أرشيف المقالات

رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في إجبار البنت على الزواج وزواج الصغيرة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في إجبار البنت على الزواج وزواج الصغيرة
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقد جمعت كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله من كتبه في حكم إجبار البنت على الزواج، وزواج الصغيرة؛ لأهمية رأي الشيخ فيها، ولأهمية هذه المسألة، وأحببتُ نشرَه ليسهُلَ للباحثين وطلبة العلم الرجوع إليه متى ما أرادوا:
أولًا: اتفق العلماء على أن رضا الزوجين شرط من شروط الزواج، وأن المرأة المجبرة على الزواج لا يصح نكاحها.

ثانيًا: اختلف الفقهاء في حكم إجبار الأب لابنته البكر على الزواج، والصواب أنه لا يجوز إجبارها على الزواج؛ قال ابن عثيمين: "فأي امرأة أُجبرت على النكاح فنكاحها فاسدٌ، سواء أجبرها أخوها، أو عمها، أو أبوها، أو جدها، ليس لأحد أن يجبر امرأة على نكاح من لا ترغب"[1].

وقال: "ولا يحل أن تُجبَرَ المرأة على التزوج بمن لا تريد، سواء كان المجبِرُ أباها أم غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنكَح البكر حتى تُسْتَأذن، ولا تُنكَح الأيم حتى تُسْتَأمر))، وفي صحيح مسلم قال: ((البكر يستأذنها أبوها))، فنصَّ على البكر ونص على الأب"[2].

ثالثًا: إن كانت البنت دون البلوغ، فلا يجوز أن تزوج حتى تبلغ، وإذا بلغت يجب على وليِّها أن يستأذنها وأن يزوجها برضاها؛ قال ابن عثيمين: "وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين: لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبدًا ...
وهذا القول هو الصواب، أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت، فلا يزوجها حتى ترضى"[3].

رابعًا: إن نكاح المجبرة باطل، ولو أخذت شابًّا قريبًا من عمرها، فكيف بمن يزوج الصغيرة بمن تجاوز الستين؟ قال ابن عثيمين: "إذا كانت المرأة مغصوبة، وقدر أن لها عشرين سنةً، وغُصبت على الزواج من رجل له إحدى وعشرون سنةً، فإن النكاح باطل، غير صحيح، وفاسدٌ، فكيف إذا كانت هي صغيرة، وهذا الرجل له فوق الستين سنة؟ فالنكاح من باب أولى أن يكون فاسدًا"[4].
 
وقال: "إكراه بعض الآباء لبناتهم على أن يتزوجن بمن لا يُرِدْنَ هذا محرم عليهم، والنكاح ليس بصحيح، ويجب التفريق بين المرأة وبين زوجها"[5].

خامسًا: يكثر الاستدلال بزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشةَ رضي الله عنها وهي صغيرة، وهذا استدلال ضعيف، وقياس غير صحيح؛ قال ابن عثيمين رحمه الله: "ودليلهم أن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، زوَّجها أبوها النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وبنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات، فنقول لهم: هذا دليل صحيح ثابت، لكن استدلالكم به غير صحيح، فهل علمتم أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها، وأبَتْ؟!

الجواب: ما علمنا ذلك، بل إننا نعلم علم اليقين أن عائشة رضي الله عنها لو استأذنها أبوها لم تمتنع، والنبي عليه الصلاة والسلام خيَّرها مثل ما أمره الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28]؛ أي: بلطف وحسن معاملة، وشيء من المال، ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 29]، فأولُّ من بدأ بها عائشة رضي الله عنها، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ((استأمري أبويك في هذا وشاوريهم، فقالت: يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبويَّ؟! إني أريد الله والدار الآخرة))، فمن هذه حالها لو اسْتُؤْذِنت لأول مرة أن تتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل تقول: لا؟! يقينًا لا، وهذا مثل الشمس، فهل في هذا الحديث دليل لهم؟! ليس فيه دليل"[6].

وقال: "وما ذهب إليه بعض العلماء من جواز إجبار الرجل ابنته على الزواج، مستدلين بحديث عائشة حين زوجها أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس لها إلا ست سنين؛ فقولهم ضعيف واستدلالهم باطل؛ لأن أبا بكر زوَّج عائشة رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهل يعقل أن عائشة تمانع في هذا؟ أبدًا، هو يعلم علم اليقين أنها تفرح بهذا؛ ولهذا لما نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]، فالرسول خيَّر النساء: إن كنتن تحببن الدنيا وزينتها، فأنا أسرحكن سراحًا جميلًا، وإن كنتن تردن الله ورسوله، فلكُنَّ الله ورسوله، وبدأ بعائشة، عائشة البكر الصغيرة، خيَّرها وخاف أن يدركها الشباب؛ وقال لها: ((ما عليك أن تستأمري أبويك))؛ أي: شاوري أبويك، خاف أن تتعجل وتقول: أريد الدنيا؛ لأنها صغيرة، قالت: ((يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبويَّ أن أُخيَّر بين الله ورسوله وبين الدنيا، أفي هذا أستأمر أبوي؟ أريد الله ورسوله))، سبحان الله! هل يعقل أن مثل هذه إذا زوَّجها أبوها بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمانع؟ لا تمانع، إذًا الاستدلال بهذا الحديث خطأ وغلط، لكن أروني بِكرًا أقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نكاحها وهي كارهة، لا تجدون هذا"[7].

