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98]، أي: هذا السد رحمة من ربي؛ لأنه كان سبباً دون تفادي أولئك القوم الفاسقين، وهكذا عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دائماً يرجعون الفضل إلى الله عز وجل مثلما قال سليمان حين رأى عرش بلقيس بين يديه في ظرف وجيز وزمن يسير: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].

كذلك ذو القرنين عليه السلام لم يرجع الأمر إلى عبقريته وذكائه، وإنما قال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98]، وأذن الله في خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة.

(جعله دكاً) بمعنى مدكوكاً، المصدر بمعنى اسم المفعول، أو جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف:98]، والدكاء ظهر الناقة المستوية التي ليس لها سنام، وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً [الكهف:98].

ذو القرنين عليه السلام بعدما بنى السد قال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98]، أي: هذا السد رحمة من ربي؛ لأنه كان سبباً دون تفادي أولئك القوم الفاسقين، وهكذا عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دائماً يرجعون الفضل إلى الله عز وجل مثلما قال سليمان حين رأى عرش بلقيس بين يديه في ظرف وجيز وزمن يسير: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].

كذلك ذو القرنين عليه السلام لم يرجع الأمر إلى عبقريته وذكائه، وإنما قال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي [الكهف:98]، وأذن الله في خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة.

(جعله دكاً) بمعنى مدكوكاً، المصدر بمعنى اسم المفعول، أو جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف:98]، والدكاء ظهر الناقة المستوية التي ليس لها سنام، وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً [الكهف:98].

ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103] أي: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين نزلت بسبب أسئلتهم السورة وهم اليهود والمشركون، قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين يتعنتون بطرح الأسئلة، ويعاندونك وهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، يعرفون أنك صادق، وأنك أمين، (قل هل ننبئكم) أي: هل نخبركم، والنبأ هو الخبر العظيم، (هل ننبكم) إذا كان المتكلم رب العزة جل جلاله، فالنون نون العظمة، وربما يكون المراد (هل ننبئكم) راجعة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو احتمال ثالث: (هل ننبئكم) أي: الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.

هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103]، (الأخسرين) أفعل تفضيل من الخسران، هذا خاسر وذاك أخسر، والخسران أصله النقص.

هل ننبكم بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً وربحاً، فنالوا به عطباً وهلاكاً، ولم يدركوا طلباً، كالمشتري الذي يبتاع سلعةً من أجل أن يربح فيها فتكون عاقبته خسارةً ووكساً في الذي رجا فضله، هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103]، (أعمالاً) منصوبةً على التمييز.

قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه؛ فكثرة العمل ليست دليلاً على أنك ناج عند الله -نسأل الله أن ينجينا برحمته وفضله- بل قد يكون العمل هباءً منثوراً، كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18]، أو كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39]، إما بسبب فساد الاعتقاد، أو بسبب الرياء والعياذ بالله، وهذان هما السبب في خسران العمل، إما أن يكون بسبب فساد الاعتقاد، كحال الكفار، فـأبو جهل وأمثاله كانوا يحجون، وكانوا يعتمرون، وكانوا بالبيت يطوفون، وكانوا ينحرون الذبائح، ويتقربون إلى الأصنام، وهم يعتقدون أن ذلك يرفعهم عند الله، ولكن هذا كله ما زادهم من الله إلا بعداً.

صفات الأخسرين أعمالاً يوم القيامة

الله عز وجل يطرح هذا السؤال: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103]؟ بلى يا رب نبئنا على لسان رسولك صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104].

