هذا الحبيب يا محب 36


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..

أيها الأبناء! والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة السبت من يوم الجمعة المبارك ندرس السيرة النبوية العطرة من كتاب هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، وقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة (بناء المسجد النبوي وفضله وشرف المدينة وأهلها).

قال: [ إنه ما إن بركت الناقة وضربت بجرانها من مساء يوم الجمعة من شهر ربيع الأول، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد الذي بركت فيه الناقة لمن هو؟ وقال: ( يا معشر الأنصار ثامنوني بحائطكم هذا؛ لأتخذه مسجداً ) وقال معاذ بن عفراء : هو ليتيمين لي، هما سهل وسهيل ابني عمرو وسأرضيهما، فاتخذه مسجداً.

وأمر أصحابه بالشروع في العمل، وتقدمهم لذلك؛ تشجيعاً لهم واندفعوا -مهاجرين وأنصاراً- يعملون حتى قال قائلهم:

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل

وكان بالمربد قبور مشركين ونخل وخرب، فأمر بالنخل فقطع، وبالخرب فسوي، وبالقبور فنبشت، وأخذوا ينقلون الحجارة وهم يرتجزون:

اللهم لا خير إلا خير الآخـرة فارحم الأنصار والمهاجرة

والرسول صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة ويقول: ( لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار ) وارتجز علي قائلاً:

لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيه قائماً وقاعدا] لأن هذه الأراجيز تتناسب مع الشغل، فهم لا يأكلون بقلاوة ورز بين أيديهم حتى يقولون شعراً، ولكنهم يشتغلون، فلا بد من نغم خاص يشجع على الحركة والعمل.

قال: [ومن يرى عن الغبار حائداً] وبعض المرضى من المنافقين ما دخلوا في هذا العمل، فرمز إليهم علي بهذا البيت؛ لأن الرسول لما أخذ يشتغل اندفع المؤمنون معه، بينما تقزز المنافقون، كيف أنهم يحملون الطين والتراب على رءوسهم. ومعنى حائداً: أنه لا يريد أن يمسه الغبار لكبريائه وجهله وعدم إيمانه.

[فأخذ عمار بن ياسر يرتجزها] حفظها وأخذ يغني بها هو أيضاً [فظن أحد الأصحاب أنه يعنيه بها تعريضاً به، فقال لـعمار : يا ابن سمية ! والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك] واحد من الأصحاب ظن أنه يقصده؛ لأنه أخذها من علي وأصبح يتغنى بها. وسمية أمه أول شهيدة في العالم الإسلامي، استشهدت في مكة قبل الهجرة، واستشهد زوجها ياسر ، واستشهد عمار في حرب الفتنة [فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب] كيف والصاحب يقول لصاحبه هذا؟ [وقال: ( ما لهم ولـعمار !! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار )] وهذا وسام شرف، لا تساويه أوسمة العالم اليوم، حتى وإن كان الراتب مليون ريال في اليوم، فقد فاز بها ابن سمية .

قال: [وتم بناء المسجد بالحجارة وكان سقفه جريد النخل، وبني بإزائه حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم] وما زالت كما هي، محاطة بسياج من حديد، وأما التربة والمكان فهو هو، ولهذا يأتيني بعض الغافلين ويقول: كيف تقولون: إنه لا تجوز الصلاة في مساجد فيها قبور، وها هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه قبور؟

الجواب: والله! ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، بل دفن في بيت عائشة ، ودفن معه والصديق والفاروق كذلك باستئذان، فنقول: والله لقد بني المسجد قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني ولا قبور، بناه وهو حي، فهذه الشبهة باطلة، فلا المسجد بني على قبر، ولا الرسول دفن في المسجد، لا هذا ولا ذاك، وإذا نفوا وجود البيت فهذا البيت موجود، بدليل: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ).

قال: [وكان هذا المسجد المبارك أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها] وقد يقول قائل: اليوم ليس هناك رحال، فنحن نطير بالطائرة أو السيارة، فنقول: إن الرحل والرحال هو ما يرحل عليه، سواء كان جنياً أو عفريتاً أو دابة أو طائرة، فكل ما يُرتحل عليه رحل [وذلك لفضلها واستواء سائر المساجد في الفضل دونها] كل المساجد في العالم مطلقاً متساوية في الثواب والأجر والمنزلة في الشرق أو الغرب إلا هذه الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فلا كربلاء ولا بغداد ولا عبد الحميد .. فكل المساجد سواء إلا هذه الثلاثة [فقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )].

الشيخ الطيب العقبي .. حبه للمدينة وبعض سيرته

وهنا لطيفة -كررناها-: الشيخ الطيب العقبي خريج المسجد النبوي جيء به من مدينة عقبة بن نافع في جنوب الجزائر رضيعاً مع أسرته وتربى في طيبة، فكان بحراً من بحور العلم، وما كنا نرى عالماً سواه -وهو كذلك- فهو الذي أنشأ جريدة القبلة في مكة، وبعدها حولها إلى جريدة أم القرى، وقد أعطاني بطاقته وزرته في مكتبه في مكة، وقال لنا: كنت أقسم الدخل للجريدة ثلاثة أقسام: قسم أعطيه لطلبة العلم في المسجد، وقسم للجريدة، وقسم لأسرتنا. هذا هو الطيب العقبي .

يقول: كنا نخرج في أمسيات من المسجد النبوي إلى أُحد بعد العصر -على أرجلهم- فنعود بخمسين أو بسبعين بيتاً من أجود الشعر. هذا وهم طلبة.

وثارت الحرب العالمية الأولى، ورحل إلى تركيا في اسطنبول وإلى الشام خوف المجاعة قبل الدولة الإسلامية السعودية، ثم دخل الجزائر، فأنشأ جريدة الإصلاح قبل أن تعرف تلك الديار جريدة واحدة بالعربية، والتف حوله بعض المصلحين المؤمنين، فذبح أحدهم كالكبش وهو يتوضأ في الساقية، وما عرف هناك إلا بالوهابي، الذي ينشر الوهابية، وكل من ينتسب إليه وهابي أيضاً. أمة هابطة إلى الحضيض.

والشاهد عندنا من قصته: أنه شاء الله بعد الحرب العالمية الثانية وهدوئها أن يأتي أحد المستشرقين إلى النادي ليسمع الدروس، فقال للشيخ: الفرصة متاحة لأن تزور فلسطين وتزور المدينة على حسابنا، وكان ذلك بعد أن سقطت فلسطين في يد اليهود، فزارها.

وكان يحب المدينة وأهلها، وقد كنت أستاذاً في مدرسة خيرية تابعة له، وأبطلنا حفلات الأعراس الباطلة، فكنا نأتي بالتلاميذ ينشدون الأناشيد وبعض الكلمات والسلام، ثم يقدمون لنا الكسكسون والعنب، وفي مجلس وأنا إلى جنبه قال لي: أمهاتنا في المدينة يقلن: ابدءوا بالعنب الصغير، أي: بالحبة الصغيرة، وكان يأخذ الحبة الصغير أولاً. فكان شوقه إلى المدينة باقٍ.

وقد جاء يوماً وألقى كلمة في الروضة الشريفة بعدما اعتمر وقال: فتح الله علي، فقلت: إن هذا المسجد مذكور في القرآن الكريم، بالإيماء والإشارة، أما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] إذاً: لا بد وأن يوجد مسجد قصي ليأتي بعده الأقصى، فسورة الإسراء نزلت في مكة، أما المدينة كانت يثرب. إذاً أين القصي؟ فلا بد وأن يوجد، فالقصي هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأقصى ما كان أبعد منه وهو مسجد فلسطين. إذاً: المسجد النبوي مذكور في القرآن بالإشارة والإيماء.

وحصل أن أحد المؤمنين العقبيين لما مات العقبي أراد أن يبني مسجد ويسميه بـ(مسجد العقبي)، فبناه وكتب عليه ذلك، فجاء وزير الأوقاف ورجاله ومحوا ذلك الاسم، وما رضوا أن يكون المسجد باسم العقبي ، وهذا فقط لأنه من أهل التوحيد، من أهل لا إله إلا الله، والعقبي إن شاء الله في دار السلام.

ومن شدة توحيده رحمه الله أنه قال: لا تدفنوني مع هؤلاء المشركين. ولكن ادفنوني لوحدي؛ لأنه كان هناك قبور تعبد من دون الله، وبالفعل أخذوه إلى ساحل البحر ودفنوه وحده، وقد زرناه بعدما عدنا، ووقفنا على قبره. هذا هو الطيب العقبي رحمة الله عليه.