وقال: "وأما تجويز بعض أهل العلم للأب أن يزوج ابنته بدون رضاها، فإنه قول ضعيف، ولا دليل عليه، لا من أثر ولا من نظر، وأما الاستدلال بتزويج أبي بكر رضي الله عنه لابنته عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قياس بعيد؛ لأننا لا نجد رجلًا كأبي بكر رضي الله عنه في الثقة والأمانة في تزويج ابنته، ولا نجد زوجًا كرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إننا نعلم علم اليقين أن عائشة رضي الله عنها سترضى به؛ ولهذا لما أمر الله نبيه أن يخيِّر زوجاته بالبقاء معه أو بتسريحهن، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وخيَّرها؛ وقال لها: ((ليس عليك أن تستأمري أبويك – أي: ليس عليك بأس أن تشاوريهم – فقالت: يا رسول الله، أفي هذا أستأمر أبويَّ، إني أختار الله ورسوله))، فالذي يقيس الآباء في هذا الزمان على أبي بكر رضي الله عنه في تزويجه عائشةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاس قياسًا ليس بصحيح؛ لأن القياس لا بد فيه من تساوي الأصل والفرع في العلة، والتساوي هنا ممتنع"[8].

وقال: "نحن نوافقكم إذا جئتم بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل عائشة رضي الله عنها، وهل يمكن أن يأتوا بذلك؟! لا يمكن، إذًا نقول: سبحان الله العظيم، كيف نأخذ بهذا الدليل الذي ليس بدليل؟!"[9].

سادسًا: ذكر ابن عثيمين بعض الأدلة التي تُوجِب رضا المرأة بالزواج؛ فقال: "وعندنا دليل من القرآن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء: 19]، وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل عن امرأة، تزوجها ابن عمه غصبًا عليها، ودليل صريح صحيح من السنة، وهو عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تُنكَح البكر حتى تُسْتَأْذن))، وخصوص قوله: ((والبكر يستأذنها أبوها))، فإذا قلنا: لأبيها أن يجبرها، صار الاستئذان لا فائدة منه، فأي فائدة في أن نقول: هل ترغبين أن نزوجك بهذا، وتقول: لا أرضى، هذا رجل فاسق، أو رجل كفء، لكن لا أريده، فيقال: تُجْبَر؟! هذا خلاف النص، وأما النظر فإذا كان الأب لا يملك أن يبيع خاتمًا من حديد لابنته بغير رضاها، فكيف يُجْبِرُها أن تبيع خاتم نفسها؟! هذا من باب أولى، بل أضرب مثلًا أقرب من هذا، لو أن رجلًا طلب من هذه المرأة أن تؤجر نفسها لمدة يومين لخياطة ثياب، وهي عند أهلها ولم تقبل، فهل يملك أبوها أن يجبرها على ذلك، مع أن هذه الإجارة سوف تستغرق من وقتها يومين فقط، وهي - أيضًا - عند أهلها؟ الجواب: لا، فكيف يجبرها على أن تتزوج من ستكون معه في نكد من العقد إلى الفراق؟! فإجبار المرأة على النكاح مخالف للنص المأثور، وللعقل المنظور"[10].

سابعًا: قال ابن عثيمين: "أي فائدة للصغيرة في النكاح؟! وهل هذا إلا تصرف في بَضْعِها على وجه لا تدري ما معناه؟! لننتظر حتى تعرف مصالح النكاح، وتعرف المراد بالنكاح ثم بعد ذلك نزوجها، فالمصلحة مصلحتها"[11].

ثامنًا: ذكر ابن عثيمين أن الوليَّ الذي يحبس ابنته على كثرة ما يعطى من الأموال أنه: "قد خان أمانته، وسقطت ولايته، وفعل إثمًا مبينًا والعياذ بالله، ولن تغنيه الدنيا عن الآخرة، وما يدري فلعله لا يستمتع بما اشترط لنفسه من الأموال"[12].

هذا ما تيسر جمعه من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه المسألة، أسأل الله أن ينفع به، وأن يرحم الشيخ، ويغفر له، ويرفع درجته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



[1] اللقاءات الشهرية، اللقاء الشهري العشرون 1/ 587-588.


[2] فتاوى نور على الدرب 10/ 133.


[3] الشرح الممتع 12/ 58.


[4] اللقاءات الشهرية، اللقاء الشهري العشرون 1/ 587-588.


[5] فتاوى نور على الدرب 10/ 133.


[6] الشرح الممتع 12/ 55-56.


[7] اللقاءات الشهرية، اللقاء الشهري السادس والسبعون 4/ 489-490.


[8] فتاوى نور على الدرب 10/ 133.


[9] الشرح الممتع 12/ 56.


[10] الشرح الممتع 12/ 56-57.


[11] الشرح الممتع 12/ 57.


[12] اللقاءات الشهرية، اللقاء الشهري السادس والسبعون 4/ 489-490.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١