أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد جل وعلا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، أسمع الله به آذاناً صماً، وأحيا به قلوباً ميتة، وزادنا وببعثته هدى من بعد ضلالة، ورشداً من بعد غي، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً وأنى يممت إلى قطر وجدت مسلمين!

هذا الدين في كل صقع من الأرض له أتباع تخفق به قلوبهم اعتقاداً ويقيناً، وتجسده جوارحهم التزاماً وامتثالاً، ويظهرون محاسنه دعوة واقتداءً، ونجد ذلك تصديقاً لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)، هذا الدين الذي نجد الدنيا كلها منشغلة به حتى وإن كان انشغال الأعداء .. حتى وإن كان على سبيل الكذب والافتراء .. حتى وإن كان على سبيل العدوان والاعتداء؛ فإن هذا الانشغال دليل على عظمة الإسلام، وكل أمر يشغل الناس ولو بالمعارضة دون التأييد فدليل على قوته وأثره وأهميته.

وثمة أديان أخرى أصلها سماوي، وإرثها نبوي، وهي في عقر ديارها اليوم لا يذكرها أحد، أجيالهم الجديدة اليوم لا تعرف شيئاً عن ذلك الدين، ولا عن إرثهم التاريخي، ولا يشهدون أماكن العبادة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن هذا الدين، بل إنهم يصرحون بأنهم لا يعرفون ديناً، ولا يلتزمون عقيدة أو يقيناً بأي شيء من الأشياء، بل إنهم كذلك يهاجمون أحياناً دينهم، ويرونه صورة من صور التخلف أو التقيد وعدم الفاعلية في الحياة.

إن الإنسان ليعجب كثيراً وهو يرى ذلك، وبعض المسلمين ربما ينظر إلى الجانب المظلم، وإلى الجانب الذي يرى فيه هذا العداء المتعاظم، وذلك الكيد الكبار، وتلك المؤامرات المتواصلة، ولا يرى كيف يشرق الإسلام في كل يوم على قلوب جديدة لم تعرفه، فإذا بها تقبل عليه وتعتنقه، ولا ينتبه أيضاً إلى فئام من المسلمين ضلوا في دروب الحياة، وغرقوا في شهواتها، وكل يوم يستيقظ منهم ويعود إلى الذكر من بعد الغفلة وإلى الالتزام من بعد الفتور والتفريط، فئام وجماهير من المسلمين.

إن مستقبل الإسلام قطعاً ويقيناً هو المستقبل الذي سيملأ هذه الدنيا كلها عدلاً وإنسانية، كما سيقيم فيها الخلق الفاضل، والنهج المستقيم، وذلك بقدر الله وقوته، وما اقتضته سنته التي جعلت وجود هذا الدين في هذه الحياة يعتمد على ما يقوم به المسلمون: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فسنة الله لا تحابي أحداً، وسنة الله لا تتغير: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].

لو كانت السنة الربانية تحابي أحداً لكان أولى الناس بذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما خالف بعض أصحابه في غزوة أحد أمراً من أوامره دارت الدائرة عليهم، وكانت دائرة مؤلمة، ذهب ضحيتها سبعون من الشهداء، وكان فيها جرح غائر عظيم في نفوس المؤمنين، وجاءت الآيات: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

الإسلام دين عظيم، والمسلمون فيهم عاملون فضلاء، وفيهم غافلون سفهاء، وفيهم معاندون أقرب إلى الأعداء، ويوم ينطبق ما بين أهل الإسلام ودينهم فحينئذ لن تقوم في وجههم قائمة، ولن تستطيع أن تعترض مسيرتهم قوة، وسوف يجددون ما كان من تاريخ أسلافهم، ويعيدون ما مضى من أمجادهم؛ لأن تلك هي سنة الله عز وجل.

أنتم معاشر المسلمين تملكون أعظم شيء في الوجود، إنه الدين الذي يسير الحياة ويقودها، ويدخل في كل جزئية من جزئيات الحياة، ويؤثر في جميع الأحياء بل وفي غير الأحياء؛ لأنه شامل لكل شيء في الحياة.

نحن أمة الإسلام أمة القرآن المحفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، أمة القرآن الذي فيه شفاء للناس: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، شفاء أمراض الحس، وأمراض المعنى، أمراض القلوب، وأدواء النفوس، وضلالات العقول.

كل شيء في كتاب الله، ففيه الهداية التامة: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].

نحن أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، أمة الرسول الذي مثل كل جوانب الحياة، فكان هو المؤمن العابد، وكان هو القاضي العادل، وكان هو الحاكم النزيه، وكان هو القائد الشجاع، وكان هو الزوج الرحيم، وكان هو المربي العظيم، وكان هو الصاحب الوفي، فكل جانب من جوانب الحياة نرى فيه صورة مثلى، وقدوة عظمى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].

نحن أمة الإسلام أمة الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، ليس بعد هذا الدين دين، وليس بعد هذه الرسالة رسالة، جعل الله سبحانه وتعالى فيها كل ما يصلح الناس في سائر الأزمان والأمكنة إلى قيام الساعة، فما بال المسلمين؟

دعوني أنقل لكم بعض الصور في بلاد بعيدة من خلال أقليات مسلمة، لنرى أن من قام بالإسلام وعمل به كان له دور وأثر، وأن هناك من ضيع وفرط، وأن الخير في هذه الأمة يزداد ويتضاعف، ويوم يتقلص الشر والفساد والإفساد فسوف تتنزل علينا من رحمات الله ما حجبت بسبب الذنوب والمعاصي والآثام: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، تلك هي سنة الله عز وجل.

في أقصى شمال الأرض التي في بعض بقاعها ومناطقها تمر بهم أيام ليس فيها نهار أبداً، أو نهار ليس فيه ليل أبداً، ووجدت فيها مسلمين يأتون ليفرغوا أنفسهم وأوقاتهم ويتركوا أهلهم وأعمالهم ليتعلموا دينهم، ويسألوا عن صلاتهم وصيامهم وسائر أوضاعهم.

ورأيت في تلك المجتمعات صوراً أخرى متناقضة، صوراً ممسوخة نسيت دينها، وانسلخت من تاريخها، وتجردت من أصولها، وأصبحت نموذجاً مشوهاً للضياع والتيه.

وفي بلد أخرى مسجد للمسلمين مهدد بالضياع؛ لأنهم لا يملكون تسديد باقي قيمته، وفي الوقت نفسه في تلك البلاد تاجر فاجر يملك الملايين وهو منتسب إلى الإسلام، لا يعرف طريق المسجد، ولا يدري أين موقعه، وتدور الدائرة عليه ويصبح رهين السجن نتيجة لتلاعبه وتحايله!

وفي بلد آخر لقيت جمعاً من الناس يفضون بهمومهم، فإذا هي حول تعليم أبناء المسلمين، كيف ينشئون المدارس في الأوقات الإضافية في آخر الأسبوع ليعلموا العلوم الإسلامية واللغة العربية، ليحفظوا الهوية، ويجعلوا الجيل القادم جيل إسلام وطهر ونقاء، وعلى مقربة منهم ببضع خطوات لا أكثر سياح من بلاد الإسلام والمسلمين، يبذرون الأموال في الملاهي وشرب الخمور والعهر والفساد، كأنما الإنسان يرى التناقض العجيب والصورة المتعارضة؛ فيدرك أن سنة الله عز وجل تمضي بقدر الله عز وجل؛ ليكون في ذلك بإذنه جل وعلا خير عاجل غير آجل إن شاء الله.

وصورة أخرى أنقلها لنرى هذا التناقض الذي يكاد يعرفه كل الناس: سائق أجرة مسلم في عاصمة غربية كبرى ركبت وحدثته، فحدثني بغيظ عظيم، وبألم كبير؛ لأنه يجوب الطرقات ويركب معه من بلاد الإسلام والعرب كثير من الناس، ويرى في حالهم وسلوكهم ما يفطر قلبه، ويحير عقله، وأخبرني عن قصة واحدة، قال:

ركبت معي امرأتان متحجبتان تغطيان وجوههما، لكنني عجبت من المكان الذي تقصدانه، إنهما تطلبان مني أن أوصلهما إلى مكان هو واحد من الملاهي التي يفعل فيها كل أنواع الفسق والفجور، وعند الدخول لم يكن هناك حجاب ولا غطاء، وكان حارس المكان -وهو أجنبي- يضرب على الظهور ويشجع ويرحب ويقدم.

هذه الصور المتناقضة تبين لنا قضية مهمة، لو أننا استطعنا أن نعرف ما هو السر الذي جعل أولئك عاملين فضلاء مهتمين حريصين على دينهم، ولماذا كان هؤلاء غافلين يقومون بمثل هذه الأعمال ولا يكادون يذكرون أمر أمتهم ولا شأن دينهم؛ لو عرفنا الأسباب واستطعنا أن نعالجها لاستطعنا بإذن الله أن نكثر من الجانب الأول، وأن نقلل من الجانب الثاني.

