تأملات في سور القرآن - الشورى


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

سورة الشورى سورة مكية، ومقصودها: التنويه بالوحي الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك افتتحت السورة بذكره وختمت بذكره، يقول الله عز وجل: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى:3]، ثم يقول بعدها: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ[الشورى:7]، ثم في خاتمة السورة يبين ربنا جل جلاله كيفية الوحي، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:51-52]، فالله عز وجل يسمي القرآن: روحاً، ويسميه: نوراً، ويبين مصدره أنه من عنده جل جلاله منزل، كما قال في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].

هذه السورة تبين أن أصل الدين واحد، قائم على التوحيد؛ قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بـعيسى ، ليس بيني وبينه نبي ).

فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ما اختلفوا قط في أصل الدين، بل كلهم دعا إلى التوحيد، وإلى إفراد الله جل جلاله بالعبادة وحده، وأن الكون ليس فيه إلا معبود واحد، وكل ما سواه عبد؛ قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93]، فليس هناك أحد من الناس فيه ألوهية أو جزء من ألوهية، بل كلهم عبيد، كما سيأتي في سورة الزخرف قول ربنا جل جلاله عن المسيح الذي ادعى بعض الناس أنه إله أو أنه ثلث إله، قال الله عز وجل: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59]، وفي سورة المائدة قال سبحانه: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ[المائدة:75]، فإذا كان هو وأمه يأكلان الطعام فكلاهما بشر يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من التخلص من فضلة الطعام؛ ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله مخاطباً النصارى:

أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه

إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله؟!

ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه!

أقام لديه تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه

وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه

ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله؟!

يعني إذا كان يأكل ويشرب ويرضع من ثدي أمه، ثم يأتي بلازم ذاك من إخراج الفضلة، كيف يكون هذا إلهاً؟!

وإذا كان أعداؤه قد تمكنوا منه فصلبوه ووضعوا إكليل الشوك على رأسه، كما يدعي النصارى ولطخوه بالأقذار، فكيف يكون هذا إلهاً؟! مستحيل أن يكون هذا إلهاً؟!

فهذه السورة المباركة تبين هذه الحقيقة.

ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن الجاحدين والمكذبين والمارقين، قال تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ[الشورى:15]، أي: جنس الكتاب، فكما نؤمن بالقرآن نؤمن بالتوراة، ونؤمن بالإنجيل، ونؤمن بالزبور، ونؤمن بسائر الكتب والصحف التي نزلت على أنبياء الله ما علمنا منها وما لم نعلم: قال تعالى: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [الشورى:15].

ثم بين ربنا جل جلاله أن سنة الاستئصال ماضية في المكذبين والجاحدين، ولا تنجو أمة من الأمم من ذلك العذاب إلا بصفات تسع، بينها ربنا جل جلاله، فقال: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:36-39]، فلو تأملنا في هذه الصفات التسع فسنجد أنها قد تناولت جانب العقيدة، وهي الناحية القلبية التي ينطوي عليها قلب ابن آدم، ثم تناولت جانب العبادة، ثم تناولت جانب الأخلاق والسلوك والاقتصاد والسياسة، وكلها مضمنة في هذه الصفات التسع.

سميت السورة باسم الشورى؛ لأن الله عز وجل قال فيها في مدح نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38]، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ( ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهو النبي، وهو الرسول، وهو المعصوم، وهو المؤيد بالوحي، وهو أصوب الناس رأياً وأكملهم عقلاً، وأوفرهم حلماً وأتمهم كمالاً صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كان يستشير أصحابه في كل شيء؛ ولذلك في المسائل الحربية، في قصة بدر أقر خبر الحباب بن المنذر ، وفي يوم الخندق أقر خبر سلمان ، وفي يوم أحد استشار أصحابه أيخرج للقاء المشركين خارج المدينة أم يبقى داخلها؟ واستشارهم في أسرى بدر، ثم بعد ذلك في المسائل السياسية، هل يؤمر القعقاع بن عمرو أم يؤمر الأقرع بن حابس ؟ بل أكثر من ذلك، حتى في الأمور الشخصية، كأمور اللباس مثلاً: ( يقول له أبو بكر و عمر رضي الله عنهما: يا رسول الله! لو اتخذت حلة تتجمل بها للوفود )، يعني اجعل لك لباساً خاصاً تلقى به من يأتي من الوفود، فما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: هذا شأن خاص، لا تتدخلا فيه، أو قال لهم: كل امرئ يلبس ما يحب، لا وإنما قال لهما: ( لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما )، يعني: أنتما الاثنين لو اتفقتم على شيء أنا معكم، مع أنه صلى الله عليه وسلم بشر لا كالبشر، ونبي لا كالأنبياء عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول لصاحبيه، بل لتلميذيه رضي الله عنهما، يقول لهما هذا الكلام: ( لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما فيه ).

الشورى تكون حتى في داخل الأسرة، قال الله عز وجل وهو يتكلم عن شأن الرضاع: فَإِنْ أَرَادَا))، أي: الأب والأم، فِصَالاً))، أي: فطاماً للصغير، عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا[البقرة:233]، حتى في مسألة الفطام، فالأب والأم يحصل بينهما شورى، هل نفطم الصغير أو لا نفطمه؟ ولذلك ما شاع على ألسنة الناس من حديث موضوع مكذوب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( شاوروهن وخالفوهن )، هذا كلام فارغ، ما قاله عليه الصلاة والسلام، بل هو صلى الله عليه وسلم كان يستشير أزواجه أحياناً، كما حصل مع أم سلمة رضي الله عنها في يوم الحديبية.

وأسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تأملات في سور القرآن - هود 2441 استماع
تأملات في سور القرآن - يس 2204 استماع
تأملات في سور القرآن - النور 2105 استماع
تأملات في سور القرآن - المائدة 2009 استماع
تأملات في سور القرآن - الحج 1870 استماع
تأملات في سور القرآن - النساء 1781 استماع
تأملات في سور القرآن - الواقعة 1762 استماع
تأملات في سور القرآن - غافر 1665 استماع
تأملات في سور القرآن - المجادلة 1657 استماع
تأملات في سور القرآن - يونس 1526 استماع