قال بعض أهل العلم: هذه أخوف آية في كتاب الله، أن إنساناً يعمل أعمالاً كثيرة، يظنها كافيةً شافيةً منجيةً، وهي مهلكة، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف:104]، (الذين) مرفوع على أنه خبر مبتدأ، والتقدير: هم الذين ضل سعيهم، مرفوعة على أنها خبر مبتدأ، ويمكن أن تعرب على أنها في موضع جر صفة للأخسرين، هل ننبئكم بالأخسرين الذين ضل سعيهم، ويمكن أن تكون منصوبةً على الذم، والتقدير: أذم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، والضلال هو خطأ السبيل، يقال: ضل فلان الطريق إلى بيته أي: أخطأ السبيل، فشبه الله حال هؤلاء الكفار بحال إنسان سار في طريق غير موصلة، إنسان مشى في طريق صحراوي وهو لا يملك مالاً، فمشى ساعات طوال، ثم وجد نفسه في فلاة من الأرض؛ لأنه سار في طريق لا توصله إلى مبتغاه، فضل، نقول: هذا الإنسان ضل الطريق، فكذلك الكفار، (الذين ضل سعيهم) السعي هو المشي في شدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، أي: امشوا، وهنا مجاز مراد به العمل، كما قال ربنا سبحانه: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19]، أي: عمل لها عملها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:19]، هؤلاء الذين ضل سعيهم كانوا يعملون أعمالاً تقربوا بها إلى الأصنام، تقربوا بها إلى المسيح، تقربوا بها إلى عزير، تقربوا بها إلى الملائكة، تقربوا بها إلى ما كانوا يعبدون من بشر أو حجر أو شجر أو شمس أو قمر، فـ(ضل سعيهم) أي: بطل وضاع؛ لأن عملهم الذي عملوه لم يكن على هدىً واستقامة، (وهم يحسبون) أي: وهم يظنون، (أنهم يحسنون)، وهذه كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8].

وكقول الشاعر:

يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

المقصود بقوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)

قال سبحانه: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ [الكهف:104]، الإحسان: الإتيان بالعمل على الصفة المشروعة، أو على الوجه اللائق، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104]، (صنعاً) أي: عملاً، والصنع بمعنى المصنوع، قيل: المقصود بهم الرهبان والقساوسة، فهؤلاء يعيشون عيشة الشظف، تجد الواحد منهم شاربه قد تدلى على شفتيه، ولحيته كثة قد غطت وجهه، الواحد منهم لا يأكل اللحم، ولا يتزوج النساء، وهو في صومعته، أو في كنيسته قد اعتزل الناس لا يخالطهم، وقد أقبل على ما يظنه عبادةً لله، ولذلك سيدنا عمر لما رأى رجلاً من رهبان النصارى شيخاً متقهلاً، أي: دنس الثياب، كثير الشعر، قد انحنى ظهره، بكى عمر رضي الله عنه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين، طلب أمراً فأخطأه، فتذكرت قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:2-4]، هو كان في الدنيا في خشوع، في ذل، وكان في عمل، وكان في نصب وتعب، ولكن يوم القيامة يصلى ناراً حامية؛ لأنه ممن (ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).

وقيل: المقصود بهذه الآية: هم الحرورية، نسبة إلى حروراء بلدة في العراق، وكان مبدأ ظهور الخوارج منهم من هناك، ولذلك الخوارج يسمون الحرورية نسبة إلى تلك البلدة، وهم يحبون أن يسموا أنفسهم بالشراة، ويتأولون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، ويسمون أيضاً بالمحكمة؛ لأنهم رفضوا تحكيم الرجال في كتاب الله بزعمهم، هذه أسماؤهم، وفيهم فرق النجدات، والأزارقة، والإباضية، وغير هؤلاء.

وهؤلاء الحرورية كانوا يكفرون أصحاب رسول الله خيرة خلق الله بعد الأنبياء، على رأسهم عثمان ، و علي ، و أبي موسى ، و عمرو بن العاص ، و عبد الله بن خباب ، وأمثالهم، بل كان مصرع علي على أيديهم، وكان مصرع عبد الله بن خباب على أيديهم، وهم الذين حاربوا علياً في النهروان، فهؤلاء ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، سفهاء الأحلام، حدثاء الأسنان، يقولون من قول خير البرية )، يعني: دائماً يستدلون بالآيات والأحاديث، لكنهم أضل الناس فهماً، وأخف الناس عقلاً، ولذلك من خفة عقولهم قالوا: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، ومن خفة عقولهم قالوا: إن القرآن مخلوق، وقالوا: إن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن خفة عقولهم أنهم جوزوا الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، ومن خفة عقولهم أنهم أنكروا رجم المحصن، ومن خفة عقولهم أنهم أوجبوا على الحائض قضاء الصلاة مثلما تقضي الصوم، فلو أن المرأة ابتلاها الله بالزواج بواحد من الخوارج سيجعلها تقضي الصلاة وتقضي الصيام عمرها كله؛ لأنهم سفهاء الأحلام، كما عبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: قول الله عز وجل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104]، قيل: المراد بهذه الآية الرهبان والقساوسة، وقيل: بل مراد بهم الحرورية، وقد روى البخاري عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، قال: قلت لـسعد : يا أبتِ! هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103] أهم الحرورية؟ فقال: لا، ولكنهم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، قالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد يسميهم الفاسقين.

