تفسير سورة التوبة [41-59]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]. لما توعد الله تبارك وتعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر؛ أتبعه بهذا الأمر الجازم، فقال سبحانه وتعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله). ( خفافاً وثقالاً) إعرابها: حالان من ضمير المخاطبين من الواو، أي: انفروا على أي حال كنتم، خفافاً لنشاطكم لهذا النفور، وثقالاً عنه لمشقته عليكم. أو: انفروا خفافاً: لقلة عيالكم وأذيالكم، أو ثقالاً: لكثرتها. أو: خفافاً: من السلاح، وثقالاً منه. أو: خفافاً وثقالاً: ركباناً ومشاة. أو: خفافاً وثقالاً: شباباً وشيوخاً. أو: خفافاً وثقالاً: مهازيل وسماناً. واللفظ الكريم يعم ذلك كله، والمراد: انفروا حال سهولة النفر وحال صعوبته. وقد روي عن ثلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية، وفريق من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن هذه الآية محكمة، وأنها تفرض الجهاد والغزو فرضاً عينياً على كل مسلم، ولم تعذر أحداً في التخلف عن الجهاد، ولذلك كانوا لا يتخلفون أبداً عن غزوة من الغزوات. ولما كانت البعوث إلى الشام قرأ أبو طلحة رضي الله تعالى عنه سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية فقال بمجرد أن سمع هذه الآية: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بني! مع أنه كان شيخاً كبيراً، فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: ما سمع الله عذر أحد يعني: ما استجاب الله عذر أحد؛ لأن الله قال: (خفافاً وثقالاً)، فشملت جميع المسلمين، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ويقول: فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً. وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فطن عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالاً). وعن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً من أهل دمشق على راحلته فيمن أراح، قد سقط حاجباه على عينيه، يعني: رآه على راحلته مع أنه كان شيخاً كبيراً، وسقوط الحاجب على العينين يكون في حالة الشيخوخة المتأخرة جداً. يقول: فأقبلت عليه، فقلت له: يا عم! لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل. روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله. فرحم الله تلك الأنفس الزكية! وحياها من بواسل باعت أرواحها في مرضاة ربها وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية! أيها الإخوة! الحديث ذو شجون في هذا الموضع بالذات، ولولا أننا نلتزم بالاجتهاد بالاختصار حتى ننجز القدر المطلوب إنجازه، لأفضنا في تفصيل الكلام، ومقارنة أوضاع المسلمين التي ما كان أي مسلم من قبل يتصور أو يحلم مجرد حلم في المنام أننا سنصل إلى هذا المستوى الذي نحن فيه الآن، ليس فقط من ناحية التقاعس عن الجهاد والاستسلام والتخاذل أمام أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء الدين، وإنما أيضاً تغيير المفاهيم لدى الناس حتى صارت قضية الجهاد قرينة لرمي الناس بالتطرف والعنف والإرهاب. إلى آخر هذه المسميات. روى الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أن بعض الملوك عاهد كفاراً على ألا يحبسوا أسيراً من أسرى المسلمين، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، صرخت هذه المرأة من وراء هذا البيت وقالت له: إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري، فلما عاد إلى الأمير، واستطعمه عنده، وتجاذبا أطراف الحديث، ففي أثناء الكلام انتهى الخبر إلى هذه المرأة المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع -رحمه الله تعالى- وحرر هذه الأسيرة!! ومواقف المسلمين في ذلك معروفة، لا أقول في الصدر الأول ولكن حتى إلى عهد قريب، فالدولة العثمانية رغم أنها كانت في حالة ضعف شديد، إلا أنه كان لها من الهيبة والصولة والجولة ما هو معلوم، حتى كان المندوب العثماني إذا نزل في إحدى العواصم الأوروبية يمتنعون عن دق أجراس الكنائس احتراماً له، وفي نفس الوقت خوفاً من أن يغضبوه إذا سمع صوت الأجراس فيؤدبهم. وقرأت في كتاب تاريخ الدولة العالية لـمحمد فريد في أحد الخطابات: أن مندوب إحدى الدول الأوروبية -لعلها المجر أو نحوها- ذهب للخليفة العثماني، وطلب منه طلباً معيناً: أن يحمي بلاده، أو أن يحسن إليهم، أو شيء من هذا، فمقدمة الرد السلطاني أو الباب العالي -كما كانوا يسمونه- بدأ بذكر مقدمة طويلة من الجواب يقول فيها: إن الغازي ابن الغازي ابن سليل المجد .. كلها مجد وتفخيم واستعلاء من هذا الكاتب، وفي النهاية جملة قصيرة، بعد أن مدح الخليفة بهذه المدائح الطويلة جداً، انتهت بقوله: فقد رأى -يعني: جلالة السلطان المعظم- أن ينظر إلى طلبكم بعين الشفقة، واستجاب لهذا الطلب، وأنعم عليكم بتلبيته. هذا موجود في تاريخ الدولة العالية. فالشاهد: أننا بعد هذا العز انظر كيف حولوا تركيا التي كانت مركز خلافة الإسلام إلى بؤرة فساد، وشر على مجاوريها من البلاد الإسلامية، المهم أن واقعنا في الحقيقة مؤلم إلى حد يجب فيه أننا نتحسر على هذا الواقع، تماماً كما تحسر القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى حين قال: ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه -نصح الحاكم والرعية-: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، يعني: أراد أن يشجع الوالي والرعية، فقال لهم: أي فرصة أحسن من هذه الفرصة، صار الأعداء موجودين داخل دياركم في الشبكة، والإمام القاضي أبو بكر بن العربي رجل أديب، على أرقى مستوى من الأدب، فانظر كيف كان تناوله مثل هذه القضايا بأسلوبه العذب البليغ. يقول: فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس، حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، -الوجار هو: جحر الضبع- وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم رغب تبارك وتعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبعدما قال: (انفروا خفافاً وثقالاً) قال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]. وفي اسم الإشارة: (ذلكم) إشارة إلى النفير والجهاد، وفي معنى البعد الإيذان بأن منزلته رفيعة لبعد منزلته بالشرف، والمراد بكونه خيراً: أنه خير في نفسه أو: خير من الدعة والتمتع بالأموال.

صرف الله تعالى الخطاب عن المتخلفين، ووجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معدداً لما صدر عنهم من الإهانات قولاً وفعلاً، ومبيناً لدناءة هممهم في هذا الخطب، فقال عز وجل: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42]. (لو كان عرضاً قريباً) يعني: لو كان هذا الذي تدعوهم إليه عرضاً قريباً ونفعاً سهل المأخذ، (وسفراً قاصداً) أي: سفراً وسطاً ليس كهذا السفر البعيد إلى تبوك؛ (لاتبعوك)، لا لأجلك ولكن لموافقة أهوائهم، (ولكن بعدت عليهم الشُقة) أو (الشِقة) قرئ بالضم وبالكسر، يعني: بعدت عليهم الناحية التي ندبوا إليها، وسميت الناحية التي يقصدها المسافر الشقة؛ للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها، والناحية التي يقصدها المسافر غالباً تكون بعيدة، ولذلك هذه الناحية التي تقصدها تسمى الشقة، مأخوذة من المشقة التي تلحقه في الوصول إليها. (وسيحلفون بالله): هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك (سيحلفون بالله) (بالله) متعلق بكلمة (سيحلفون) يعني: سيحلفون بالله أو سيحلفون قائلين: بالله، يعني: كأنه من جملة كلامهم يعني: سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين بالعجز ويقولون: بالله لو استطعنا لخرجنا معكم إلى تلك الغزوة. ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم؛ لأن المنافق دائماً من شأنه الاستجنان بالأيمان الكاذبة ويتخذها جنة ووقاية يحتمي وراءها. (يهلكون أنفسهم) أي: بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز. (والله يعلم إنهم لكاذبون)؛ لأنهم بالفعل كانوا يستطيعون الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف حين اعتلوا بعللهم؟! (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم بالقعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزوة، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [التوبة:44]، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأنهم يؤمنون بالله، فالإيمان يمنعهم من مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالخروج مع وجود القدرة، فالمؤمن إذا وجد في قلبه الإيمان والقدرة لا يتخلف عن الطاعة. (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأن الإيمان بالله يمنع عن التخلف مع القدرة. (واليوم الآخر): لأن الشخص الذي يؤمن بالله واليوم الآخر يمنعه ذلك من ترك استبدال الثواب والحياة الأبدية إذا أغروه بعرض من الدنيا قليل. (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم)؛ لأنهم يعتبرون الجهاد بها قربة، ويضحون بها في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيبذلونها في سبيله. (والله عليم بالمتقين) أي: فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم، ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، ووعده لهم بأجزل الثواب. (( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ )) أي: إنما يستأذنك في ترك الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله: الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لا يرجون ثوابه، وهم المنافقون، ولذا قال تعالى: (وارتابت قلوبهم)، فيما تدعوهم إليه، ورسخ فيها الريب والشك، (فهم في ريبهم يترددون) أي: ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

علو مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل

اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة؛ ما لا يخفى على أولي الألباب، وهذا في غاية التلطف والعناية من الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى علم أنه لو جابه خليله صلى الله عليه وسلم بالعتاب ربما ذهبت نفسه شفقة من هذا العتاب، لو قال له: لماذا أذنت لهم؟ لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم فزعاً وجزعاً، فمن لطف الله سبحانه وتعالى به، ومحبته لنبيه صلى الله عليه وسلم، طمأنه أولاً فقال: (عفا الله عنك)، يعني: ما سيأتي من العتاب معفو عنك فيه فلا تجزع؛ تلطفاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية لجانبه عليه الصلاة والسلام. (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، كي يطمئنه أولاً، كي لا يجزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (عفا الله عنك)؛ فبشره أولاً بالعفو دون أن يأتي بما يوهم العتاب. قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف! بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، وهذه الآية من المواضع التي يتكلم فيها المصنفون في الخصائص النبوية، والتي يتحدثون فيها عما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص في القرآن والسنة، فهذه من خصائص القرآن الكريم، وفيها بيان علو مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل. وقال بعض المفسرين: (عفا الله عنك) في افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك. وقال الداودي : إنها تكرمة، ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم وهو يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة تعود بعفوك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ومولى عفا ورشيداً هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب؛ غير صحيح، فهذه من المواضع التي زل فيها الزمخشري ، بل ضل، وبنى كلامه على أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فالواجب تفسير كلمة العفو في كل مقام بما يناسبه. قال الشهاب : وعبارة: (عفا الله عنك) تستعمل حيث لا ذنب، ولا تعني وقوع ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ هذا شخص تعظمه ومع ذلك تقول له: عفا الله عنك، فلا يستلزم ذلك أنه يكون قصر في حقك أو أذنب، وإنما هذه تكون في المخاطبات، وفي الحديث: (عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له)، يقول المحقق: لم أقف على هذا الحديث. وقال السخاوندي : هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، يعني: المقصود من هذا السياق: تعليم الأمة كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان ربه عز وجل يخاطبه هذه المخاطبة، ويتلطف به هذا التلطف؛ فعلينا أيضاً أن نلزم هذا الأدب في مقامه وجنابه صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب. وقال القاضي عياض في الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، وهذا كتاب من الكتب الأساسية، ولا يليق أبداً بطالب علم أن يفرط فيه، كما أن طالب العلم لا يليق به أنه لا يقرأ في رياض الصالحين، والأذكار النووية، وزاد المعاد، وهذه الكتب من الطبيعي جداً لطالب العلم أن يمر عليها، ولا يليق به أبداً أن يمر عمره دون أن يطلع على هذه المجموعة من الكتب. يقول القاضي عياض : وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي فلا يعد معصية، ولم لا يعد معصية؟ لأنها لا تكون معصية إلا إذا تقدم فيما مضى نهي خالفه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وكون هذا الفعل لم يتقدمه نهي فيبعد أن يكون معصية، والله سبحانه وتعالى لم يعدها عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك، وحتى القول بأنها معاتبة اعترض عليه بعض العلماء وقالوا: هذه ليست معاتبة. قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيراً في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، فما دام لم ينزل وحي ينهاه عن الإذن لهؤلاء المنافقين فهو بالخيار في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف وقد قال تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62]؟! فأيدوا بهذه الآية القول بأنه لا عتاب، حتى العتاب غير مقصود في هذه الآية، كيف ولم يتقدم وحي ينهاه؟ ثم أيضاً الله سبحانه وتعالى خيره فقال: (فأذن لمن شئت منهم)، فلما أذن لهم أعلمه الله سبحانه وتعالى بما لم يطلع عليه من سرهم، ولو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، فالآن هم يتسترون وراء إذن النبي عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى بين لنبيه أنهم أضمروا شراً، وعزموا بالفعل على التخلف، فلو لم تأذن لهم لافتضحوا وظهر هذا الذي معهم، وهم في الحالتين سواء أذنت لهم أو لم تأذن لهم ما كانوا ليخرجوا، وقد عقدوا قلوبهم على التخلف. يقول: فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، وأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، ولم تجب عليهم قط، يعني: لم يلزمهم ذلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة . ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب. من لم يعرف كلام العرب، وهذا تعريض بـالزمخشري ؛ لأنه هو الذي قال هذه العبارة، قال: ومعنى عفا الله عنك أي: لم يلزمك ذنباً، وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته، ومن عورات الكشاف للزمخشري في هذه الآية أنه عبر هذا التعبير الذي رفضه العلماء حينما قال: إن العفو لا يكون إلا عن ذنب. وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة، قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأ وبئسما فعل، هب أنه كناية، أليس إيثاره على التصريح بالكناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب؟! يعني: حتى لو كانت جناية ألا تلاحظ التلطف هنا في هذا، فكيف يعبر هذا التعبير القبيح؟ لأن هذا لا يليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبيح، واستتباع اللائمة، بحيث هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما -وهو في التفسير قال: بئسما- أيجوز استعمال هذه العبارة المنبئة عن بلوغ القبح إلى ردة يتعجب منها؟ لأن بئس هذه يتعجب فيها بالذم، فأين هو في قوله: بئسما ما فعلت، من تعظيم الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه وتلطفه معه في الخطاب؟! ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، وقد كرهه الله سبحانه وتعالى، أي: أن خروجهم كان مبغوضاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46]، فقد كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير يعني: أول كل شيء، كان يبدو من الأول، ويفتضحون من أول كل شيء، نعم كان الأولى تأخير الإذن، حتى يفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش بالأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم؛ لأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك. بعضهم يحاولون أن يخففوا من الخطأ الذي ارتكبه الزمخشري فقالوا: إنه يقصد أن الأصل في استعمال هذا التعبير: (عفا الله عنك) أنه يكون فيما يكون فيه جناية، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه، وإذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطأ فيه، قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى.

غائلة الاستئذان والتثاقل في الخروج للجهاد

استدل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد، كما قال الرازي. وقال السيوطي في الإكليل: استدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ، ولكن ينبه عليه بسرعة. قال الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب والإبعاد. وقيل: نفي الفعل للمستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى: (لا يستأذنك) معناه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر). قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا [التوبة:44] إلى آخره، فهذا بيان أن هذا شأن المؤمنين، وأنه لا يقع منهم هذا الفعل، فهو ينفي هذا الأمر ووقوعه في المستقبل، وواضح أن هذه الصيغة تفيد الاستمرار. فهذا الأدب ينبغي أن يتحراه ويقتفيه المؤمن مطلقاً، فلا يليق المرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، إذ ليس من الأدب ولا المروءة أن تقول للضيف: هل أكلت أم لا؟ لكن تحضر الطعام، هذا هو الكرم، وهذه هي المروءة الإسلامية، يحضر له الطعام ما دام يملكه؛ لأنه قد يحرج ويقول لك: لا، لكن الأصل أن الإنسان يقدم الطعام دون استئذان. وعندما نراجع أخلاق الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنه ما قال لهذا الوفد الذي أتاه: هل أحضر لكم طعاماً؟ أو: هل أنتم محتاجون إلى طعام؟ لا، المقصود من أدب الأخوة: ألا يحوج أخاه أن يطلب منه شيئاً، يعني: إذا انتظرت حتى يطلب منك أخوك الإعانة على معروف أو على أمر يحتاجه، فهذه درجة متدنية من الأخوة، ومن التقصير أن يحوج أخاه إلى أن يطلب منه، والمقصود: أنه يتوخى ويتحرى حاجة أخيه، وكيف يسدها له قبل أن يلجئه إلى الطلب منه. يقول هنا: فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، أي: أنه لم يكن يظهر أمامهم استعداداً بأنه يهيئ نفسه للضيافة، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تبارك وتعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] (فراغ) أي: اختفى وما أظهر لهم أنه يستعد وليس بمرأى من ضيوفه، فلا يتصل بالتليفون بالمحل أمام الضيوف أحضر كذا وكذا، ولا يظهر أنه يعد طعاماً، لا، بل اختبأ يعد في السر، ثم يعرضه عليهم، والمهتم بأمر ضيفه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، إن كان معك ضيف وفي الطريق تشتري له كذا وكذا من المشروب والأكل، هذا أيضاً فيه إظهار التهيؤ للضيافة، وكأنك تستأذنه: هل أضيفك أم لا؟! والكريم يعرض الطعام على الضيف ثم إذا شاء أكل، وإن شاء امتنع عن الطعام، لكن لا يستأذن الضيف، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو القوة. وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين: التثاقل عن المبادرة إليه، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شأنهم لعلو كعبهم في الإيمان وشرفهم وعلو هممهم، لا يمكن أن يقع منهم أبداً استئذان في الخروج عن الجهاد، ولا يمكن أن يستأذنوا أبداً، فهذا ليس من شأن المؤمنين: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا [التوبة:44]. وأشد من ذلك ليس فقط الاستئذان كما فعل المنافقون، بل أشد من ذلك أيضاً: التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، فقد حضهم الرسول عليه السلام وناداهم وكلفهم، ثم بعد ذلك اعتذروا واستأذنوا في الخروج! وأسوأ أحوال المتثاقل وقد دعي الناس إلى الغزاة: أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق، نعوذ بالله من التعرض لسخطه!

اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة؛ ما لا يخفى على أولي الألباب، وهذا في غاية التلطف والعناية من الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى علم أنه لو جابه خليله صلى الله عليه وسلم بالعتاب ربما ذهبت نفسه شفقة من هذا العتاب، لو قال له: لماذا أذنت لهم؟ لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم فزعاً وجزعاً، فمن لطف الله سبحانه وتعالى به، ومحبته لنبيه صلى الله عليه وسلم، طمأنه أولاً فقال: (عفا الله عنك)، يعني: ما سيأتي من العتاب معفو عنك فيه فلا تجزع؛ تلطفاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية لجانبه عليه الصلاة والسلام. (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، كي يطمئنه أولاً، كي لا يجزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (عفا الله عنك)؛ فبشره أولاً بالعفو دون أن يأتي بما يوهم العتاب. قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف! بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، وهذه الآية من المواضع التي يتكلم فيها المصنفون في الخصائص النبوية، والتي يتحدثون فيها عما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص في القرآن والسنة، فهذه من خصائص القرآن الكريم، وفيها بيان علو مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل. وقال بعض المفسرين: (عفا الله عنك) في افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك. وقال الداودي : إنها تكرمة، ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم وهو يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة تعود بعفوك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ومولى عفا ورشيداً هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب؛ غير صحيح، فهذه من المواضع التي زل فيها الزمخشري ، بل ضل، وبنى كلامه على أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فالواجب تفسير كلمة العفو في كل مقام بما يناسبه. قال الشهاب : وعبارة: (عفا الله عنك) تستعمل حيث لا ذنب، ولا تعني وقوع ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ هذا شخص تعظمه ومع ذلك تقول له: عفا الله عنك، فلا يستلزم ذلك أنه يكون قصر في حقك أو أذنب، وإنما هذه تكون في المخاطبات، وفي الحديث: (عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له)، يقول المحقق: لم أقف على هذا الحديث. وقال السخاوندي : هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، يعني: المقصود من هذا السياق: تعليم الأمة كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان ربه عز وجل يخاطبه هذه المخاطبة، ويتلطف به هذا التلطف؛ فعلينا أيضاً أن نلزم هذا الأدب في مقامه وجنابه صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب. وقال القاضي عياض في الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، وهذا كتاب من الكتب الأساسية، ولا يليق أبداً بطالب علم أن يفرط فيه، كما أن طالب العلم لا يليق به أنه لا يقرأ في رياض الصالحين، والأذكار النووية، وزاد المعاد، وهذه الكتب من الطبيعي جداً لطالب العلم أن يمر عليها، ولا يليق به أبداً أن يمر عمره دون أن يطلع على هذه المجموعة من الكتب. يقول القاضي عياض : وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي فلا يعد معصية، ولم لا يعد معصية؟ لأنها لا تكون معصية إلا إذا تقدم فيما مضى نهي خالفه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وكون هذا الفعل لم يتقدمه نهي فيبعد أن يكون معصية، والله سبحانه وتعالى لم يعدها عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك، وحتى القول بأنها معاتبة اعترض عليه بعض العلماء وقالوا: هذه ليست معاتبة. قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيراً في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، فما دام لم ينزل وحي ينهاه عن الإذن لهؤلاء المنافقين فهو بالخيار في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف وقد قال تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62]؟! فأيدوا بهذه الآية القول بأنه لا عتاب، حتى العتاب غير مقصود في هذه الآية، كيف ولم يتقدم وحي ينهاه؟ ثم أيضاً الله سبحانه وتعالى خيره فقال: (فأذن لمن شئت منهم)، فلما أذن لهم أعلمه الله سبحانه وتعالى بما لم يطلع عليه من سرهم، ولو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، فالآن هم يتسترون وراء إذن النبي عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى بين لنبيه أنهم أضمروا شراً، وعزموا بالفعل على التخلف، فلو لم تأذن لهم لافتضحوا وظهر هذا الذي معهم، وهم في الحالتين سواء أذنت لهم أو لم تأذن لهم ما كانوا ليخرجوا، وقد عقدوا قلوبهم على التخلف. يقول: فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، وأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، ولم تجب عليهم قط، يعني: لم يلزمهم ذلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة . ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب. من لم يعرف كلام العرب، وهذا تعريض بـالزمخشري ؛ لأنه هو الذي قال هذه العبارة، قال: ومعنى عفا الله عنك أي: لم يلزمك ذنباً، وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته، ومن عورات الكشاف للزمخشري في هذه الآية أنه عبر هذا التعبير الذي رفضه العلماء حينما قال: إن العفو لا يكون إلا عن ذنب. وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة، قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأ وبئسما فعل، هب أنه كناية، أليس إيثاره على التصريح بالكناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب؟! يعني: حتى لو كانت جناية ألا تلاحظ التلطف هنا في هذا، فكيف يعبر هذا التعبير القبيح؟ لأن هذا لا يليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبيح، واستتباع اللائمة، بحيث هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما -وهو في التفسير قال: بئسما- أيجوز استعمال هذه العبارة المنبئة عن بلوغ القبح إلى ردة يتعجب منها؟ لأن بئس هذه يتعجب فيها بالذم، فأين هو في قوله: بئسما ما فعلت، من تعظيم الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه وتلطفه معه في الخطاب؟! ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، وقد كرهه الله سبحانه وتعالى، أي: أن خروجهم كان مبغوضاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46]، فقد كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير يعني: أول كل شيء، كان يبدو من الأول، ويفتضحون من أول كل شيء، نعم كان الأولى تأخير الإذن، حتى يفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش بالأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم؛ لأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك. بعضهم يحاولون أن يخففوا من الخطأ الذي ارتكبه الزمخشري فقالوا: إنه يقصد أن الأصل في استعمال هذا التعبير: (عفا الله عنك) أنه يكون فيما يكون فيه جناية، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه، وإذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطأ فيه، قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى.

استدل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد، كما قال الرازي. وقال السيوطي في الإكليل: استدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ، ولكن ينبه عليه بسرعة. قال الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب والإبعاد. وقيل: نفي الفعل للمستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى: (لا يستأذنك) معناه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر). قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا [التوبة:44] إلى آخره، فهذا بيان أن هذا شأن المؤمنين، وأنه لا يقع منهم هذا الفعل، فهو ينفي هذا الأمر ووقوعه في المستقبل، وواضح أن هذه الصيغة تفيد الاستمرار. فهذا الأدب ينبغي أن يتحراه ويقتفيه المؤمن مطلقاً، فلا يليق المرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، إذ ليس من الأدب ولا المروءة أن تقول للضيف: هل أكلت أم لا؟ لكن تحضر الطعام، هذا هو الكرم، وهذه هي المروءة الإسلامية، يحضر له الطعام ما دام يملكه؛ لأنه قد يحرج ويقول لك: لا، لكن الأصل أن الإنسان يقدم الطعام دون استئذان. وعندما نراجع أخلاق الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنه ما قال لهذا الوفد الذي أتاه: هل أحضر لكم طعاماً؟ أو: هل أنتم محتاجون إلى طعام؟ لا، المقصود من أدب الأخوة: ألا يحوج أخاه أن يطلب منه شيئاً، يعني: إذا انتظرت حتى يطلب منك أخوك الإعانة على معروف أو على أمر يحتاجه، فهذه درجة متدنية من الأخوة، ومن التقصير أن يحوج أخاه إلى أن يطلب منه، والمقصود: أنه يتوخى ويتحرى حاجة أخيه، وكيف يسدها له قبل أن يلجئه إلى الطلب منه. يقول هنا: فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، أي: أنه لم يكن يظهر أمامهم استعداداً بأنه يهيئ نفسه للضيافة، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تبارك وتعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] (فراغ) أي: اختفى وما أظهر لهم أنه يستعد وليس بمرأى من ضيوفه، فلا يتصل بالتليفون بالمحل أمام الضيوف أحضر كذا وكذا، ولا يظهر أنه يعد طعاماً، لا، بل اختبأ يعد في السر، ثم يعرضه عليهم، والمهتم بأمر ضيفه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، إن كان معك ضيف وفي الطريق تشتري له كذا وكذا من المشروب والأكل، هذا أيضاً فيه إظهار التهيؤ للضيافة، وكأنك تستأذنه: هل أضيفك أم لا؟! والكريم يعرض الطعام على الضيف ثم إذا شاء أكل، وإن شاء امتنع عن الطعام، لكن لا يستأذن الضيف، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو القوة. وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين: التثاقل عن المبادرة إليه، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شأنهم لعلو كعبهم في الإيمان وشرفهم وعلو هممهم، لا يمكن أن يقع منهم أبداً استئذان في الخروج عن الجهاد، ولا يمكن أن يستأذنوا أبداً، فهذا ليس من شأن المؤمنين: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا [التوبة:44]. وأشد من ذلك ليس فقط الاستئذان كما فعل المنافقون، بل أشد من ذلك أيضاً: التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، فقد حضهم الرسول عليه السلام وناداهم وكلفهم، ثم بعد ذلك اعتذروا واستأذنوا في الخروج! وأسوأ أحوال المتثاقل وقد دعي الناس إلى الغزاة: أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق، نعوذ بالله من التعرض لسخطه!

