تأملات في سور القرآن - النور


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

سنتحدث عن سورة النور، هذه السورة المباركة سميت بهذا الاسم؛ لأن الله عز وجل ذكر فيها تلك الآية المباركة: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ[النور:35].

ضرب الله عز وجل مثلاً لنوره فقال سبحانه: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ[النور:35]، و(المشكاة) هي الكوة التي تكون في الجدار، لأن الناس فيما مضى كانوا يجعلون في الجدار أماكن يضعون فيها المصابيح، والآن يجعلونها في السقف، وهذه المشكاة فيها مصباح، وهذا المصباح في داخل زجاجة، وهذا المصباح يوقد بزيت من نوع جيد عال رفيع، من قوته يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، وهذا المصباح من بهائه وشفافيته وصفائه كأنه كوكب دري.

والله عز وجل ضرب هذا المثل لنور الإيمان في قلب المؤمن؛ لأن كل إنسان عنده هذا النور بحسب إيمانه، فبعض الناس نور الإيمان في قلبه كضوء الشمس لا يصادف شبهة إلا أحرقها، وبعض الناس ضوء الإيمان في قلبه كالمصباح المضيء، وبعض الناس نور الإيمان في قلبه كالسراج الخافت، وبعضهم نور الإيمان في قلبه كالشمعة التي إذا هبت الريح فربما تطفئها.

قال الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، كما قال في آية أخرى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].

هذه السورة المباركة مدنية بإجماع أهل التفسير، وعدد آياتها أربع وستون آية، وكلماتها ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة.

هذه السورة المباركة معنية بالتشريعات المتعلقة بالآداب في داخل الأسرة الواحدة وفي محيط مجتمع المؤمنين، ذكر الله عز وجل في أولها تلك الافتتاحية العظيمة: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا[النور:1]، أي: لستم أيها المسلمون! مخيرين في أن تعملوا بها أو تهملوها؛ بل هي فرض من الله عز وجل، وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

ثم ذكر جل جلاله عدة تشريعات: حد الزنا وتحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني، ثم حد القذف، ثم أحكام اللعان بين الزوجين.

ثم عرج النص القرآني المبارك على ذكر قصة الإفك التي آلمت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بعدما نزلت براءة أمنا رضي الله عنها من فوق سبع سماوات تركت في القلوب جراحاً تنزف؛ لأن عرض عائشة قد تكلم فيه بعض المؤمنين بحسن نية، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول قال الله عز وجل: لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، أي في الآخرة.

ثم السورة المباركة تتكلم عن آداب الاستئذان، فلو أن الإنسان زار أخاه؛ فإن الله عز وجل أوجب عليه قبل أن يدخل أن يستأذن، ولا يدخل إلا بعدما يحل الإذن، وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[النور:28].

ثم بين ربنا أحكام الحجاب والاطلاع على النساء، ومن هم الاثنا عشر صنفاً الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم.

ثم ذكر ربنا جل جلاله أحوال المنافقين، وأنهم عن حكم الله معرضون. ثم ختمت السورة ببيان آداب الاستئذان في محيط البيت الواحد، والتي ينبغي أن نعلم أولادنا -كباراً وصغاراً- ألا يدخلوا إلا بعدما يستأذنوا، وذلك في أوقات ثلاثة:

مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]؛ لأنها أوقات عورات، والناس فيها يتكشفون.

ثم ذكر ربنا جل جلاله آداب الأكل، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً[النور:61].

قد يسأل سائل فيقول: ما علاقة نور الله عز وجل بهذه التشريعات؟ ما العلاقة في أن يقول ربنا جل جلاله في وسط السورة: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[النور:35]؟

والجواب: أن هذه التشريعات كلها من أنوار الله عز وجل، تضيء لنا حياتنا وتسهل عيشنا وتطيب دنيانا، كما أن الإعراض عنها ظلمات بعضها فوق بعض، وهذا هو الحاصل في حياة كثير من الناس اليوم حين أعرضوا عن هذه التشريعات، فصارت حياتهم جحيماً لا يطاق.

والسورة تدلنا على أن هناك رباطاً وثيقاً بين العقيدة والشريعة، ولذلك الله عز وجل بين أن المؤمنين حقاً هم الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا! بينما المنافقون، إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون.

وهذه السورة -سورة النور- لا تزال شجاً في حلوق المنافقين، يكرهونها ويكرهون ما فيها من تشريعات، ويحكمون بأنها من مخلفات القرون البائدة والعصور الداثرة، وأن الحجاب وغض البصر وحرمة الزنا، ومثل هذه الآداب كلها ينبغي للناس أن يجعلوها وراءهم ظهرياً؛ من أجل أن ينطلقوا نحو الحضارة زعموا!

وقد رأينا أيها الإخوان نتاج هذه الحضارة التي يعظمونها فيما أصاب حياة الناس من ضنك وضيق، حتى صارت المرأة سلعة تباع وتشترى، وحتى ذهب الحياء من الناس وكثر اللقطاء وأولاد السفاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

المؤمن حقاً هو الذي يقبل حكم الله كله، مثلما قبل حكم الله في الصلاة والصيام والحج، كذلك يقبل حكم الله عز وجل فيما يتعلق بالتشريعات الاجتماعية والآداب الإنسانية والمعاملات المالية، ولا يتخذ القرآن عضين.

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين.