تأملات في سور القرآن - غافر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

في هذه السورة المباركة (سورة غافر) يعرض الله عز وجل خبر موسى عليه السلام مع طواغيت البشر فرعون و هامان و قارون ، وكلهم صد عن سبيل الله وعصى أمر الله، وادعى لنفسه ما ليس له.

أما فرعون فقد قال: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، وأما قارون فإنه قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، وأما هامان فقد كان وزير فرعون المؤتمر بأمره، وكان أكبر عوناً له على الفساد والإلحاد؛ ولذلك نقرأ في هذه السورة قول الله عز وجل: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً[غافر:36-37]، وهناك في سورة القصص: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ [القصص:38].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ثلاث كلمات ما ينبغي للعبد أن يكثر منها: كلمة أنا، ولي، وعندي، أما (أنا) فقد قالها إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]؛ ولذلك الإنسان لا ينبغي أن يكثر من أنا، أنا، أنا.

وبعض الناس والعياذ بالله مبتلى! يكثر من كلمة أنا، يقول لك: أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا! ثم بعد قليل، مرة أخرى يقول: أنا! فما فائدة قولك: أعوذ بالله إذا كنت تكثر من قول أنا وتعيش فيها، وتصبح وتمسي.

ثم الكلمة الثانية، وهي كلمة (لي)، وهي كلمة فرعون، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51]، قاتله الله! كأن هذه الأنهار هو الذي أجراها، وهو الذي شقها، وهو الذي أوجدها.

وكلمة (عندي) قالها قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78].

والمسلم عليه أن يستخدم هذه الكلمات فيما يليق: أنا المذنب، أنا المخطئ، أنا المقصر، ولي الذنب ولي الخطيئة ولي التقصير، عندي ذنب، عندي خطيئة، ونحو ذلك من الكلمات التي يتهم بها نفسه، ولا يتأله على الله عز وجل.

الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر

ثم في ختام القصة بين الله عز وجل مصير هذا الكذاب ومن معه فقال سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، قال المفسرون: هذه الآية أصل في إثبات عذاب القبر بأنه حق؛ لأن الله عز وجل قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً[غافر:46]، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وفي قراءة: ادخلوا آل فرعون أشد العذاب، إذاً النار التي كانوا يعرضون عليها غدواً وعشياً هي غير النار التي يعذبون بها يوم القيامة.

ومثل هذه الآية: قول ربنا جل جلاله في سورة السجدة: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]، حيث فسر ابن عباس العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر.

وكذلك في سورة الأنعام، يقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، فقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ))، أي: اليوم يوم قبض الروح.

ومثلها في الأنفال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50]، يعني رحلة العذاب للكافر -نسأل الله العافية!- وللفاجر تبدأ من لحظة قبض الروح.

العذاب الحسي والمعنوي في القبر

وهذا العذاب عذاب نفسي وعذاب حسي، أما العذاب النفسي فيتمثل في الكلام الشديد، الذي توجهه الملائكة لهذا الكافر، أو لذاك الفاجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد الفاجر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة من السماء سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار، فيجلسون منه مد البصر، ويجلس ملك الموت عند رأسه، يقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب )، هذا هو العذاب النفسي، قال: ( فتتفرق روحه في جسده، فينتزعونها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول )، لو أن عصاة فيها دهن التصقت بصوف -ببطانية مثلاً- فإن هذه العصا لا تنتزع إلا بعنف وشدة، وتأخذ معها بعض ذلك الصوف، قال: ( فيجعلونها في ذلك الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق دونها أبواب السماء، وتلا قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ[الأعراف:40-41] -أي: فراش- وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] -أي: أغطية- وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، فإذا وضع في قبره وتولى عنه مشيعوه وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه وينتهرانه ويسألانه: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولون له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري؟ فيقولون له: ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي؛ فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار؛ فيأتيه من حرها وسمومها فيقول: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة، ويضرب بمرزبة من حديد، لو ضربت بها جبال الدنيا لصارت تراباً، فيصيح صيحة يسمعها من في السموات ومن في الأرض إلا الثقلين )، أي: إلا الجن والإنس.

اختلاف أحوال أهل القبور

كان سيدنا علي رضي الله عنه إذا مر بالمقابر، قال: ما أسكن ظواهرك، وفي دواخلك الدواهي! الآن نمر على المقابر ظاهرها ساكن، كلها سواء، لكنها والله! ليست سواء، بل بعضهم في روضة من رياض الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم، وبعضهم في حفرة من حفر النيران، بعضهم منعم في حال طيبة، وعيشة ناعمة، تمر عليه فترة البرزخ كصلاة ظهر أو صلاة عصر، وبعضهم -والعياذ بالله- يعاني في أسفل سافلين، في دركات الجحيم، وهذا أصل من أصول الإيمان.

فإيمانك باليوم الآخر يدخل فيه الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، ونعتقد أن الإنسان في عالم البرزخ، إما أن يكون منعماً وإما أن يكون معذباً.

أسأل الله أن يختم لنا بالحسنى، والحمد لله رب العالمين.