تأملات في سور القرآن - الواقعة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تخيرت للحديث في هذا الدرس سورة الواقعة، التي يحفظها كثير من الناس.

وبادئ ذي بدء، لا بد أن أقرر ما ذكره علماؤنا من أن الحديث الوارد في أن سورة الواقعة تنفي الفقر، وأن قارئها لا يفتقر، فأقول: إن هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه السورة المباركة، البالغة آياتها ستاً وتسعين آية، هي من أولها إلى آخرها في تقرير حقيقة البعث وما يتصل به. وسميت بالواقعة التي هي اسم من أسماء القيامة، كالقارعة والحاقة والساعة والطامة والصاخة، وغير ذلك من الأسماء.

يقول الله عز وجل: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2]، كان هناك من يكذب بالبعث، ويعد البعث خرافة، كما قال الله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوت[النحل:38]، وكانوا يتهكمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون له: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، أي: إذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً، فكانوا يسخرون من هذه القصة، لكن يوم القيامة إذا رأى المجرمون النار رأي عين، وظنوا، أي: أيقنوا أنهم مواقعوها، هناك لا مجال للتكذيب، قال الله عز وجل: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14].

قال الله عز وجل: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3]، هذه الساعة، هذه القيامة، تخفض من كان في الدنيا رفيعاً، وترفع من كان في الدنيا مغموراً خفيضاً لا يؤبه له، ولا ينظر إليه ولا يهتم بشأنه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، ورب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ).

فالقيامة خافضة رافعة، هناك تظهر الأمور على حقائقها، هذه الزخارف التي كانت في الدنيا تستر جهل الجاهلين ونفاق المنافقين ومروق المارقين، أما يوم القيامة فستكون بادية مكشوفة، وسينادي المجرمون بصوت عال حين يرون جرائمهم وسيئاتهم، يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

ثم ذكر ربنا جل جلاله بعض أهوال القيامة، حين تدك الأرض دكاً، وتبس الجبال بساً، أي: تصير تراباً مبسوساً، والبسيس في لغة العرب دقيق ملتوت بسمن سرعان ما يتفتت، يعني: البسيسة غير البسبوسة! فالبسبوسة متماسكة وقوية، أما البسيسة هذه يعرفها صناع الحلويات، سرعان ما تتفتت، فهذه الجبال يوم القيامة ستكون مثل ذلك البسيس، وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً [الواقعة:5-6].

ثم ذكر ربنا جل جلاله انقسام الناس إلى فرق ثلاثة: هناك السابقون المقدمون، الذين هم في أعلى عليين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم تليهم طائفة دونها وهم أصحاب اليمين الذين نجوا، ثم بعد ذلك الأشقياء الخاسرون أصحاب الشمال.

وبين ربنا جل جلاله ما فيه أهل الجنة من النعيم، قال الله عز وجل: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، يقول المفسرون: ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ [الواقعة:13]، أي من الأمم المتقدمة، أتباع الأنبياء الأولين، وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:14]، أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الأمة قليل عددها بالنسبة للأمم السابقة، لكن الذي يظهر والعلم عند الله تعالى أن الثلة من الأولين والقليل من الآخرين كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الثلة من الأولين فهم الذين أكرمهم الله بصحبة نبينا عليه الصلاة والسلام، فكانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلها تكلفاً، وكذلك أهل القرون المفضلة، التابعون لهم بإحسان.

وأما قوله: وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ [الواقعة:14]، فهم ممن استمسكوا بدينهم وعضوا عليه وصبروا على لأوائه في زمان الصابر على دينه كالقابض على الجمر، وهم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: الغرباء، ( الذين يصلحون ما أفسد الناس).

اتكاء أهل الجنة وأنسهم

كذلك يصف ربنا جل جلاله نعيم هؤلاء، نسأل الله أن يجعلنا منهم، فيقول: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [الواقعة:15]، السرر جمع سرير، والموضونة أي: المنسوجة من فاخر المعادن ونفيسها.

ثم قال: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:16]، أهل الجنة في حالة استرخاء، وفي حالة أنس، كما قال الله عز وجل: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً [الفرقان:24]، يأنس بعضهم ببعض في الجنة.

وقد حكى ربنا جل جلاله طرفاً من أحاديثهم في الجنة، منها قول قائلهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، يعني: كنا في الدنيا أهل إشفاق، أي: أهل صلاة وصيام وقيام وصدقة وحج وعمرة وبر وإحسان وجهاد ووقوف عند محارم الله عز وجل، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].

وكما حكى الله عن شخص آخر من أهل الجنة يتحدث مع أصحابه، فيقول لهم: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:51-53]، يعني: يحكي عن ملحد من ملاحدة الدنيا كان يسخر منه، يقول له: هل تصدق أننا بعدما نموت ونصير عظاماً، وتصير العظام تراباً، بعد ذلك سنبعث للجزاء والحساب، هذا كلام ليس له أساس من الصحة، هكذا كان يقول له، فيناديهم مناد: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54]، فيطلعون من كوى في الجنة، (من كوى) أي: شبابيك، فيجدون أهل النار يعذبون والعياذ بالله!

