هذا الحبيب يا محب 99


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فقد انتهى بنا الدرس إلى هذه المقطوعة تحت عنوان [حصار الطائف] وقد علمنا أنه في السنة الثامنة من سنين الهجرة المباركة فتح الله تعالى على رسوله مكة فأصبحت دار إسلام، وبينما هو بها مع جيشه المبارك بلغه أن ثقيفاً تتجمع لحربه، فاضطر إلى أن يغزو، وخرج باثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من مسلمة الفتح.

وأثناء مسيرهم إلى ذلك مروا بشجرة من السدر ذات نبت، فقال حدثاء العهد بالإسلام -الذين أسلموا من أيام- ( يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط ) وهي شجرة ينيطون بها أسلحتهم: سيوفهم ورماحهم ونبالهم، يتبركون بها لينتصروا في المعارك، وكانوا يفعلون ذلك في جاهليتهم.

فلما شاهدوا هذه الشجرة ذات الظل، قالت لهم نفوسهم: اطلبوا من رسول الله أن يجعل لكم مثلها، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى ) وذلك لأنه لما نجى الله بني إسرائيل من فرعون بحادثة الغرق، وخرجوا من الديار المصرية وهم في طريقهم إلى أرض سيناء مروا بقرية للمشركين أهلها يعبدون عجلاً مصنوعاً، فقالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وقد كانوا مع موسى أربعين سنة يشاهدون الآيات، وأعظم آية انفلاق البحر إلى نصفين، وغرق فرعون وجنده وهم حوالي ثمانون ألفاً، ومع هذا قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138-140].

ولا عجب! فهذا شأن بني آدم. إذا لم يتربَّ المرء في حجور الصالحين، ويتلقى العلم والمعرفة، ويزكي نفسه بالعمل الصالح فلا عجب أن يخطر بباله أسوأ من هذا ويفصح عنه ويعرّض به.. إنه الجهل!!

ومشى الحبيب صلى الله عليه وسلم وكانت معركة ذات أنواط أو أوطاس وانتصروا، لكن -والحمد لله- بعد هزيمة مريرة بسبب ذنوب بعضهم، ونظيرها هزيمة أحد أيضاً بسبب الذنوب، وهذه سنة الله والعاقبة للمتقين، فما هي إلا جولة وانتصر رسول الله والمؤمنون، وأخذوا غنائم من السبي والأموال ما سنعرفه فيما بعد إن عشنا إن شاء الله.

إذاً بحث عن الطائف؛ إذ هو مصدر الشر وتجمع المشركين، وحاصرها برجاله، فهيا نقضي هذه الدقائق مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وهو محاصر لمدينة الطائف ذات الجيوش المتجمعة فيها، وأعزهم بنو ثقيف.

قال: [إنه بعد الفتح] فتح مكة [والنصر على هوازن وثقيف بحنين وأوطاس] وفي الآية: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة:25] وحنين واد من الأودية كأوطاس [وقد لاذت ثقيف ومن معها بالطائف، حيث تحصنوا به وجمعوا فيه ما يحتاجون إليه إن طال الحصار بهم] من الماء والطعام والسلاح وما إلى ذلك. بشر يعرفون كيف يتصرفون.

قال: [تبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه] باثني عشر ألفاً إلا الذين استشهدوا في معركة حنين [فحاصروهم بمدينة الطائف الحصينة] وحصينة لأن لها أسواراً تحميها، وكل المدن في ذلك الزمان كان لها حصون وأسوار [واستعمل في فك الحصار دبابة ومنجنيقاً] والدبابات معروفة الآن، والمنجنيق كذلك، وكانت دبابة من خشب صنعوها ليدخلوا فيها ويضربوا ويرموا. واستعمل ذلك [بإشارة سلمان الفارسي] رضي الله عنه إذ كان من بلاد حضارة ودولة ونظام، وكانوا يستعملون دبابات من خشب ويستعملون المجانيق كذلك.