فضل المسجد النبوي

قال: [وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضله: ( صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )] وجمهور الفقهاء والمحدثين والعالم على أن المسجد النبوي هو هو وإن بلغ صنعاء، إلا ما كان من النووي صاحب شرح مسلم، فإنه يقول: الرسول قال: ( في مسجدي هذا ) فيلزم منه أن يكون في محل الإشارة. فمن استطاع أن يصلي في القديم يصلي، أما عمر لما زاد فيه وعاب عليه البعض، قال له: اسكت! هو مسجد رسول الله ولو بلغ صنعاء [وقال: ( من أتى مسجدي هذا، لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )] فُزتم بها يا أولي النيات الصالحة [وقال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )] وقد ذكرت لكم لطيفة وهي: إن أهل الجنة لا يبغون عنها حولاً ولا تحولاً، واقرءوا آية سورة الكهف، قال الله عز وجل: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108] ومن هنا فتح الله علينا وقلنا: إن المهاجرين الأوفياء الطاهرين الأبرار في المدينة -والله- لا يرضون بالتحول عن المدينة ولو أُعطي الشام بكامله، فهذه روضة من رياض الجنة، من استقر فيها لا يرضى بالتحول عنها أبداً. وقد رأينا بعض الإخوان -والله- يبكون بالدموع ويصرخون وهم خارجون من المدينة.

شرف المدينة وأهلها

قال: [أما عن شرف المدينة وأهلها، فحسبنا أن نورد بعض ما ورد وصح في بيان فضلها وفضل أهلها، ومن ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)] ومن رأى أفعى وهي تدفع في نفسها وتتكامل حتى تدخل الغار عرف كيف تأرز [وقوله صلى الله عليه وسلم: [(أمرت -من أمره بهذا؟ هل هناك حاكم فوقه؟ نعم. إنه الله- بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)] والمراد من القرية: الحاضرة العاصمة، لا اصطلاح الجغرافيين الهابطين، أما قال تعالى: أُمَّ الْقُرَى [الأنعام:92]؟ وهل هناك مدينة تعدو على مكة في العالم؟! فالقرية هي المدينة الجامعة التي ضمت واشتملت على السكان، ليست البلد الصغير.

قال: ( تأكل القرى) وأية قرى هذه التي أكلتها؟ أكلت قرية فارس وعاصمتها، وأكلت بلاد الروم اسطنبول وتركيا. إذاً: أكلت القرى. وهي يومها سبخة: أي: فيها نخل، وهذا علم من أعلام النبوة. قال (يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)، فالذي يجلس فيها خبيث النفس غير صالح غير طيب لا بد وأن مآله إما إلى المقبرة أو إلى خارج المدينة.

قال: [ولو صح حديث] هذا كلام المؤلف [(اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني في أحب البلاد إليك) ولم يعارض بحديث: ( والله إنك خير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) لكانت المدينة أفضل من مكة -كرمها الله-] هناك حديثان: الأول أخذ به مالك ، ومات وهو يقول: إن المدينة أفضل من مكة، وصحح الحديث في نظره، والثاني قال به جمهور الأئمة والفقهاء: إن مكة أفضل.

إذاً: قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي -وهي مكة- فأسكني في أحب البلاد إليك ) قال هذا: وهو خارج من مكة، ثم أسكنه الله المدينة، ومعناه: أنها تفوقت على مكة.

والحديث المعارض لهذا الحديث فيه ضعف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( والله إنكِ خير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منكِ -في الهجرة- ما خرجت ) ولولا هذا لكانت المدينة أفضل من مكة كرمها الله.

وقد فتح الله علينا ويسر لنا فجمعنا بين الحديثين وقلنا: من استطاع أن يصوم ويقوم في مكة فليسكن بها، ليصوم النهار ويقوم الليل فإن الحسنة بأضعاف، حتى إذا ضعف وكبر سنه أو مرض أتى إلى المدينة ليموت فيها، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ).

وقد حرص عمر رضي الله عنه على تحقيق هذه الهديّة، فكان يسأل الله ويقول: يا رب! أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتسمعه ابنته أم المؤمنين حفصة ، فتقول: إيه يا أبتاه! أين الشهادة؟ تعني أن الشهادة في أطراف الدنيا، فيقول: اسكتي! ففضل الله واسع. واستشهد رضي الله عنه بعد أن قتله مجوسي -لعنة الله عليه- من عبدة النار في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن معه صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين الشهادة والموت في المدينة.

إذاً: عرفتم الأولى: وهو أنه ما دمت قادراً على العمل والصيام والقيام فعليك بمكة، فإن الحسنات فيها تضاعف إلى مئات الآلاف، وإن عجزت وقاربت الرحيل فأت إلى المدينة حتى تموت بها. أما أن تقضي عمرك في مكة عفرتة ومزامير وطبول وخمر وأباطيل ثم تريد المجيء إلى المدينة فلا ينفع ذلك.

قال: [ومما يزيد المدينة حباً في قلوب المؤمنين ورغبة في المقام بها حتى الموت؛ قوله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع أن يموت في المدينة فليمت بها؛ فإني أكون له شاهداً أو شفيعاً يوم القيامة ) عرف هذا عمر رضي الله عنه فكان يدعو ويقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك] وحقق الله له ذلك.

[وحسب المدينة شرفاً وفضلاً أن أصبحت داراً للرسول صلى الله عليه وسلم بها مسجده وفيها قبره، ومنها مبعثه] فأهل البقيع يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أول من يخرج من الدنيا إلى الحياة الثانية وراء نبيهم صلى الله عليه وسلم [وأما أهل المدينة -وهم الأنصار- فشرفهم كان بمسارعتهم للإيمان، وإيواء الرسول والمؤمنين، ونصرتهم، ومقاسمتهم العيش معهم؛ أثنى الله تعالى عليهم بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]] أية بلد أثنى الله على أهلها كهذه؟! [وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم شرفهم وفضلهم في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( آية الإيمان حب الأنصار )] علامة الإيمان حب الأنصار [( وآية النفاق بغض الأنصار )] علامة النفاق بغض الأنصار [وقوله: ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق )] وهو كما قال [( فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار )] لأن الهجرة ذات فضل عظيم لا يتنازل عنها أحد، فلولا الهجرة لكان صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار [( ولو سلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار والناس دثار )] الله أكبر! والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد، أما الدثار ما كان فوقه، فالأنصار شعار للرسول صلى الله عليه وسلم ومن دونهم دثار.

قال: [ولنستمع إلى شاعر الأنصار يقول ويذكّر بما أكرمهم الله تعالى به من الإسلام، وما خصهم به من هجرة رسوله إليهم ونصرهم له، وبذل الرخيص والغالي له صلى الله عليه وسلم ليأمن ويعز وينتصر] وشاعرهم هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس الأنصاري يقول: [ثوى في قريش بضع عشرة حجة] وثوى بمعنى: أقام، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

[................... يذكر لو يلقى صديقاً مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا أظهر الله دينه وأصبح مسروراً بطيبة راضيا

وألفى صديقاً واطمأنت به النّوى وكان له عوناً من الله باديا] وهو الصديق رضي الله عنه صاحبه بالغار.

[يقص لنا ما قال نوح لقومـه وما قال موسى إذ أجاب المناديا

فأصبح لا يخشى من الناس واحداً قريباً ولا يخشى من الناس نائياً

بذلنا له الأموال من أجلّ مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعاً ولو كان الحبيب المواسيا] هذا هو الشعر، ليس شعر أغنية عبد الوهاب التي يرقصون لها.

وهنا لطيفة -كررناها-: الشيخ الطيب العقبي خريج المسجد النبوي جيء به من مدينة عقبة بن نافع في جنوب الجزائر رضيعاً مع أسرته وتربى في طيبة، فكان بحراً من بحور العلم، وما كنا نرى عالماً سواه -وهو كذلك- فهو الذي أنشأ جريدة القبلة في مكة، وبعدها حولها إلى جريدة أم القرى، وقد أعطاني بطاقته وزرته في مكتبه في مكة، وقال لنا: كنت أقسم الدخل للجريدة ثلاثة أقسام: قسم أعطيه لطلبة العلم في المسجد، وقسم للجريدة، وقسم لأسرتنا. هذا هو الطيب العقبي .

يقول: كنا نخرج في أمسيات من المسجد النبوي إلى أُحد بعد العصر -على أرجلهم- فنعود بخمسين أو بسبعين بيتاً من أجود الشعر. هذا وهم طلبة.

