مقدمة في التفسير - أسماء سورة الفاتحة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أخواتي الكريمات! لا زلنا نتدارس مقدمة تفسير سورة الفاتحة، وقلت: هذه المقدمة تدور حول مدارسة معالم بارزة تتعلق بسورة الفاتحة، وهذه المعالم تدور على ستة أمور:

أولها: أين نزلت سورة الفاتحة.

وثانيها: موضوع سورة الفاتحة.

وثالثها: فضل سورة الفاتحة. وهذا قد مضى الكلام عليه أخواتي الكريمات في المواعظ الماضية، ونتدارس إن شاء الله في هذه الموعظة وما بعدها ثلاث معالم باقية تتعلق بمقدمة تفسير سورة الفاتحة وهي:

أولها: أسماء سورة الفاتحة.

ثانيها: آياتها. أي: عدد آيات سورة الفاتحة.

ثالثهاً: صلة سورة الفاتحة بما قبلها وبما بعدها، والحكمة من وضعها في المكان الذي وضعت فيه في كتاب الله جل وعلا.

وقبل الشروع في الأمر الأول وهو ما يتعلق بأسمائها أخواتي الكريمات نذكر بأن آخر المباحث التي تدارسناها في هذه المقدمة: فضل سورة الفاتحة، وقررت بالأدلة الصحيحة الصريحة أن سورة الفاتحة هي أفضل سور القرآن على الإطلاق، وأفضل آيات القرآن آية الكرسي.

أفضل آية في القرآن

وبالنسبة لآية الكرسي فقد ورد ما يقرر هذا أيضاً ويدل عليه بأدلة صحيحة صريحة، فهي سيدة آي القرآن وهي أفضل آيات القرآن على الإطلاق كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وما ذهب إليه الإمام الروياني من أئمة الشافعية الكبار بأن البسملة هي أفضل آيات القرآن فما ذهب إليه هذا الإمام المبارك والبسملة آية من الفاتحة عند بعض القراء الذين قراءتهم متواترة ثابتة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فالإمام الروياني يرى أن البسملة أي: بسم الله الرحمن الرحيم هي أفضل آي القرآن، وسيأتينا أخواتي الكريمات عند المبحث الذي بعد هذا المبحث عند بيان آيات سورة الفاتحة وسنتدارس من أثبت آية البسملة آية من سورة الفاتحة كقراء الكوفة وغيرهم يأتينا هذا إن شاء الله.

فالإمام الروياني يقول: البسملة هي أفضل آي القرآن. وهذا الذي قاله لا يستند على دليل صحيح ثابت، بل ورد الدليل الصحيح الثابت بأن أفضل آي القرآن آية الكرسي، وقول الإمام الروياني ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء التاسع (ص:54) ثم رد هذا القول فقال: هذا القول متبع بالحديث الوارد في آية الكرسي.

والحديث الذي أشار إليه الإمام ابن حجر عليه رحمة الله هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في السنن، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث كما قلت في صحيح مسلم من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي: ( أي آية في كتاب الله أعظم، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر ) أي: هنيئاً لك بالعلم النافع وبتوفيق الله لك إلى الصواب والسداد.

زاد الإمام أحمد في روايته: ( والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: تتكلم بكلام واضح مسموع. آية الكرسي تقدس الملك وهو الله الملك الحق ملك الملوك ومالك الملك سبحانه وتعالى ( إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: هذه أعظم آيات القرآن وهي تعظم ذا الجلال والإكرام عند عرش الرحمن جل وعلا.

أخواتي الكريمات! والحديث كما قلت في صحيح مسلم وغيره وهو حديث صحيح، وفيه شهادة من نبينا عليه صلوات الله وسلامه بأن آية الكرسي هي أفضل آي القرآن المجيد، وقد ورد ما يدل على هذا أيضاً في عدة روايات عن عدد من الصحابة الكرام، لكن هذه الروايات فيها أن السائل -وهم الصحابة- سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آيات القرآن، وأما في حديث أبي فالسائل هو النبي عليه الصلاة والسلام والمسئول أبي، ثم أقر النبي صلى الله عليه وسلم جواب أبي وقال له: ( لينهك العلم أبا المنذر ) وأما الروايات الأخر فقد سأل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين نبينا عليه الصلاة والسلام عن أعظم آي القرآن فأخبرهم بأن أفضل آيات القرآن العظيم آية الكرسي، ثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم، والحديث رواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما رواه الإمام ابن حبان عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزل الله عليك أعظم؟ ) يعني: ما هي أعظم الآيات التي نزلت عليك يا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( آية الكرسي ) والحديث أخواتي الكريمات في درجة الحسن، ويشهد له الحديث المتقدم الثابت في صحيح مسلم كما تقدم معنا.