قال: [ومع هذا فلم يتيسر فتح الطائف] بل بقيت معتصمة برجالها [لأن المشركين استعملوا سلك الحديد المحماة وضربوا بها الدبابة] استعملوا أسلاك حديدية تلتهب بالنار وضربوا بها الدبابة، والدبابة من خشب فقط ليست من حديد فاحترقت [فخرج منها رجالها وتعرضوا لنبل المشركين الذي صبوه عليهم من الحصون كالمطر] هم على الحصون ويرمون بالنبال (السهام).

قال: [فقتل من المسلمين رجال] رحمة الله عليهم، وهذا شأن الجهاد [وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم] لعلهم يتراجعون -والطائف معروفة بالعنب إلى الآن- أو لعلهم يندمون، أو لعلهم يخرجون من الحصون، ويجوز فعل ذلك، ففي بني النضير قطعوا النخيل أيضاً، لعلهم ينزلون، وما نزلوا، قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، فللقائد أن يستعمل إفساد بعض الأموال العزيزة على أصحابها علّهم أن يتراجعوا وينزلوا عن تعصبهم.

قال: [لعلهم يفكون الحصار فلم يُجد ذلك فيهم] وبقوا على ما هم عليه.

قال: [وأثناء الحصار] في هذه المدة التي حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها المشركين [نزل بعض الرقيق من الحصون] وهم العبيد المملوكون لسادتهم، ومن بينهم أبو بكرة رضي الله عنه، والبكرة هي التي يوضع فيها الحبل وينزل بها، ويسمونها الآن بَكَرة أيضاً، فلقب بـأبي بكرة لنزوله بها [فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم] ولما أسلم أهل الطائف بعد ذلك طالبوا بعبيدهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أولئك عتقاء الله).

قال: [منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة] وأصبح يكنى بـأبي بكرة ليس لأن اسم ابنته بكرة، ولكن لأنه نزل من الحصن في بكرة [وكُنّي بـأبي بكرة لنزوله من الحصن ببكرة، وطالت مدة الحصار، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم بعض رجاله من ذوي الرأي] تعلموا يا ساسة العالم الإسلامي! الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى وحيه من السماء وعلومه ومعارفه، ولكن حسب سنة الله في البشر استشار أهل الرأي والبصيرة من رجاله، هل يبقى هكذا محاصراً لأهل الطائف أو يعود إلى مدينته؟

وفي الحديث الصحيح: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) والاستشارة نافعة، لكن تستشير من؟ الحشاشين وأصحاب الهوى ..؟! استشر أهل البصيرة والمعرفة والرأي السديد.

وهنا لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم وقال: أستشيركم. فهذا لهو ولعب! فلا بد أن يختار من هم أهل للمعرفة والبصيرة.

[فقال نوفل بن معاوية الدؤلي : يا رسول الله! هم كثعلب في جحر] أي: هؤلاء الذين في الحصار ثقيف ومن معهم شأنهم شأن ثعلب في جحر، والجحر معروف: غار في الجبل [إن أقمت عليه أخذته] إن أقمت عليه وطالت المدة سوف ينزل، ينقص ما عنده من طعام ومئونة فينزل، ولكن في كم؟ يمكن في سنة أو سنتين أو ثلاث، وحقيقة إن طال المكث فسوف ينزل [وإن تركته لم يضرك] إن خليتهم لا يضرك شيء.

قال: [فأذن] رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالرحيل بعدما أقام بضعة وعشرين يوماً] أي: حاصر الطائف قريباً من الشهر، وبعد مضي هذه الفترة واستشارته لأهل البصيرة ومن بينهم نوفل بن معاوية الدؤلي قرر الرحيل.