بين الله تعالى جلياً شأن أولئك المنافقين المستأذنين بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة، ولذلك خذلهم، فقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) يعني: قوة من مال وسلاح وزاد، ونحو هذا. (ولكن كره الله انبعاثهم) أي: نهوضهم للخروج، (فثبطهم) كسلهم وضعف رغبتهم، (وقيل اقعدوا مع القاعدين) يعني: مع النساء والصبيان. ودل قوله تعالى: (لأعدوا له عدة) على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح، وجميع ما يستعان به على العدو هو من جملة الجهاد، فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك، يعني: الزكاة مثلاً إذا أخرجت في سبيل الله تصرف أيضاً في العدة من السلاح وغيره، وهذا جلي فيما يتقوى به من العدة كالسلاح، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك مما يضعف به قلب العدو فهو داخل في الجهاد، يعني: دخول السلاح دخول جلي، أما هذه الأشياء فالظاهر أنها أيضاً تدخل فيه، وقد قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، ويكون ذلك كلباس الحديد حالة الحرب، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى الترف. (( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ))، للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين أن يخرج للجهاد، فإذا علم من شخص أنه مثبط مخذل، أو يخرج لأجل الإضرار، أو يتجسس على المسلمين؛ فللإمام أن يمنعه من الخروج، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل. (وقيل اقعدوا مع القاعدين) قيل: إنه تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، يعني: نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر والقول؛ كقوله تعالى: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، قال: موتوا يعني: أماتهم ثم أحياهم. أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود. وقوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا)، كان يمكن أن يقول: وقيل: كونوا مع القاعدين، لكن قال: (اقعدوا مع القاعدين). قال الزمخشري : فإن قلت: ما معنى قوله: (مع القاعدين)؟ قلت: هو ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى، الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87]، وهذا وصف لهم بدناءة وخفة الهمة أن يرضوا بأن يكونوا مع النساء والصبيان وهؤلاء الخوالف. قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة -أي: الزمخشري -، ونزيده بسطاً فنقول: لو قيل: اقعدوا مقتصراً عليه لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك لو قال: كونوا مع القاعدين، فإن كلاهما يفيد الأمر بالقعود وحسب، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، لكن لما قال: (اقعدوا مع القاعدين) أي: رضيتم لأنفسكم أن تندرجوا في وسط النساء والصيبان، واستويتم بالنساء والصبيان والمرضى الذين أمراضهم مزمنة؟! ولعن الله فرعون لما بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ولم يقل: لأجعلنك مسجوناً، لمثل هذه النكتة من البلاغة: (لأجعلنك من المسجونين) يعني: من المسجونين الذين تعرف حالهم، وما يعانونه من كذا وكذا، وهذه الفائدة لا تظهر لو قال: (لأسجننك)، أو لأجعلنك مسجوناً، لكن قال: (لأجعلنك من المسجونين).

ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]. (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) أي: إلا فساداً وشراً. (ولأوضعوا خلالكم) لأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد. قال الشهاب : الإيضاع: إسراع سير الإبل، يقال: وضعت الناقة تضع إذا أسرعت، وأوضعتها أنا، والمراد هنا: ولأوضعوا خلالكم: أسرعوا وتحركوا في وسط صفوفكم بالنمائم -جمع: نميمة- ينشرون النميمة والإفساد بين صفوف المسلمين، ولذلك قال تعالى هنا: (ولأوضعوا خلالكم) يعني: أوضعوا، كأنهم يركبون الإبل ويتحركون بها وسط المسلمين ليشيعوا النميمة والإفساد. فقيل: المفعول مقدر وهو النمائم، ولأوضعوا خلالكم، يعني: النمائم، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها، وأثبت لها الإيضاع، ففيه استعارة تخييلية أو مكنية، وقيل: شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل. (ولأوضعوا خلالكم) جمع خلل. (يبغونكم الفتنة) يطلبون لكم ما تفتنون به لإيقاع الخلاف فيما بينكم، وإلقاء الرعب في قلوبكم، وإفساد نياتكم. (وفيكم سماعون لهم) منقادون لقولهم، مستحسنون لحديثهم، وإن كانوا لا يعلمون حالهم لضعف عقولهم؛ فيتوهمون منهم النصح والإعانة، وهم يريدون التخذيل والفتنة، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير : أي: فيكم عيون وفيكم سماعون لهم؛ وقيل: فيكم عيون يسمعون لهم أخباركم وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة للسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين. (والله عليم بالظالمين) يعني: لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وفيه شمول للفريقين: القاعدين والسماعين.

ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة، أي: أن هذا مجرب، وهو ديدنهم ودأبهم فيما مضى، قال الله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:48] أي: طلبوا الشر بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول حين انصرف بثلث الجيش يوم أحد عن المسلمين. (وقلبوا لك الأمور) يعني: دبروا لك الحيل والمكائد، ودوروا الآراء في إبطال أمرك. قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد، فتقليبها مجاز عن تدبيرها، أو تقليبها: تفتيشها وإزالتها، (وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق) وهو تأييدك ونصرك وظفرك. (وظهر أمر الله) أي: علا دينه. (وهم كارهون) أي: على رغم منهم. قال ابن كثير : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه، يعني: هذا أمر قد أقبل، فدخلوا في الإسلام ظاهراً ثم لما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.

قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. (ومنهم من يقول ائذن لي) في القعود، (ولا تفتني) أي: لا توقعني في الفتنة. روي عن مجاهد وابن عباس : أنها نزلت في الجد بن قيس أخي أبي سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في الاستعداد للجهاد: (هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟! -يعني: في جهاد بني الأصفر وهم الروم- فقال: يا رسول الله! أوتأذن لي ولا تفتني؟ عافني من ذلك، ائذن لي ألا أذهب ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد أذنت لك). قال الشهاب : كان يخشى العشق لهن، أو مواقعتهن من غير حل. وبنو الأصفر هم: الروم، وقيل في وجه التسمية وجوه، منها: أنه ملكهم بعض الحبشة فتولد بينهم أولاد ألوانهم ذهبية. و الجد بن قيس هذا من بني سلمة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوأ من البخل؟! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض؛ بشر بن البراء بن معرور). (( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا )) قال أبو السعود : أي: في عينها ونفسها، فرغم أنهم يخافون الذهاب لجهاد الروم فيقعوا في الفتنة، والذي فعلوه هو نفسه الفتنة وعينها. قال: وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به. ( سقطوا ) لا في شيء مغاير لها، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً منها. يعني هذا القعود وهذا التخلف ليس مهرباً أو مخلصاً من الفتنة، وإنما هو عين الفتنة التي يزعمون أنهم يريدون أن يهربوا منها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الاعتذارات الكاذبة. وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ (من) - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]- وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه مع تقديم الظرف -(ألا في الفتنة)- إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجىً من الفتنة، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن. وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين. (( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ )) أي: يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا.

بين تعالى عداوة المنافقين زيادة في تشهير مساوئهم فقال سبحانه وتعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]. ( إن تصبك حسنة ) يعني: فتح وظفر وغنيمة (تسوءهم) أي: يسيئهم ذلك؛ لشدة عداوتهم لك. ( وإن تصبك مصيبة ) يعني: نوع من الشدة. ( يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) نحن قد احتطنا، وأخذنا بالقعود. (من قبل) أي: من قبل إصابة المصيبة، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم، أي: كنا أذكياء، وكنا نحسن التفكير حينما حزمنا أمرنا، ولم نخرج إلى الجهاد، وهم قد أظهروا الفرح برأيهم ( وهم فرحون ) برأيهم، وبما أصابكم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع