كيف تقوي إيمانك؟ (1)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.

وبعــد:

فيسر اللجنة الثقافية بجمعية التربية الإسلامية أن ترحب بكم وتشارككم في هذه الفعاليات للمخيم الشتوي، والتي نلتقي في هذه الليلة مع فضيلة الشيخ/ أبي علي نبيل العوضي إمام وخطيب جامع صفوان بن أمية بـالكويت ، وكما قد عرفه بعض الإخوة، وهو من إخواننا الطيبين والذي له أثره، وبعض أشرطته المنتشرة -ولله الحمد- قد لاقت قبولاً عند كثيرٍ من الناس.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، ونسأل الله لنا وله الإخلاص في القول والعمل.

ونترك المجال الآن مع فضيلة الشيخ ليلقي كلمته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعــد:

العنوان كما تشاهدون: (كيف تقوي إيمانك؟) والمتكلم أحوج بهذا العنوان من السامع، وكل منا أدرى بنفسه، وكما قيل:

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعفُ عني

قال بعض السلف: "لو كان للذنوب رائحة لم يطق أحدٌ أن يجلس عندي؛ ولكنه ستر الله جل وعلا". فنسأله بعد الستر العفو.

العنوان هو: (كيف تقوي إيمانك؟) اسمع يا عبد الله إلى هذه الأمثلة من قصص سلفنا وحياتهم.. كيف كانوا يعيشون وكيف نعيش؟!

الواحد منا في بداية التزامه وهدايته يكون عنده حماساً وحرصاً وذكراً وخوفاً من الجليل، أما الآن فقد تغير الحال، بدأ هذا الشاب الملتزم يستمع إلى بعض الأغاني... بدأ هذا الرجل الملتزم ينام عن صلاة الفجر.. ما الذي جرى؟

بدأ إذا مشى في الأسواق ينظر يمنة ويسرة.. ينظر لهذه ويلتفت إلى تلك.. ما الذي جرى؟

الإيمان قل وضعف، كان في السابق لا ينام الليل حتى يقومه.. أبداً لا ينام الليل كله، أما الآن فتمر عليه الليلة والليلتان والثلاث فلا يصلي حتى الوتر، كان في السابق يصوم الاثنين والخميس ويريد أكثر، أما الآن فيمر عليه الشهر وهو لا يصوم حتى ثلاثة أيام... ما الذي جرى؟

يرى المنكرات فلا يشمئز قلبه، ولا يغضب لله، ولا يتكلم.. المنكرات تلو المنكرات.. ما الذي حدث؟

إن مؤشر الإيمان قد ضعف.. يقرأ القرآن وكأنه صحيفة أو مجلة... يستمع إلى الآيات والمواعظ وكأنها حكايات.. ما الفرق وما الذي جرى؟

إنه الإيمان، فالقلب هو القلب؛ لكن الإيمان ضعف.

الحسن البصري وشدة خوفه من الله

اسمع -يا عبد الله- إلى الحسن البصري عليه رحمة الله: قام ليلة من الليالي فزعاً من نومه فأخذ يبكي! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ يبكي بكاءً شديداً حتى أبكى أهل الدار جميعاً، فلما هدأ قالوا: ما لك يرحمك الله؟

قال: ذكرت ذنباً لي فبكيت، قال الله -جلَّ وعلا- عن أحوال هؤلاء لأنهم تدبروا تلك الآيات.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] أرأيت مؤشر الإيمان! ذنب يبكيه ليلة كاملة، ونحن -والله المستعان- إلا من رحم الله ذنوبنا تترا، وآثام ومعاصٍ؛ بل حتى الكبائر والرجل يضحك ويلعب.. علامَ تلعب؟! ولِمَ تضحك وتلهو وأنت تعصي الله جلَّ وعلا؟ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15] مِمَّ تخاف؟ ومِمَّ تخشى؟ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].

هذا الحسن البصري أتعرف كيف كان يعيش؟

كان هذا الرجل يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (يخرج من النار رجل بعد ألف عام) تُرى يا عبد الله! لو حُكِيْتَ هذا الخبر ماذا تقول؟ أعوذ بالله! ألف سنة يمكث في النار؟ ونار الآخرة ضُعِّفت عن نار الدنيا بسبعين مرة، ويأكلون فيها الزقوم، والغسلين، والغساق، والصديد، والحميم.. أعوذ بالله! لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش [الأعراف:41] ألف سنة في هذه النار.. أتعرف ماذا قال الحسن البصري؟ قال: [يا ليتني أكون هذا الرجل] المهم أنني أخرج من النار، ولو كان بعد ألف عام.

اسمع -يا عبد الله- ماذا يُروَى عن الحسن البصري! يقال: إن النار كأنها لم تخلق إلا له، من بكائه وخوفه من الله، ومن قوة إيمانه.

قوة إيمان الإمام مالك بن أنس

هذا الإمام مالك رحمه الله، قام ليلة من الليالي -طوال الليل- وهو قابض على لحيته، وهو يقول: "يا رب.. يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارَين مالك تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] لا يستطيع أن ينام.. كيف ينام والنار تسعر تحته؟!

كيف ينام والجنة تزين فوقه؟!

كيف ينام من هذا حاله؟! تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].

عبد الله! هلاَّ كنا كهؤلاء؟! الذنوب كثيرة، والآثام أكثر.. هلاَّ قمنا ليلة من الليالي نبكي ونتذكر الذنوب ونحصيها ونعدها؟!

أتظن أن الله ينسى؟! أتظن أن نظرتك عندما فتحت الجريدة ونظرت للمرأة أتظن أن الله نسيها؟!

أم تظن -يا عبد الله- عندما كنت تستمع إلى تلك الأغنية ثم أغلقت الشريط أو المذياع وقد تمتعت بالسماع أتظن أن الله قد نسي، قال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].نعم! نسينا الذنوب.. لكن هل تعرف متى نتذكر؟

الجواب: إذا لقينا الله جل وعلا، وجيء بجهنم تُجر، لها سبعون ألف زمام، وتخيل ذلك المنظر.. الأنبياء، والمرسلون، والصالحون، والصديقون يجثون على الركب وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] كل الأمم تجثو على الركب، في تلك الحال كل منا يمر عليه شريط حياته، وذكريات عمره، يتذكر يوم نادته أمه فقال: لا، وأمره أبوه فقال: أف، كلٌّ مسطور.

عبد الله! يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:23] ولكن! وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] ماذا يستفيد من الذكرى؟ يتذكر كم ليلة نام عن صلاة الفجر ولم يقم إلا والشمس قد طلعت، والمصيبة أنه يضحك.. تضحك علام يا عبد الله؟!

كان السلف من الصحابة والتابعين يبكون ليس فقط إذا خرج وقت الصلاة؛ بل إذا فاتتهم صلاة الجماعة، كان الواحد منهم إذا دخل المسجد والناس قد صلوا بكى.

حاتم الأصم وقوة إيمانه ومحاسبته لنفسه

كان حاتم الأصم يجلس في بيته وقد فاتته صلاة العصر في جماعة ولم يخرج وقت الصلاة، فيصلي ويجلس في البيت، فيأتيه بعض الناس يعزونه ويواسونه، فبكى! فقالوا له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: " لو مات لي ولد لعزاني أهل الحي جميعاً، وتفوتني صلاة ولا يعزيني إلا نفر قليل، والله إن فوات الصلاة علي أشد من موت ابن لي".

عبد الله! أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كيف كان إيمانهم في القلوب كالجبال الراسية، كان الواحد منهم إذا قرأ آية لا يتحملها، يتدبر فيبكي من آية واحدة.

عبادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

اسمع لـعروة وهو يحدِّث عن أبيه عبد الله بن الزبير يقول: كنت إذا غدوت -أي: في الفجر أو الصباح الباكر- أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، وفي يوم من الأيام دخلت عليها فإذا هي قائمة تصلي -مَن؟ عائشة، مَن هِي عائشة؟ صِدِّيْقَة بنت صِدِّيْق، من أهل الجنة، وأبوها أول هذه الأمة دخولاً الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: كانت تصلي وتقرأ قوله جل وعلا: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فنظرت فإذا هي تبكي وتعيد الآية مرة ثانية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] انتظرت فإذا هي تعيد الآية مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وهي تبكي، حتى أطالت علي، فتركتُها وذهبت إلى السوق أقضي حاجة لي، فقلت: أرجع لها بعد زمن، ثم رجعت إليها بعد زمن طويل، فدخلتُ عليها في البيت فوجدتها قائمة تردد الآية نفسها وتبكي فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] .

أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كانوا إذا قرءوا القرآن ليس كحالنا اليوم، كانت الآية الواحدة توقفهم، فيتدبرون ويستشعرون ويتلذذون أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

قوة إيمان محمد بن المنكدر وخوفه من الله

اسمع لـمحمد بن المنكدر بكى بكاءً شديداً حتى أشفق عليه أهله وتضايقوا منه، لِمَ هذا البكاء ولم ذلك النحيب؟ حاولوا معه فلم يستطيعوا.

عبد الله! هم بشر كما نحن بشر، وهم يذنبون كما نحن نذنب، ولكن فرق بين قلوبهم وقلوبنا، نعم (كل بني آدم خطاء) لكن أرأيت الفرق بين التوابين وبين غيرهم.

قال الراوي: فاستدعينا صاحباً له ليهون عليه، وليخفف عليه بكاءه ونحيبه، يقول: فجئنا بـأبي حازم صاحبٌ مثله فدخل عليه يخفف عليه، فقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ أبكيت أهلك، لقد أشفقوا عليك، لم كل هذا البكاء؟ فقال له محمد بن المنكدر: يا أبا حازم أتعرف ما الذي يبكيني؟ قال: ماذا؟ قال: قول الله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كان يظن أنه إذا لقي الله فإن أبواب الجنان مفتوحة، نعم! كان يظن المسكين لما حضر بعض الدروس، أو صلى بعض الصلوات، أو قرأ بعض الآيات، ظن أنه في الفردوس الأعلى، فلما جاء يوم القيامة إذا حسناته هباءً منثوراً، وإذا أعماله كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39] .

يأيها الصالحون! لا تأمنوا مكر الله.. يأيها المتقون القائمون الصائمون! لا تأمنوا مكر الله.. كيف بمن لا يقوم الليل!

كيف بمن لا يصوم النهار!

كيف بمن لا يعرف القرآن ولا يتدبره!

كيف بمن لا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس!

كيف بمن إذا خلا بمحارم الله انتهكها وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] .

عبد الله! لا تظن أن الأمر هزلاً وضحكاً.

عبد الله! إذا جئت يوم القيامة ورأيت الأعمال كـجبال تهامة بيضاً فجعلها الله هباءً منثوراً.. ماذا تفعل؟ وماذا تقول؟ وماذا تصنع؟

هل ينفع النحيب.. أم ينفع البكاء.. أم ينفع الندم؟

اسمع إلى قول بعضهم وكأنه يحكي عن نفسه ويحكي عنا، وهذه صفة التائب المنكسر

إلهي لا تعذبني فإني      مقر بالذي قد كان مني

فكم من زلة لي في البرايا      وأنت علي ذو فضل ومني

إذا فكرت في ندمي عليها      عضضت أناملي وقرعت سني

وما لي حيلة إلا رجائي      وعفوك إن عفوت وحسن ظني

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعفُ عني

قوة إيمان ابن عمر رضي الله عنه

هذا ابن عمر! أتعرف من هو ابن عمر؟ ومن أبوه؟

إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الرجل الذي كسَّر كسرى، وقصَّر قيصر، وفتح الله به البلاد، لو كان نبيٌ في هذه الأمة لكان عمر، الملهم المحدَّث، الذي صدَّقه القرآن، وأنزلت آيات من فوق سبع سماوات تصديقاً لكلامه.

هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب يشرب في يوم من الأيام ماءً بارداً ثم بكى، فقيل له: لماذا تبكي؟ فاشتد بكاؤه، فقال: [ذكرت آية في كتاب الله -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- قالوا: وما هي هذه الآية؟ فقال: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] فعلمت أن أهل النار يشتهون الماء فيحال بينهم وبين الماء] هذا من شرب الماء البارد، فكيف بمن سكن بيوتاً مثل بيوتنا! كيف لو عاشوا مثل عيشتنا! كيف لو شربوا هذه المشروبات، وأكلوا تلك الأطعمة، ولبسوا هذه الملابس، وسكنوا هذه البيوت، ماذا تظنهم يقولون؟ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54].

قوة الإيمان عند عمر بن عبد العزيز

اسمع -يا عبد الله- إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الراشد، كان يقوم الليل يصلي -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- فإذا به يقرأ في الليل آية ويرددها الليل كله وهو يبكي! انظروا الفرق بيننا وبينه، وانظروا إلى قلوبنا وقلوبهم، وأحوالنا وأحوالهم، هذا الرجل يقرأ بنفسه الآية ثم يبكي الليل كله، أما نحن -أيها الناس وأنا أولكم- فنسأل الله ألا يكون قد ختم على قلوبنا، أتعرف ما هي هذه الآية؟ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [غافر:71] مَن هم؟ إنهم أهل النار.. أين الأغلال؟ في الأعناق، أتظنها كأغلال الدنيا؟ أم تظنها كحديد الدنيا؟ ماذا يلبسون؟ سرابيلهم -ملابسهم- من قطران -أي: نحاس منصهر- يلبسونه! تخيل.. هل تتحمل الأغلال في الأعناق إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر:71] ثم ماذا؟ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ [غافر:71-72] يسحبون على وجوههم في النار، وتخيل هذا المنظر ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] ثم يحرقون في النار، يتقلبون بل يشوون في النار كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16] أتعرف ما معنى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:16]؟ أي: ينفصل اللحم عن العظم من شدة الحر فكيف بالنار؟!

عبد الله! يتفكر في هذه الآية طوال الليل وهو يبكي ويرددها، ولكن انظر إلى حالنا! لا تظن -يا عبد الله- أنك عندما تصلي، وتحضر بعض الدروس، وتستمع إلى بعض الآيات، وتتصدق ببعض الدنانير.. لا تظن أنك قد أمنت مكر الله، لا تعرف فالأعمال بالخواتيم، فكم وكم من الناس كان صالحاً فختم له بالسوء؟!

اسمع إلى هذا الشاب الذي حفظ القرآن كله وخرج للجهاد في سبيل الله، وهذه القصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، فكان في الجهاد من أفضل الناس، يصلي بالناس، ويقرأ فيهم القرآن، ويعلمهم، فأحبه الجيش كله، وكان يختم القرآن كله، فلما وصلوا إلى معسكر الروم، وعسكروا عند حصنهم، فإذا بهذا الشاب يذهب ليقضي حاجة له، فلما ذهب نظر في الحصن فإذا فتاة نصرانية تنظر إليه، فنظر إليها.

عبد الله! إنما لك الأولى وليست لك الثانية، اصرف بصرك، ألا تحفظ القرآن؟ ألم تسمع قول الله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]؟ ما لك؟ لكنه استمر في النظر وتلذذ به، ثم خاطبها.. انظر كيف أن النظر يؤدي إلى الكلام، والكلام يؤدي للشوق، فإذا به يقول لها: كيف السبيل إليك؟ أين كتاب الله؟! فقالت له تلك الفتاة: أن تتنصر، فإذا به يطرق باب الحصن، ويعلن ردته ويتنصر، وكان قبل قليل يصلي بالناس، ويحفظ القرآن كله، فيدخل الحصن ليعانقها، فيبحث المسلمون عنه فلم يجدوه، فأسفوا عليه أسفاً شديداً، بحثوا عنه فظنوا أن الروم قد أسروه؛ بل لعلهم قتلوه، ثم رجعوا إلى بلادهم وقلقوا وحزنوا عليه حزناً شديداً، ورجعوا في السنة القادمة، وعاد الأمر مرة أخرى؛ فإذا بهم يعسكرون عند الحصن نفسه، وإذا بهذا الشاب الذي كان يصلي بهم ويحفظ القرآن يقف مع النصارى في صف واحد يرفع السلاح، فقالوا له ينادونه: يا فلان! فنظر إليهم، فقالوا له: يا فلان! ما فعلت قراءتك؟! ما فعلت صلاتك؟! ما فعل عملك الصالح؟! فقال: لقد أنسيتُ القرآن كله إلا آية واحدة لم ينساها.. أتعرف ما هي يا عبد الله؟ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2] الله أكبر! جعلها الله حسرة في قلبه، يتعذب بها إلى يوم يلقاه رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2] لا تقل: الحمد لله! أنا أصلي، وأقرأ القرآن، وأنا مسلم! لا يا عبد الله، لا تأمن مكر الله، ادعُ الله في السجود، ادعُ الله بين الأذان والإقامة، ارفع يديك، وقل: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم ما يدريك لعل الله قد لا يقبل منك حسنة، ولعل الله عز وجل لا يتقبل منك سجدة وركعة.

يأتي ابن عمر سائل، فإذا به يقول لابنه: [أعطه درهماً؟ فيعطيه درهماً، فيذهب ليتصدق، ثم قال له ابنه: يا أبتاه! هل تقبل الله منك؟ فقال ابن عمر -واسمع إلى تلك الكلمات العظيمات-: يا بني! لو علمت أن الله قد تقبل مني ما كان غائب أحب إلي من الموت] لو كان الواحد منا يعلم أن الصلاة متقبلة منه، أو أن الله تقبل منه حسنة ما كان غائب أحب إلينا من الموت. أتعرف لماذا؟ يقول: لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، ويقول: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] أي: يصلون، ويركعون، ويقومون الليل، ويصومون النهار، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وقلوبهم وجلة، أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] هذا الذي يصلي ويركع ويسجد، يخاف أن الله لم يتقبل منه، فكيف -يا عبد الله- بمن إذا جاء في الليل، وأغلق باب بيته، وجلس مع أهل بيته وفتح لهم التلفاز، فنظر إلى ما شاء، واستمع إلى ما شاء، وقلَّب المجلة فنظر فيها إلى ما شاء، وذهب إلى الأسواق يتلفت يمنة ويسرة، ويكلم من شاء، ويضاحك من شاء، ويلاعب من شاء، وينظر إلى من شاء... هذا كيف يخاف؟!

عبد الله! لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولنكن صادقين، والواحد منا يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله جل وعلا.

اسمع -يا عبد الله- إلى الحسن البصري عليه رحمة الله: قام ليلة من الليالي فزعاً من نومه فأخذ يبكي! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ يبكي بكاءً شديداً حتى أبكى أهل الدار جميعاً، فلما هدأ قالوا: ما لك يرحمك الله؟

قال: ذكرت ذنباً لي فبكيت، قال الله -جلَّ وعلا- عن أحوال هؤلاء لأنهم تدبروا تلك الآيات.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] أرأيت مؤشر الإيمان! ذنب يبكيه ليلة كاملة، ونحن -والله المستعان- إلا من رحم الله ذنوبنا تترا، وآثام ومعاصٍ؛ بل حتى الكبائر والرجل يضحك ويلعب.. علامَ تلعب؟! ولِمَ تضحك وتلهو وأنت تعصي الله جلَّ وعلا؟ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15] مِمَّ تخاف؟ ومِمَّ تخشى؟ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].

هذا الحسن البصري أتعرف كيف كان يعيش؟

كان هذا الرجل يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (يخرج من النار رجل بعد ألف عام) تُرى يا عبد الله! لو حُكِيْتَ هذا الخبر ماذا تقول؟ أعوذ بالله! ألف سنة يمكث في النار؟ ونار الآخرة ضُعِّفت عن نار الدنيا بسبعين مرة، ويأكلون فيها الزقوم، والغسلين، والغساق، والصديد، والحميم.. أعوذ بالله! لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش [الأعراف:41] ألف سنة في هذه النار.. أتعرف ماذا قال الحسن البصري؟ قال: [يا ليتني أكون هذا الرجل] المهم أنني أخرج من النار، ولو كان بعد ألف عام.

اسمع -يا عبد الله- ماذا يُروَى عن الحسن البصري! يقال: إن النار كأنها لم تخلق إلا له، من بكائه وخوفه من الله، ومن قوة إيمانه.

هذا الإمام مالك رحمه الله، قام ليلة من الليالي -طوال الليل- وهو قابض على لحيته، وهو يقول: "يا رب.. يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارَين مالك تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] لا يستطيع أن ينام.. كيف ينام والنار تسعر تحته؟!

كيف ينام والجنة تزين فوقه؟!

كيف ينام من هذا حاله؟! تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].

عبد الله! هلاَّ كنا كهؤلاء؟! الذنوب كثيرة، والآثام أكثر.. هلاَّ قمنا ليلة من الليالي نبكي ونتذكر الذنوب ونحصيها ونعدها؟!

أتظن أن الله ينسى؟! أتظن أن نظرتك عندما فتحت الجريدة ونظرت للمرأة أتظن أن الله نسيها؟!

أم تظن -يا عبد الله- عندما كنت تستمع إلى تلك الأغنية ثم أغلقت الشريط أو المذياع وقد تمتعت بالسماع أتظن أن الله قد نسي، قال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].نعم! نسينا الذنوب.. لكن هل تعرف متى نتذكر؟

الجواب: إذا لقينا الله جل وعلا، وجيء بجهنم تُجر، لها سبعون ألف زمام، وتخيل ذلك المنظر.. الأنبياء، والمرسلون، والصالحون، والصديقون يجثون على الركب وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] كل الأمم تجثو على الركب، في تلك الحال كل منا يمر عليه شريط حياته، وذكريات عمره، يتذكر يوم نادته أمه فقال: لا، وأمره أبوه فقال: أف، كلٌّ مسطور.

عبد الله! يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:23] ولكن! وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] ماذا يستفيد من الذكرى؟ يتذكر كم ليلة نام عن صلاة الفجر ولم يقم إلا والشمس قد طلعت، والمصيبة أنه يضحك.. تضحك علام يا عبد الله؟!

كان السلف من الصحابة والتابعين يبكون ليس فقط إذا خرج وقت الصلاة؛ بل إذا فاتتهم صلاة الجماعة، كان الواحد منهم إذا دخل المسجد والناس قد صلوا بكى.

كان حاتم الأصم يجلس في بيته وقد فاتته صلاة العصر في جماعة ولم يخرج وقت الصلاة، فيصلي ويجلس في البيت، فيأتيه بعض الناس يعزونه ويواسونه، فبكى! فقالوا له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: " لو مات لي ولد لعزاني أهل الحي جميعاً، وتفوتني صلاة ولا يعزيني إلا نفر قليل، والله إن فوات الصلاة علي أشد من موت ابن لي".

عبد الله! أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كيف كان إيمانهم في القلوب كالجبال الراسية، كان الواحد منهم إذا قرأ آية لا يتحملها، يتدبر فيبكي من آية واحدة.

اسمع لـعروة وهو يحدِّث عن أبيه عبد الله بن الزبير يقول: كنت إذا غدوت -أي: في الفجر أو الصباح الباكر- أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، وفي يوم من الأيام دخلت عليها فإذا هي قائمة تصلي -مَن؟ عائشة، مَن هِي عائشة؟ صِدِّيْقَة بنت صِدِّيْق، من أهل الجنة، وأبوها أول هذه الأمة دخولاً الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: كانت تصلي وتقرأ قوله جل وعلا: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فنظرت فإذا هي تبكي وتعيد الآية مرة ثانية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] انتظرت فإذا هي تعيد الآية مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وهي تبكي، حتى أطالت علي، فتركتُها وذهبت إلى السوق أقضي حاجة لي، فقلت: أرجع لها بعد زمن، ثم رجعت إليها بعد زمن طويل، فدخلتُ عليها في البيت فوجدتها قائمة تردد الآية نفسها وتبكي فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] .

أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كانوا إذا قرءوا القرآن ليس كحالنا اليوم، كانت الآية الواحدة توقفهم، فيتدبرون ويستشعرون ويتلذذون أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].