وقال آخرون: بل المراد بالآية جميع أهل الكتابين، أي: اليهود والنصارى، قال الإمام الطبري رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل عنى بقوله: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [الكهف:103] كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيباً، وأنه بذلك لله مطيع مرضٍ، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة من أهل أي دين كانوا.

ومعنى كلام الطبري رحمه الله: أن الآية عامة في كل إنسان يعمل عملاً يحسب به أنه مطيع لله مرض لله، وهو في واقع الأمر مسخط لله، مغضب له، فالآن لو تأملتم في أحوال الرافضة الشيعة في يوم عاشوراء يضربون أجسادهم ورءوسهم بالآلات الحادة حتى يسيلون الدم، ويريدون بذلك رضا الله، فهم ممن (ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).

المسلمون في الحج يقولون: لبيك اللهم لبيك، يريدون رضا الله، وهؤلاء يقولون: يا حسين ! يا حسين ! يريدون رضا الله، فلا يكفي أن يقول الإنسان: أنا أريد رضا الله، بل لا بد أن يكون طلبك لرضا الله عن طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطريقة التي طلب بها رضا الله تسلكها، لو سلكت طريقةً غيرها فهذه الآية تنطبق عليك، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104].

مجازاة الكفار بعدم إقامة الوزن لهم يقوم القيامة

قال الله عز وجل: أُولَئِكَ [الكهف:105] أي: الذين مضى ذكرهم، الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ [الكهف:105]، (كفروا بآيات ربهم)، أي: جحدوا براهينه التي أقامها على وحدانيته، (كفروا بآيات ربهم) بالقرآن والمعجزات، (ولقائه) أي: بالبعث والنشور، (فحبطت أعمالهم) أي: بطلت، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105]، دلالةً على الاستحقار والتتفيه أنهم لا قيمة لهم عند الله، كما يقال: فلان لا أقيم له وزناً، أي: لا أعتبره ولا أهتم به، ولا ألتفت إليه، بل أنا معرض عنه، فنفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء، وفي حقارته، وهذه الآية دليل على أن الميزان حق؛ لأن يوم القيامة تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتوزن أعمال العباد، وتوزن الصحف، بل يوزن العباد أنفسهم، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه: ( لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد )، ويدل على هذا أيضاً الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] ).

قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: وفي تأويل الآية: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105]، وجهان:

الوجه الأول: ليس لهم حسنات توضع في الكفة الأخرى من أجل أن تعادل بها سيئاتهم، إذ ليس عندهم حسنات؛ لأن الله عز وجل قال: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

الوجه الثاني: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105]، أي: بسبب كفرهم لا قدر لهم عند الله تعالى، ما عندهم قدر، ( يحشرون كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم )، هذه حالهم، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105].

ذَلِكَ [الكهف:106]، أي: عدم إقامة الوزن، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف:106]، فما ظلمهم الله، وإنما جازاهم على سوء اعتقادهم، وقبح فعالهم، أما سوء اعتقادهم فإنهم كفروا، وأما سوء الفعال فقد استهزءوا بآيات الله ورسل الله.

نسأل الله أن يرزقنا إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمةً ننال بها شرف كرامته في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2548 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2538 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2379 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2369 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2297 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2264 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2172 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2089 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2051 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [79-82] 1966 استماع