وثارت الحرب العالمية الأولى، ورحل إلى تركيا في اسطنبول وإلى الشام خوف المجاعة قبل الدولة الإسلامية السعودية، ثم دخل الجزائر، فأنشأ جريدة الإصلاح قبل أن تعرف تلك الديار جريدة واحدة بالعربية، والتف حوله بعض المصلحين المؤمنين، فذبح أحدهم كالكبش وهو يتوضأ في الساقية، وما عرف هناك إلا بالوهابي، الذي ينشر الوهابية، وكل من ينتسب إليه وهابي أيضاً. أمة هابطة إلى الحضيض.

والشاهد عندنا من قصته: أنه شاء الله بعد الحرب العالمية الثانية وهدوئها أن يأتي أحد المستشرقين إلى النادي ليسمع الدروس، فقال للشيخ: الفرصة متاحة لأن تزور فلسطين وتزور المدينة على حسابنا، وكان ذلك بعد أن سقطت فلسطين في يد اليهود، فزارها.

وكان يحب المدينة وأهلها، وقد كنت أستاذاً في مدرسة خيرية تابعة له، وأبطلنا حفلات الأعراس الباطلة، فكنا نأتي بالتلاميذ ينشدون الأناشيد وبعض الكلمات والسلام، ثم يقدمون لنا الكسكسون والعنب، وفي مجلس وأنا إلى جنبه قال لي: أمهاتنا في المدينة يقلن: ابدءوا بالعنب الصغير، أي: بالحبة الصغيرة، وكان يأخذ الحبة الصغير أولاً. فكان شوقه إلى المدينة باقٍ.

وقد جاء يوماً وألقى كلمة في الروضة الشريفة بعدما اعتمر وقال: فتح الله علي، فقلت: إن هذا المسجد مذكور في القرآن الكريم، بالإيماء والإشارة، أما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] إذاً: لا بد وأن يوجد مسجد قصي ليأتي بعده الأقصى، فسورة الإسراء نزلت في مكة، أما المدينة كانت يثرب. إذاً أين القصي؟ فلا بد وأن يوجد، فالقصي هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأقصى ما كان أبعد منه وهو مسجد فلسطين. إذاً: المسجد النبوي مذكور في القرآن بالإشارة والإيماء.

وحصل أن أحد المؤمنين العقبيين لما مات العقبي أراد أن يبني مسجد ويسميه بـ(مسجد العقبي)، فبناه وكتب عليه ذلك، فجاء وزير الأوقاف ورجاله ومحوا ذلك الاسم، وما رضوا أن يكون المسجد باسم العقبي ، وهذا فقط لأنه من أهل التوحيد، من أهل لا إله إلا الله، والعقبي إن شاء الله في دار السلام.

ومن شدة توحيده رحمه الله أنه قال: لا تدفنوني مع هؤلاء المشركين. ولكن ادفنوني لوحدي؛ لأنه كان هناك قبور تعبد من دون الله، وبالفعل أخذوه إلى ساحل البحر ودفنوه وحده، وقد زرناه بعدما عدنا، ووقفنا على قبره. هذا هو الطيب العقبي رحمة الله عليه.

قال: [وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضله: ( صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )] وجمهور الفقهاء والمحدثين والعالم على أن المسجد النبوي هو هو وإن بلغ صنعاء، إلا ما كان من النووي صاحب شرح مسلم، فإنه يقول: الرسول قال: ( في مسجدي هذا ) فيلزم منه أن يكون في محل الإشارة. فمن استطاع أن يصلي في القديم يصلي، أما عمر لما زاد فيه وعاب عليه البعض، قال له: اسكت! هو مسجد رسول الله ولو بلغ صنعاء [وقال: ( من أتى مسجدي هذا، لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )] فُزتم بها يا أولي النيات الصالحة [وقال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )] وقد ذكرت لكم لطيفة وهي: إن أهل الجنة لا يبغون عنها حولاً ولا تحولاً، واقرءوا آية سورة الكهف، قال الله عز وجل: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108] ومن هنا فتح الله علينا وقلنا: إن المهاجرين الأوفياء الطاهرين الأبرار في المدينة -والله- لا يرضون بالتحول عن المدينة ولو أُعطي الشام بكامله، فهذه روضة من رياض الجنة، من استقر فيها لا يرضى بالتحول عنها أبداً. وقد رأينا بعض الإخوان -والله- يبكون بالدموع ويصرخون وهم خارجون من المدينة.