وهذا الذي يحكي هذا الكلام يجد الملحد يتقلب في دركات الجحيم، فيقول له: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56]، يعني: كنت ستردي بي في دركات الجحيم، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57]، يعني: لولا أن الله هداني وثبت قلبي وهدى فؤادي لكنت محضراً معك في هذه النار.

طواف الولدان المخلدون على أهل الجنة بأنواع الأشربة

قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة:17]، هؤلاء الولدان شباب لا يعتريهم هرم، وهم كما وصفهم ربنا في سورة الإنسان: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً [الإنسان:19]، هم في جمال اللؤلؤ وبهائه، ليس لؤلؤاً منظوماً، بل لؤلؤ منثور، قالوا: والمنثور أجمل من المنظوم المعقود.

ثم قال: بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:18]، هذه الكأس التي فيها الخمر، يعني هم يشربون من أنهار اللبن الذي لم يتغير طعمه، والماء غير الآسن، ويشربون من العسل المصفى، ويشربون كذلك من خمر لذة للشاربين.

قال الله عز وجل: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، يعني: ليس في خمر الجنة هذه المائدة التي تؤدي إلى نزف العقل، ونزف العقل هو الهذيان والتخليط، كما تصنع خمر الدنيا بأهلها، قالوا: ليس في خمر الجنة شيء مما في خمر الدنيا، من مغص البطن ووجع الرأس ونتن الريح وقبح الفعل، أبداً، خمر الجنة ليس فيها شيء من ذلك، هؤلاء الولدان يطوفون عليهم بكأس من معين.

تنعم أهل الجنة بالسدر والطلح وأنواع الفواكه المستمرة

وبعد ذلك يذكر ربنا جل جلاله شيئاً آخر من نعيمه: بأنهم فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة:28]، والسدر الشجر المعروف الذي ينبت النبق، وليس نبق الجنة كنبق الدنيا، بل كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نبق الجنة: بأنها كقلال هجر، يعني النبقة الواحدة في حجم قلة من قلال هجر، وهجر قرية من قرى البحرين كانت معروفة بصناعة القلال.

هذا السدر في الدنيا شجره له شوك يؤذي، أما في الجنة فإن هذا الشوك قد خضد وكف آذاه.

ثم قال: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29]، الطلح هو الموز، (المنضود) نضد بعضه فوق بعض، ولا يخطر ببالنا إذا سمعنا هذه الآيات أن سدر الجنة أو موز الجنة كالذي في الدنيا، بل هو كما قال ابن عباس : والله! ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. الأسماء فقط مشتركة.

وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]، هذا الظل كما قال الله عز وجل: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا[الرعد:35]، الشمس ما تعدو عليه.

وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31]، هذا الماء المسكوب والله أعلم! إما أن يكون الجاري من تحت الأقدام في الجنة، وإما أن يكون المتفجر على هيئة النوافير التي نراها في هذه الدنيا.

وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:32-33]، فاكهة الدنيا ربما تكون فاكهة في الشتاء لا تجدها في الصيف، وأخرى في الصيف لا تجدها في الشتاء، أما فاكهة الجنة فليست مقطوعة ولا ممنوعة.

نساء أهل الجنة

ثم قال الله عز وجل: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]، أي نساء الجنة، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:36-37]، (أبكاراً) جمع بكر، (عرباً) جمع عروب، وهي المتعشقة المتحببة، التي تغني لزوجها، ويقلن: (نحن الخالدات فلا نموت، نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الصحيحات فلا نسقم، طوبى لمن كنا له وكان لنا)، هكذا يغنين لأزواجهن في الجنة، عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37]، (أتراباً) أي في سن واحدة.

ونساء الجنة على نوعين:

النوع الأول: نساء الدنيا، اللائي أدخلهن الله عز وجل الجنة، فأنشأهن خلقاً جديداً، على أحسن ما يكون وأكمله، لا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن ولا يمتخطن ولا يبلن ولا يتغوطن، ولا يعتريهن شيء من أدناس الدنيا أبداً في الجنة.

والنوع الثاني: الحور العين، وقد سألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ( يا رسول الله! أخبرني عن قوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة:22]، قال: (حور) بيض، (عين) واسعات العيون شديدات سوادها، شديدات بياضها، شفر الحورية منهن بمنزلة جناح النسر، قالت: فأخبرني عن قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، قال: رقتهن كرقة القشرة مما يلي البيضة، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، فهن بيض الوجوه، خضر الثياب، صفر الحلي، يدخل المؤمن على الواحدة منهن في خيمة مجوفة من لؤلؤ على سرير من ذهب، كلما أتاها وجدها بكراً، تقول له: والله ما في الجنة شيء أطيب ولا أحسن منك، فسألت أم سلمة قالت: يا رسول الله! نساء الدنيا أفضل، أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل، قالت: بم؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وصدقتهن )، يعني نساء الدنيا تعبن، صلين وصمن وتصدقن وأحسن وأطعن أزواجهن وربين ووقفن عند حدود الله، ولم يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، أطعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من أنواع الصالحات، أما الحور العين، فقد أنشأهن الله إنشاء؛ ولذلك نساء الدنيا أفضل من الحور العين.

ثم ذكر ربنا جل جلاله في هذه السورة خمسة أدلة على أن البعث حق، لو تأملتموها وجدتموها.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم. والحمد لله رب العالمين.