وورد أيضاً في سنن أبي داود والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير ورواه الطبراني أيضاً في معجمه الكبير ورواه أبو نعيم في كتاب المعرفة في معرفة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن ابن الأسفع البكري وهو من الصحابة الكرام، ويعرف بهذه النسبة ابن الأسفع البكري، أيضاً: ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في القرآن فأخبره بأن آية الكرسي هي أعظم آيات القرآن، والحديث ثبت أيضاً في مسند الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي وهو من الصحابة أيضاً رضوان الله عليهم أجمعين، وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آي القرآن فأخبره أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، وورد الأثر بذلك موقوفاً على عدة من الصحابة الكرام من قولهم، ولذلك حكم الرفع إلى نبيهم عليه صلوات الله وسلامه.

ومن هذه الروايات: ما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وسعيد بن منصور في سننه، والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن مردويه في تفسيره وغيرهم أيضاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه ( أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، والأثر إسناده صحيح، وهذا الأثر له أيضاً حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، والأثر أيضاً رواه أبو عبيد في فضائل القرآن عن سلمة بن قيس وهو من الصحابة الكرام: ( أن أفضل آي القرآن آية الكرسي )، والروايات في ذلك كثيرة وفيرة.

وخلاصة الكلام: أن أفضل آي القرآن وسيدة آياته: آية الكرسي، كما أن أفضل سور القرآن وسيدة سوره: سورة الفاتحة.

استحباب قراءة آية الكرسي عند النوم وبيان فضل ذلك

قبل أن أنتقل إلى المبحث الرابع المتعلق بأسماء سورة الفاتحة أحب أن أنبه على أمرين من باب اغتنام الخير والحرص عليه:

الأمر الأول أخواتي الكريمات: يستحب لنا أن نقرأ عند النوم آية الكرسي، ومن فعل هذا لا يقربه شيطان حتى يصبح، ولم يزل عليه من الله جل وعلا حافظ في تلك الليلة حتى يصبح، ثبت الحديث بذلك كما في صحيح البخاري ، والحديث رواه أيضاً أبو نعيم في دلائل النبوة، كما رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة أيضاً، والحديث إسناده صحيح كالشمس وهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في حديثه الطويل، ولعلكن أخواتي الكريمات تذكرنه وتعلمنه وتحفظنه، وخلاصته: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وكل أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه بحفظ تمر الصدقة، فبينا هو يحفظ التمر في الليل ويحرسه جاء رجل وبدأ يسرق من التمر ويجمع من التمر في ثيابه ويريد أن يأخذ هذا التمر إلى بيته، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه على هذا الرجل وقال: كيف تسرق من تمر الصدقة؟ فقال له: أنا فقير وكبير وذو عيال، ودعتني إلى ذلك الحاجة وإذا تركتني لن أعود، فأخذت أبا هريرة الشفقة عليه فتركه وخلى سبيله، فلما أصبح وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر تبسم نبينا عليه صلوات الله وسلامه في وجه أبي هريرة وقال لـأبي هريرة دون أن يخبر أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام بشيء، والله أوحى إلى نبيه عليه صلوات الله وسلامه بما حصل فتبسم في وجه أبي هريرة وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شكا الحاجة والفقر، وزعم أنه لن يعود، قال: كذبك، إنه سيعود، يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، يقول أبو هريرة: فبينا أنا في وسط الليل فجاء هذا الرجل مرة ثانية وبدأ يحثو من التمر في ثيابه فقبضت عليه وقلت له: هذه ثاني ليلة تسرق فيها وقد وعدتني في الليلة الماضية ألا تعود، فكرر عليه كلامه بأنه ضعيف وفقير وذو عيال، ولن يعود مرة ثالثة، فأشفق عليه أبو هريرة أيضاً وتركه ).

