أرشيف المقالات

من أقوال السلف في الشكر

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
من أقوال السلف في الشكر
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فمن أسماء الله الحسنى: الشكور، والشاكر، قال الله عز وجل: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]، وقال سبحانه تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17] وللشكر منزلة عظيمة في الدين، تكلَّم عليها أهل العلم، منهم العلَّامة ابن القيم رحمه الله، في كتابه القيم النافع "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، قال العلَّامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله: الكلام على الحمد والشكر كثير...ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب: "عدة الصابرين" لابن القيم، فإن فيه فوائدَ قد لا يجدها في غيره.

للسلف أقوال في الشكر، يسَّر اللهُ الكريمُ فجمعتُ بعضًا منها، اللهَ أسألُ أنْ ينفعَ بها الجميع.

حدُّ الشكر وحقيقته:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: الشكر ينتظم من علم وحال وعمل، فالعلم معرفة النعمة من المُنْعِم، والحال الفرح الحاصل بإنعامه مع الخضوع والتواضُع، والعمل القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، ويتعلَّق ذلك العمل بالقلب، وبالجوارح، وباللسان، أما القلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق، وأمَّا باللسان فإظهارُ الشكر لله بالتحميدات الدالَّة عليه، وأمَّا الجوارح فاستعمال نِعَم الله في طاعته والتوقِّي من الاستعانة بها على معصيته حتى إن مِن شُكْر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم، وشُكْر الأذنيين أن تستر كل عيب تسمعه فيه.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة للمُنْعِم، وألَّا يصرفها في غير طاعته.

قال العلَّامة ابنُ القيم رحمه الله: الشكر للقلب محبَّةٌ وإنابةٌ، وللسان ثناء وحمد، وللجوارح طاعة وخدمة، وقال: الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانةً، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعةً وانقيادًا.
 
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13].
 
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: الشكر هو اعتراف القلب بنِعَم الله، والثناء على الله بها، وصرفها في مرضاة الله تعالى، وكفر النعمة ضدُّ ذلك.
 
قال العلامة العثيمين رحمه الله: الشكر يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح.
الشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عز وجل وحده، فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام...لأن النفوسَ مجبولةٌ على محبَّةِ مَن يُحسِن إليها.
 
وأما الشكر باللسان فأن يتحدَّث الإنسان بنعمه لا افتخارًا؛ بل شكرًا، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]، وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم الإنسان بطاعة الله، ويصرف هذه النعمة لما جعلت له، فإن هذا من شكر النعمة.
 
الشكر مبني على خمس قواعد:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: الشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألَّا يستعملها فيما يكره، فهذه الخمسة هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدة اختَلَّ من قواعد الشكر قاعدةٌ.
 
أكثر الخلق لا يشكرون نِعَم الله عز وجل:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: الشكر...قلة أهله في العالمين تدلُّ على أنهم هم خواصُّه، كقوله: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
 
قال العلَّامة ابن باز رحمه الله: أكثرُ الخَلْق لا يشكرون نِعَمَ الله عز وجل، كما قال سبحانه: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، فهذا يُنبئ الإنسان على عِظَمِ هذا الخطر، وأن الغالب على بني آدم- مع كرم الله سبحانه وتعالى عليهم وإحسانه إليهم- عدمُ الشكر، فيأخذ الإنسان من هذا العِبرة والعِظة، ويُحاسِب نفسه ويجاهدها؛ لعلَّه يكون من الشاكرين القليلين.


من أقوى أسباب الشكر أن يرى العبد غيره في ضدِّ حاله:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: سبحانه اقتضت حكمتُه وحمدُهُ أن فاوت بين عباده أعظمَ تفاوتٍ وأبْيَنَه ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمتُه وفضلُهُ، ويعرف أنه حُبِي بالإنعام، وخُصَّ دون غيره بالإكرام، ولو تساوَوا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرِف صاحبُ النعمة قدْرَها، ولم يبذل شُكْرَها؛ إذ لا يرى أحدًا إلا في مثل حاله، ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخراجًا له من العبد أن يرى غيره في ضدِّ حاله الذي هو عليها من الكمال والفلاح.
 
حمد الله وشكره على المصيبة:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قال بعض السلف: إني لأُصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد الله إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمد الله إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفَّقني للاسترجاع، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.

 
الشاكر والشكور:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: قيل: الشاكر الذي يشكر على العطاء، والشكور الذي يشكر على البلاء.
 
