تأملات في سور القرآن - يس


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

إن سورة يس سورة مكية، وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية، وفيها من الحروف ثلاثة آلاف حرف، أي: لقارئها إن شاء الله ثلاثون ألف حسنة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم، وأنا أذكر هذا الكلام لأنني أعلم أن لهذه السورة المباركة مكانة عظيمة في نفوس كثير من الناس، بل كثير من الناس يحفظها؛ ولذلك إذا أخطأ الإمام فالمسجد كله يرد عليه.

وهذه السورة المباركة بينها وبين سورة فاطر أوجه من الشبه:

ففي سورة فاطر قال الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ[فاطر:37]، وقال الله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ[فاطر:42]، وفي أول هذه السورة بين الله عز وجل مجيء النذير، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب المعجز، الخالد، الذي هو القرآن الكريم.

وبالمناسبة أيضاً كثير من الناس يعتقدون أن (يس) اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، لكن (يس وطه) ليسا اسمين للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هما من الحروف المقطعة، ما قال الله عز وجل: حم [غافر:1]، وكما قال: طس [النمل:1]، فكذلك، قال: يس [يس:1]، وقال: طه [طه:1]، أما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيح، فمنها ما في صحيح البخاري ، قال عليه الصلاة والسلام: ( أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على إثري، وأنا العاقب فلا نبي بعدي )، فهذه من أسمائه، وليس من أسمائه (يــس) ولا (طــه).

الوجه الثاني من أوجه الشبه: أن في سورة فاطر ذكر الله عز وجل أهل الجنة: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر:33]، وفي سورة يس قال: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، وفي سورة فاطر قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا[فاطر:36]، وهنا قال: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:63-65].

وكثير من الناس حريص على قراءة هذه السورة المباركة يومياً، وقد ورد في سنن الترمذي حديث مروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يــس )، وهذا الحديث، قال الإمام الترمذي رحمه الله: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن عن قتادة، و هارون أبو محمد شيخ مجهول.

وفي مسند الإمام أحمد كذلك حديث معقل بن يسار رضي الله عنه: ( اقرءوها على موتاكم )، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وإسناده جيد، قال: قال علماؤنا: لا تقرأ سورة يــس عند أمر عسير إلا يسره الله، قال: ومناسبة قراءتها على الميت أنها تخفف عنه وتسهل خروج روحه، ولما فيها من البشارة، كقول الله عز وجل: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وهذه السورة المباركة فيها مقدمة وثلاثة فصول، المقدمة فيها: التنويه بشأن القرآن وأن هذا القرآن المبارك قد انقسم الناس فيه إلى فريقين:

فريق مؤيد، مذعن قد أحيا الله قلبه بنور القرآن، وفريق آخر هم في الضلالة يعمهون، كما قال الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس:8]، (مقمحون) جمع مقمح، وهو من جعل القيد تحت ذقنه فارتفع رأسه فلا ينظر إلى ما حول، فرأسه مرفوع رغم أنفه، قال الله عز وجل: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:9-10]، فهدايات القرآن لا تؤثر عليهم بحال، نسأل الله العافية!

ثم بعد ذلك خاطب الله عز وجل هؤلاء المكذبين في الفصول الثلاثة الواردة في هذه السورة، فالفصل الأول فصل تاريخي، ضرب الله له مثلاً بأصحاب قرية، الله أعلم أي قرية كانت، كذبوا المرسلين وعاندوهم وقالوا: إنا تطيرنا، أي: تشاءمنا بكم، لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، كما قال قوم صالح لــصالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ[النمل:47]، وكما قال قوم فرعون لـموسى عليه السلام: تطيرنا بك وبمن معك، فهذه هي سنة الطغاة في كل زمان ومكان.

وقد بين الله عز وجل عاقبة هؤلاء وأنه جل جلاله استنقذ من بينهم الرجل المؤمن، ولم تذكر السورة أقتل أم مات، لكن السورة تذكر بأنه لما قدم على ربه ورأى ما أعد الله له في الجنة قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، والله جل جلاله لما أراد إهلاك قومه، ما احتاج إلى أن ينزل ملائكة ولا احتاج جل جلاله أن يرسل عليهم طيراً، وإنما قال سبحانه: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ[يس:29-30]، فالله جل جلاله يأخذ من كفر أخذ عزيز مقتدر، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

ثم الفصل الثاني في بيان آيات الله في الكون: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا[يس:33]، وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ[يس:37]، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، فالله عز وجل يذكر هذه الآيات التي نراها رأي عين، فهذه الأرض نعطيها أسوأ ما عندنا، فضلاتنا، وتخرج لنا أحسن ما عندها، من الثمرات والطيبات والفواكه والأزهار، والناس لا ينتبهون، ثم بعد ذلك ذكر الله عز وجل الآيات في الفضاء العلوي، وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:37-39]، وهذا كله يسير في نظام متسق: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40].

ثم جاء الفصل الثالث والأخير في الحديث عن البعث والجزاء، والموت يأتي بغتة، فقد تجد الإنسان قوياً، فتياً، يأكل ويشرب، ويضحك ويلعب، ثم ما بين طرفة عين وانتباهتها إذا هو جثة هامدة، كذلك القيامة تأتي بغتة، كما قال الله تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ[النحل:77]، قال هناك: (كلمح البصر أو هو أقرب)، وهاهنا الله عز وجل قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ[يس:51]، أي: من القبور، إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51].

ثم بعد ذلك يستغربون! قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا[يس:52]، ثم رجعوا فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:52-53]، وبين لنا أن الناس فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

ثم ختمت السورة ببيان حال بعض الجاحدين، أبي بن خلف أو العاص بن وائل وكلاهما عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ( فقد جاء بعظام نخرة بالية ثم فتها بين أصابعه ونفخ فيها وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحييها بعدما صارت رميماً؟! قال: نعم، يحييها، ويبعثك، ويدخلك النار )، كما قال في سورة مريم: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً [مريم:66-67]، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا[يس:78-79]، ما قال: يحييها الله؛ لأنه لا يؤمن بالله، وما قال: قل يحييها رب العالمين، وإنما قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ[يس:79]، فإن هذه لا يجحدها عاقل، لا يجحد أن هناك منشئ أول جل جلاله، وأن هناك من أوجد من العدم، يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً[يس:79-80]، فالشجر الأخضر، الذي يسقى بالماء يشتعل ناراً، ونحن معشر بني آدم نستنشق الأكسجين، ونخرج ثاني أكسيد الكربون، وجعل الله دورة النبات على العكس، فالنبات يأخذ ثاني أكسيد الكربون ويطرد الأكسجين، ثم بعد ذلك يختزن هذا الغاز في عروقه، وفي جذوره، وفي سوقه، ثم يخرج هذه الفوائد الجمة.

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ[يس:81]، يعني: يا من شككت في البعث والنشور، انظر خلقك أكبر أم خلق السموات والأرض؟ قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:81-83].

أسأل الله التوفيق والسداد، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.