ولعلي أذكر صورة أخيرة قبل أن أمضي إلى التنبيه على ما نحتاج إليه: في البلاد الغربية وفي بعض العواصم الكبرى منها على وجه الخصوص، من أبرز برامج الصيف في تلك العواصم الغربية: الأغاني العربية، يحضرها مغنون يسافرون من بلاد العرب، وجمهورهم من السياح الذين يسافرون أيضاً، فإنه لن يحضر هذه الأغاني من لا يعرف العربية، فتعجب لماذا تغادرون بلادكم وتنفقون أموالكم لتستمعوا إلى المغنين الذين بدياركم؟! لترى كيف تكون العقول والنفوس إذا شردت وبعدت عن طريق الله عز وجل!

أمور كثيرة نحتاجها، غير أني أذكر ثلاثة منها هي محور الحديث وجوهره، وهي لب القضية وأساسها:

الوعي والفهم والإدراك

أولها: الوعي والفهم والإدراك:

أنت أيها المسلم هل تعي دورك؟ هل تفهم رسالتك؟ هل تدرك غاية وجودك؟ هل تعرف تاريخك؟ هل تدرك صورة وصفة أمتك؟

يوم يحصل ذلك يتغير الأمر باتجاه ما يستقر في القلب من مشاعر وعواطف، وما يجول في العقل من أفكار وخواطر، وما تمارسه الجوارح من أفعال وأحوال، إننا معاشر المسلمين نحتاج أن نركز كثيراً على حقيقة إسلامنا وإيماننا، وأن غاية الوجود في الحياة عبادة الله وإعمار الحياة، تلك هي الرسالة التي جاء بها الإسلام: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

وإعمار الحياة أن نقود هذه الحياة في تقنياتها وصناعتها، وفي كل جانب من جوانبها باسم الله، وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في الحياة اقتصاد إلا وهو ملتزم نهج الإسلام، ولا سياسة إلا وهي منضبطة بضوابطه، ولا علم إلا وهو قائم على أسسه العامة، وعلى مراميه ومقاصده الكلية، ويوم يكون ذلك كذلك يتجدد فينا ما كان في أسلافنا، يوم عمروا الكون بالمساجد والمحاريب ومدارس العلم والقرآن، ويوم عمروا الدنيا كذلك بكل المخترعات والعلوم التي سبقوا فيها غيرهم، والتي أسست حضارة اليوم على تلك النهضة العلمية العملية التجريبية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، وفي بغداد، وفي دمشق، وفي حواضر العالم الإسلامي كله.

إن قضيتنا في فهم رسالتنا وإدراك عمقها وشمولها لجوانب الحياة، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة إسلام ثم نكون أمة تخلف، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة قرآن ونكون أمة جهل، لم تكون نسب الجهل ونسب الأمية في البلاد العربية والإسلامية أكثر من غيرها؟ ولم لا تكون النهضة العلمية والصناعية في البلاد الإسلامية؟ لم نحن في آخر الركب؟

لأننا لم نفقه الدين فقه الحياة المطلوب والمنشود.

كتب أحد المؤرخين الغربيين في عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية -أي قبل نحو سبعين عاماً- يتكلم عن بعض البلاد وعين معها ثلاث دول إسلامية قال: هذه الدول فيها من القدرات والطاقات، ولها من الأعمال والمنجزات ما أظنها ستكون به مثل الدول المتقدمة وتنافسها.

واليوم وبعد سبعين عاماً من هذه المقولة نجد هذه الدول وقد صار بينها وبين تلك الدول بوناً شاسعاً ومسافة هائلة، كانت إحدى هذه الدول هي الدولة الثانية في العالم في تصنيع القطن، واليوم نجد هذه وغيرها في ذيل القائمة، لماذا؟ لأن المسلمين لم يفقهوا حقيقة دينهم وظنوه في جانب من الجوانب، وحتى تلك الجوانب التعبدية والإيمانية أخلوا بها انحرافاً وابتداعاً، أو تقصيراً وتفريطاً، أو أنها كانت صوراً ظاهرة لا حقيقة لها في قلوبهم، ولا أثر لها في نفوسهم، ولا وجود لها في واقعهم، وذلك ما ينبغي أن نلتفت إليه يوم أن ندرك ونعرف غايتنا، ونعرف ما الذي نقدمه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