أخواتي الكريمات! كما قال أئمتنا: المؤمن غر كريم، والمنافق خب لئيم، المنافق لئيم ويخادع، والمؤمن قد يغتر أحياناً بالظاهر لما في قلبه من طهارة وطيب وخير، فعندما يشكو هذا الإنسان حاجته إلى أبي هريرة يصدقه ويرق له، وكان أئمتنا يقولون: من خدعنا بالله انخدعنا. يعني: إذا جاءنا الإنسان عن طريقة التذكير بالله وقال: أنا محتاج يمكن أن يخدعنا وأن يلبس علينا حاله وأن نحسن الظن بالنسبة إلى ظاهر الحال، ولا يعلم الخفايا إلا ربا البرايا سبحانه وتعالى: ( فخلاه أبو هريرة ، فلما صلى مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر قال له النبي عليه الصلاة والسلام مرة ثانية بعد أن تبسم في وجهه عليه صلوات الله وسلامه: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلت: زعم أنه لن يعود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إلي الحاجة والفقر وأنه ذو عيال. قال: كذبك، إنه سيعود، يقول: فعلمت يقيناً أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيعود، فعاد في الليلة الثالثة فلما قبض عليه أبو هريرة قال: لن أتركك ولن أخلي سبيلك، ولابد من رفعك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا فقير وذو عيال، قال: لابد من رفعك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: دعني فإذا تركتني أعلمك شيئاً إذا قلته لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حافظ. قال أبو هريرة رضي الله عنه -وكانوا أحرص شيء على الخير، أي: كان الصحابة وهو واحد منهم أحرص خلق الله على تحصيل الخير، وهذه فائدة عظيمة وخير كثير، أننا إذا قلنا ما سيقوله لنا هذا الإنسان لن يقربنا شيطان وسيحفظنا الرحمن حتى نصبح، إذن أنا أخلي سبيله من أجل هذه الفائدة، فكأنه يريد أن يبرر عذره في تخليته في المرة الثالثة: وكانوا أحرص الناس على شيء على الخير، فخلى سبيله، فلما صلى مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر تبسم نبينا عليه صلوات الله وسلامه في وجهه وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعم أنني إذا قرأت آية الكرسي من أولها إلى آخرها لن يزال علي من الله حافظ، ولا يقربني شيطان حتى أصبح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقك وهو كذوب، تدري من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث؟ قلت: لا يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه. قال: ذاك شيطان جاء ليسرق من التمر في صورة إنسان، وإذا قرأت آية الكرسي لا يقربك ولن يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح ).

والحديث أخواتي الكريمات صحيح وهو في صحيح البخاري كما قلت، فينبغي أن نقرأ آية الكرسي وأن نعملها أولادنا ليقرؤها في ليلهم وعند نومهم، ولذلك كان علي رضي الله عنه يقول: ما أرى رجلاً ولد في الإسلام يبيت أبداً حتى يقرأ آية الكرسي.

يقول: أنا لا أتوقع أنه يوجد إنسان أدرك الإسلام يبيت أبداً في ليلة من الليالي -بدون استثناء- حتى يقرأ آية الكرسي أي: لا يخطر ببالي أن مسلماً ينام دون أن يقرأ آية الكرسي التي تحفظه من الشيطان ولم يزل عليه من الله حافظ.

وأثر علي رضي الله عنه رواه الإمام الدارمي في مسنده وأبو عبيد في فضائل القرآن، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومحمد بن نصر في كتاب قيام الليل عليهم جميعاً رحمة الله.

استحباب قراءة آية الكرسي أدبار الصلوات المفروضة والأجر المترتب على ذلك

وأما التنبيه الثاني: كما يستحب لنا أن نقرأ آية الكرسي عند نومنا لئلا يقربنا الشيطان وليكون علينا حافظ من ربنا الرحمن ينبغي أن نقرأ آية الكرسي أيضاً دبر كل صلاة مفروضة.. إذا انتهينا من صلاة الفريضة.. من الصلوات الخمس نقرأ آية الكرسي والإنسان بالخيار إن شاء أن يقرأها عقب السلام مباشرة وإن شاء أن يقرأها بعد أذكار الصلاة والتسبيحات التي يقولها بعد الصلاة، فالأمر فيه سعة، إن قدم آية الكرسي على التسبيحات وذكر الصلاة جائز، وإن أخر آية الكرسي حتى ينتهي من أذكار الصلاة التي تقال عقبها فهذا جائز والأمر فيه سعة، لكن لابد من قراءة آية الكرسي، وفضلها عظيم إذا قرئت عقب الصلوات المفروضات كما ثبت ذلك عن خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.

روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الأوسط أيضاً والأثر رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ورواه ابن حبان في صحيحه، والإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة، ورواه الإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية وغيرهم وسنده صحيح كما سيأتينا عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ) أي: ليس بينه وبين الجنة إلا الموت، فإذا مات دخل الجنة بفضل الله ورحمته إذا حافظ على قراءة آية الكرسي كل صلاة مفروضة مكتوبة.

وهذا الحديث روي أيضاً عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواه الإمام البيهقي في كتاب شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه وأرضاه، وروي أيضاً عن غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والحديث أخواتي الكريمات صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وأما زعم الإمام ابن الجوزي بأن الحديث لا يصح ولذلك أورده في كتابه الموضوعات فهذا من تساهله، وقد رد عليه أئمتنا جميعاً، كما قال الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام في الأحاديث التي علق عليها في مشكاة المصابيح، وفي الانتقادات على بعض الأحاديث التي وجهت على بعض الأحاديث في مشكاة المصابيح، يقول معلقاً على هذا الحديث راداً زعم الإمام ابن الجوزي بأن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال الحافظ ابن حجر: لقد غفل الإمام ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في كتابه الموضوعات وهو من أسمج ما وقع فيه. يعني: من أرذل وأشنع ما وقع في كتاب الموضوعات حيث حكم على هذا الحديث بعدم الصحة وهو صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

وقد حكم الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد على الحديث بأن إسناده جيد، فبعد أن عزاه إلى معجم الطبراني الكبير والأوسط قال: إسناده جيد.

والإمام المنذري في الترغيب والترهيب نقل عن شيخه أبي الحسن أن الحديث صحيح وهو على شرط الشيخين البخاري ومسلم.

وهكذا الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الأول (ص:303) مال إلى تصحيح الحديث وإثباته، ورد على الإمام ابن الجوزي في تضعيفه لهذا الحديث ورده له، ثم نقل عن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية أنه قال: ما تركت قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة مفروضة بعد أن علمت وبلغني هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وهكذا أخواتي الكريمات تتابع أئمتنا على رد كلام الإمام ابن الجوزي وأثبتوا صحة الحديث كما فعل ذلك الإمام ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة في الجزء الأول (ص:288)، وهكذا الإمام السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الجزء الأول (ص:230) وغيرهم كثير.

وعليه فالحديث صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ).

وقد روي الحديث أيضاً في معجم الطبراني الكبير بسند حسن كما نص على ذلك الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء العاشر (ص:102) والإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني (ص:453) من رواية الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى أن يصلي الصلاة الأخرى ) أي: الصلاة المكتوبة الثانية التي تليها، فمن قرأ آية الكرسي دبر صلاة الفجر يكون في ذمة الله وحفظه ورعايته حتى يصلي صلاة الظهر، وهكذا إذا قرأها بعد صلاة الظهر يكون في ذمة الله وحفظه ورعايته إلى صلاة العصر .. وهكذا، وعليه فمن واظب عليها عقب جميع الصلوات المفروضات فهو في ذمة الله وحفظه ورعايته وكلاءته في جميع الأوقات، والأثر أيضاً رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه بمعنى حديث الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين.

وخلاصة الكلام أخواتي الكريمات! أفضل سور القرآن على الإطلاق سورة الفاتحة، وأفضل آيات القرآن على الإطلاق آية الكرسي، والعلم عند الله القوي.

وبالنسبة لآية الكرسي فقد ورد ما يقرر هذا أيضاً ويدل عليه بأدلة صحيحة صريحة، فهي سيدة آي القرآن وهي أفضل آيات القرآن على الإطلاق كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وما ذهب إليه الإمام الروياني من أئمة الشافعية الكبار بأن البسملة هي أفضل آيات القرآن فما ذهب إليه هذا الإمام المبارك والبسملة آية من الفاتحة عند بعض القراء الذين قراءتهم متواترة ثابتة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فالإمام الروياني يرى أن البسملة أي: بسم الله الرحمن الرحيم هي أفضل آي القرآن، وسيأتينا أخواتي الكريمات عند المبحث الذي بعد هذا المبحث عند بيان آيات سورة الفاتحة وسنتدارس من أثبت آية البسملة آية من سورة الفاتحة كقراء الكوفة وغيرهم يأتينا هذا إن شاء الله.

فالإمام الروياني يقول: البسملة هي أفضل آي القرآن. وهذا الذي قاله لا يستند على دليل صحيح ثابت، بل ورد الدليل الصحيح الثابت بأن أفضل آي القرآن آية الكرسي، وقول الإمام الروياني ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء التاسع (ص:54) ثم رد هذا القول فقال: هذا القول متبع بالحديث الوارد في آية الكرسي.

والحديث الذي أشار إليه الإمام ابن حجر عليه رحمة الله هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في السنن، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث كما قلت في صحيح مسلم من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي: ( أي آية في كتاب الله أعظم، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر ) أي: هنيئاً لك بالعلم النافع وبتوفيق الله لك إلى الصواب والسداد.

زاد الإمام أحمد في روايته: ( والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: تتكلم بكلام واضح مسموع. آية الكرسي تقدس الملك وهو الله الملك الحق ملك الملوك ومالك الملك سبحانه وتعالى ( إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: هذه أعظم آيات القرآن وهي تعظم ذا الجلال والإكرام عند عرش الرحمن جل وعلا.

أخواتي الكريمات! والحديث كما قلت في صحيح مسلم وغيره وهو حديث صحيح، وفيه شهادة من نبينا عليه صلوات الله وسلامه بأن آية الكرسي هي أفضل آي القرآن المجيد، وقد ورد ما يدل على هذا أيضاً في عدة روايات عن عدد من الصحابة الكرام، لكن هذه الروايات فيها أن السائل -وهم الصحابة- سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آيات القرآن، وأما في حديث أبي فالسائل هو النبي عليه الصلاة والسلام والمسئول أبي، ثم أقر النبي صلى الله عليه وسلم جواب أبي وقال له: ( لينهك العلم أبا المنذر ) وأما الروايات الأخر فقد سأل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين نبينا عليه الصلاة والسلام عن أعظم آي القرآن فأخبرهم بأن أفضل آيات القرآن العظيم آية الكرسي، ثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم، والحديث رواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما رواه الإمام ابن حبان عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزل الله عليك أعظم؟ ) يعني: ما هي أعظم الآيات التي نزلت عليك يا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( آية الكرسي ) والحديث أخواتي الكريمات في درجة الحسن، ويشهد له الحديث المتقدم الثابت في صحيح مسلم كما تقدم معنا.

وورد أيضاً في سنن أبي داود والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير ورواه الطبراني أيضاً في معجمه الكبير ورواه أبو نعيم في كتاب المعرفة في معرفة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن ابن الأسفع البكري وهو من الصحابة الكرام، ويعرف بهذه النسبة ابن الأسفع البكري، أيضاً: ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في القرآن فأخبره بأن آية الكرسي هي أعظم آيات القرآن، والحديث ثبت أيضاً في مسند الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي وهو من الصحابة أيضاً رضوان الله عليهم أجمعين، وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آي القرآن فأخبره أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، وورد الأثر بذلك موقوفاً على عدة من الصحابة الكرام من قولهم، ولذلك حكم الرفع إلى نبيهم عليه صلوات الله وسلامه.

ومن هذه الروايات: ما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وسعيد بن منصور في سننه، والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن مردويه في تفسيره وغيرهم أيضاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه ( أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، والأثر إسناده صحيح، وهذا الأثر له أيضاً حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، والأثر أيضاً رواه أبو عبيد في فضائل القرآن عن سلمة بن قيس وهو من الصحابة الكرام: ( أن أفضل آي القرآن آية الكرسي )، والروايات في ذلك كثيرة وفيرة.

وخلاصة الكلام: أن أفضل آي القرآن وسيدة آياته: آية الكرسي، كما أن أفضل سور القرآن وسيدة سوره: سورة الفاتحة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في التفسير - أحكام البسملة [2] 3837 استماع
مقدمة في التفسير - أحكام البسملة [1] 3517 استماع
مقدمة في التفسير - أسماء سورة الفاتحة وآياتها [2] 2855 استماع
مقدمة في التفسير - مقدمة في تفسير سورة الفاتحة - أين نزلت 2727 استماع
مقدمة في التفسير - موضوع سورة الفاتحة 2441 استماع
مقدمة في التفسير - أسماء سورة الفاتحة وآياتها [1] 1368 استماع