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]، قيل: إنه كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ اللهَ لَيَرْضى عن العَبْدِ يأكُلُ الأكلةَ فيحمَده عليها، أو يشربُ الشَّرْبةَ فيحمَده عليها)).
 
والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية، فإن الشكر يكون بهذا وبهذا.
 
منزلة الشكر:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: منزلة الشكر...من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرِّضا، فإنه يتضمن الرِّضا وزيادة.
 
والشكر....أمر الله به ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسمًا من أسمائه.
 
أركان الشكر:
قال العلَّامة ابنُ القيم رحمه الله: شكر العبد يدور على ثلاثة أركان، لا يكون شكورًا إلا بمجموعها:
أحدها: اعترافه بنعمة الله عليه.
والثاني: الثناء عليه بها.

والثالث: الاستعانة بها على مرضاته.
 
الشكر والصبر:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: إذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده يمتحن بها صبره وشكره، عُلِم أن الصبر والشكر مطيَّتان للإيمان لا يُحمل إلا عليهما، ولا بُدَّ لكل مؤمن منهما، وكل منهما في موضعه أفضل، فالصبر في موطن الصبر أفضل، والشكر في مواطن الشكر أفضل.
 
الشكر والاستغفار:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبد دائمًا بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكُلٌّ من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلَّب في نِعَم الله وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار.

الشكر قيد النعم:
قال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة نعمة الشكر فتأهَّب للمزيد.
قال العلامة ابن القيم: قيل: الشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة.

شكر الله وحمده على كل حال:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائمًا على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَر، وإنْ أصابَتْه ضَرَّاءُ صبرَ؛ فكان خيرًا له.
 
من شكر الله سبحانه وتعالى لعباده:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
يشكر القليل من العمل والطاعة، ويشكر الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة.
 
ويشكر عبده بأن يُثني عليه بين ملائكته وفي مَلَئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده ويشكره بفعله.
 
ومِن شُكْره سبحانه أنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولو أنه مثقال ذرة.
 
ومِن شُكْره أنه يُجازي عدوَّه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويُخفِّف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان، وهو من أبغض خلقه إليه.
 
ومِن شُكْره أنه غفر للمرأة البَغِيِّ بسقيها كلبًا كان قد جهده العطش حتى أكل الثَّرى، وغفر لآخر بتنحية غصن شوك عن طريق المسلمين، فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه إلى نفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه.
 
وأبلغ من ذلك أنه هو الذي أعطى العبد ما يُحسِن به إلى نفسه وشكره عليه؛ بل شكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد إليها، فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمَنْ أحَقُّ باسم الشكور منه سبحانه؟
 
ومِن شُكْره سبحانه أنه يُخرجُ العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير، فلا يضيع عليه هذا القدر.
 
قال العلامة السعدي رحمه الله:
هو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل.
إذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيرًا، والصغير كبيرًا.
 
يتحمل عبده من أجله بعض المشاقِّ فيشكر الله له ويقوم بعونه، فتنقلب تلك المشاقُّ والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات.
 
الغني الشاكر والفقير الصابر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قد تنازع كثيرٌ من المتأخرين في الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل؟ فرجَّح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجَّح هذا طائفة من العلماء والعباد، وحكي في ذلك عن الإمام أحمد روايتان، وأما الصحابة والتابعون فلم يُنقَل عنهم تفضيل أحد الصِّنْفَين على الآخر، وقد قالت طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، فإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة.
 
قال: وهذا أصحُّ الأقوال؛ لأن نصوص الكتاب والسُّنَّة إنما تُفضل بالإيمان والتقوى.
 
السبب الصارف للخلق عن الشكر:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة، فإنهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النِّعَم، ولا يتصور شكرها إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه: الحمد لله، الشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في طاعة الله، أما الغفلة عن النِّعَم فالناس بجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق، ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو انقطع الهواء عنهم ماتوا.
 
وفي الختام: فقد ذكر العلَّامة ابن القيم رحمه الله أنَّ: "أحب خلقه إليه من اتَّصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه مَن عطَّلَها واتصف بضدها"، فلنجاهد أنفسنا أن نكون دائمًا ممن يشكر الله عز وجل على كل حال؛ في السرَّاء والضرَّاء.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