هل هذه الأمور هي المقدمة في حياتنا؟ هل هي الشاغلة لفكرنا؟ هل هي التي تنقضي فيها أوقاتنا؟ هل هي التي تتعلق بها قلوبنا؟

إذاً: فكيف سنكون عابدين لله، وكيف سنجعل الحياة محراب عبادة وطاعة لله؟ وكيف سنقود الحياة على منهج الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

تلك غاية مهمة، ورسالة عظيمة، وفقه أصيل يوم فقهه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعرفوا حق هذا الدين، كان الواحد منهم يسلم في لحظة فيتغير فكره وشعوره وعاطفته وعمله وسلوكه وعلاقاته وصلاته؛ لأنه ينصبغ بصبغة جديدة: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].

يوم يفقه المسلمون حقيقة هذا الدين، ويفهمون غايتهم في هذا الوجود يكونون كما كان أسلافهم، ويجددون ما هو بحمد الله موجود في بعض أفرادهم، وفي جماعات وفئام كثيرة منهم اليوم، ويكون لذلك أثره ونفعه بإذن الله.

العمل والبذل والتضحية

الأمر الثاني: العمل والبذل والتضحية:

لا يمكن أن تجد ثمرة بدون عمل، ولا نتيجة بدون جهد، تلك سنة من سنن الكون والحياة، من يريد المال ألا يبذل ويتعب، من يريد الرقي في الوظائف ألا يجتهد ويبذل، من يريد تحقيق أي غاية ألا يسعى إليها، وقد يواصل ليله ونهاره: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].

لا يغنينا الانتساب إلى الإسلام، ولا يكفينا الانتماء إلى الإيمان، ولا يعفينا من القيام بمهماتنا أننا من بلاد الحرمين أو من هذه البلاد أو تلك، أو أننا من أولئك القوم أو من نسلهم، فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد اعملي، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس اعمل، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً)، وفي حديث آخر قال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

إن الانتساب للدين، والانتماء للأمة، لابد أن يكون له حقيقة يصدقها العمل والبذل لا في ذات الإنسان نفسه بل في كل الدوائر، فأنت مسئول عن نفسك: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وأنت مسئول عن أهلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وأنت مسئول عن الأمة كلها بما ينبغي عليك من أمر بمعروف ونهي عن منكر: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]؛ يوم نفقه ذلك نتذكر ما كان عليه عمر رضي الله عنه، يوم كان لا ينام ليله حتى يعس ويتفقد أحوال المسلمين، حتى قال: (لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها).

يوم كانت المسئولية العظيمة تملأ القلوب فتزهد في الدنيا، ويبذل أصحابها قمة البذل والعمل، حتى وقف عقبة بن نافع على شاطئ الخضم والبحر العظيم يقول: والله لو كنت أعلم أن وراءك قوماً لخضتك مجاهداً في سبيل الله، ومبلغاً لدين الله. يوم تكون قمة الفهم والوعي والإدراك مستقرة في القلوب، تتحرك النفوس بالعمل وتعلو الهمم، ويكون للمسلمين بذل وعطاء عظيم.

التعاون والتكامل

وأخيراً: التعاون والتكامل:

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، نحن أمة الإسلام .. أمة الإخاء .. أمة الوحدة .. أمة الارتباط: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، والله عز وجل قد بين لنا أن أعظم منة منَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم هي التأليف بين القلوب الذي يتبعه توحيد بين الصفوف، ويتبعه تكامل في العمل ومواجهة الأعداء، كما أخبرنا الله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103].

وكما صور لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قضية التكامل بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وقوله: (مثل المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى) ، وقوله: (المؤمن مرآة أخيه)، أين هذه المعاني والفرقة قد دبت والخلاف قد استشرى، والكل قد أدبر عن أخيه؟

ولكننا نجد هذه الدعوة إلى هذا الائتلاف والانسجام مع وجود وتضاعف العداء بحمد الله تلقى صدىً واسعاً، فقد جعل الله سبحانه وتعالى من حكمته ورحمته تسلط الأعداء سبباً في تكتل المسلمين وتقاربهم.

نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يجعلنا في سبيله ولدعوته باذلين وعاملين، وأن يجعلنا على نهجه وعلى الإيمان به وعلى متابعة رسوله مؤتلفين ومتفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أولها: الوعي والفهم والإدراك:

أنت أيها المسلم هل تعي دورك؟ هل تفهم رسالتك؟ هل تدرك غاية وجودك؟ هل تعرف تاريخك؟ هل تدرك صورة وصفة أمتك؟

يوم يحصل ذلك يتغير الأمر باتجاه ما يستقر في القلب من مشاعر وعواطف، وما يجول في العقل من أفكار وخواطر، وما تمارسه الجوارح من أفعال وأحوال، إننا معاشر المسلمين نحتاج أن نركز كثيراً على حقيقة إسلامنا وإيماننا، وأن غاية الوجود في الحياة عبادة الله وإعمار الحياة، تلك هي الرسالة التي جاء بها الإسلام: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

وإعمار الحياة أن نقود هذه الحياة في تقنياتها وصناعتها، وفي كل جانب من جوانبها باسم الله، وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في الحياة اقتصاد إلا وهو ملتزم نهج الإسلام، ولا سياسة إلا وهي منضبطة بضوابطه، ولا علم إلا وهو قائم على أسسه العامة، وعلى مراميه ومقاصده الكلية، ويوم يكون ذلك كذلك يتجدد فينا ما كان في أسلافنا، يوم عمروا الكون بالمساجد والمحاريب ومدارس العلم والقرآن، ويوم عمروا الدنيا كذلك بكل المخترعات والعلوم التي سبقوا فيها غيرهم، والتي أسست حضارة اليوم على تلك النهضة العلمية العملية التجريبية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، وفي بغداد، وفي دمشق، وفي حواضر العالم الإسلامي كله.

إن قضيتنا في فهم رسالتنا وإدراك عمقها وشمولها لجوانب الحياة، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة إسلام ثم نكون أمة تخلف، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة قرآن ونكون أمة جهل، لم تكون نسب الجهل ونسب الأمية في البلاد العربية والإسلامية أكثر من غيرها؟ ولم لا تكون النهضة العلمية والصناعية في البلاد الإسلامية؟ لم نحن في آخر الركب؟

لأننا لم نفقه الدين فقه الحياة المطلوب والمنشود.

كتب أحد المؤرخين الغربيين في عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية -أي قبل نحو سبعين عاماً- يتكلم عن بعض البلاد وعين معها ثلاث دول إسلامية قال: هذه الدول فيها من القدرات والطاقات، ولها من الأعمال والمنجزات ما أظنها ستكون به مثل الدول المتقدمة وتنافسها.

واليوم وبعد سبعين عاماً من هذه المقولة نجد هذه الدول وقد صار بينها وبين تلك الدول بوناً شاسعاً ومسافة هائلة، كانت إحدى هذه الدول هي الدولة الثانية في العالم في تصنيع القطن، واليوم نجد هذه وغيرها في ذيل القائمة، لماذا؟ لأن المسلمين لم يفقهوا حقيقة دينهم وظنوه في جانب من الجوانب، وحتى تلك الجوانب التعبدية والإيمانية أخلوا بها انحرافاً وابتداعاً، أو تقصيراً وتفريطاً، أو أنها كانت صوراً ظاهرة لا حقيقة لها في قلوبهم، ولا أثر لها في نفوسهم، ولا وجود لها في واقعهم، وذلك ما ينبغي أن نلتفت إليه يوم أن ندرك ونعرف غايتنا، ونعرف ما الذي نقدمه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

هل هذه الأمور هي المقدمة في حياتنا؟ هل هي الشاغلة لفكرنا؟ هل هي التي تنقضي فيها أوقاتنا؟ هل هي التي تتعلق بها قلوبنا؟

إذاً: فكيف سنكون عابدين لله، وكيف سنجعل الحياة محراب عبادة وطاعة لله؟ وكيف سنقود الحياة على منهج الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

تلك غاية مهمة، ورسالة عظيمة، وفقه أصيل يوم فقهه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعرفوا حق هذا الدين، كان الواحد منهم يسلم في لحظة فيتغير فكره وشعوره وعاطفته وعمله وسلوكه وعلاقاته وصلاته؛ لأنه ينصبغ بصبغة جديدة: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].

يوم يفقه المسلمون حقيقة هذا الدين، ويفهمون غايتهم في هذا الوجود يكونون كما كان أسلافهم، ويجددون ما هو بحمد الله موجود في بعض أفرادهم، وفي جماعات وفئام كثيرة منهم اليوم، ويكون لذلك أثره ونفعه بإذن الله.