قال: [ولما كان صلى الله عليه وسلم سائراً إلى الطائف وانتهى إلى بحرة الرغاء] وهو مكان، والأمكنة لها أسماء متعددة [أمر بقتل رجل من بني ليث؛ قصاصاً] أي: لما فتح مكة ومشى إلى الطائف، أثناء مشيه أقام الحد بالقتل على رجل من بني ليث، فكان أول حد بالقصاص في الإسلام [لأنه قتل رجلاً من هذيل، فكان أول دم أُقيد به في الإسلام، ولما رجع الناس قال رجل من المسلمين: يا رسول الله!] لما رجعوا وتركوا الحصار قال رجل من المؤمنين منادياً النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! وهل يجوز أن يقول: يا محمد؟ لا، كانوا يقولونها فأدبهم الله، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] إذا قلت لفلان من الناس: يا فلان فلك ذلك، أما رسول الله فليس لك أن تقول إلا: يا نبي الله! أو يا رسول الله! وإن قلت: يا إمام المتقين، أو أعظم من ذلك لا بأس، أما يا محمد أو يا أحمد فلا ..

قال: [ادع على ثقيف] أي: بالهلاك والدمار والخراب، لم؟ لأنهم استعصوا على الرسول صلى الله عليه وسلم [فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)] وكان ذلك في شهر محرم، ولم يأت رمضان حتى جاء وفدهم إلى المدينة مقدماً مفاتيح الطائف معلناً دخولها في الإسلام.

إي والله جاء بهم، فقد وكلوا جماعة منهم، وقالوا: اذهبوا إلى رسول الله وأعطوه مفاتيح الطائف، وأعلنوا له عن إسلام أهلها، وهذه آية من آيات النبوة. والهداية كلنا نقولها، لكن (ائت بهم) على قدرتهم وتسلطهم كيف يكون ذلك؟! واستجاب الله، فهي آية من آيات النبوة.

ونحن أيضاً إذا قيل: ادع على فلان، أو على بني فلان، أو على الفلانيين، هل نستطيع أن نذكر هذه الحادثة ونقول: اللهم اهدهم، اللهم أصلحهم، اللهم تب عليهم، فنكون قد استفدنا فائدة جليلة من هذا الدرس، والذين قد ندعو عليهم ما هم بمشركين ولا كافرين ولا جبابرة كأهل الطائف، لكن ممكن ظلمك بعضهم أو اعتدى عليك، فمن الخير أن ندعو بهذه الدعوة: اللهم اهدهم وأصلحهم.

قال: [واستشهد من المسلمين بالطائف اثنا عشر رجلاً] بضعة وعشرون يوماً وهم يحاصرون ويقاتلون، فاستشهد منهم اثنا عشر رجلاً، قتلوا في سبيل الله [سبعة من قريش وخمسة من الأنصار] وكلمة من قريش تعني المهاجرين وغير المهاجرين، والأنصار هم أهل المدينة الذين نصروا الله ورسوله والمؤمنين، وفتحوا ديارهم واحتضنوا المهاجرين.

قال: [من بينهم] أي: من بين من استشهد من المهاجرين [عبد الله بن أبي بكر الصديق مات بالمدينة متأثراً بجراحاته، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم] شاء الله أن قبض الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت عبد الله بن أبي بكر .

قال: [أحداث يحسن ذكرها] أحداث: جمع حدث، وهي الوقائع التي وقعت، ويحسن أن نذكرها ونعرفها.

[وتخلل حصار الطائف أحداث نجمل ذكرها فيما يلي:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر -وهو محاصر الطائف-] لأنه وزيره وصديقه [( إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبداً )] القعبة: قدح أو آنية يوضع فيها اللبن أو الزبدة. فهذه الرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصها على أبي بكر الصديق ؛ لعلمه بسمو روحه وطهارة قلبه وبصيرته في شئون الحياة.

قال: [( فنقرها ديك فهراق ما فيها )] والديك: ذكر الدجاج. وهذا الديك نقر القعبة فسال ما فيها من الزبد. هذه هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنامية.

[فقال أبو بكر : ما أظن أنك تدرك منهم يومك هذا ما تريد] فسّر له الرؤيا قائلاً: ما أظنك يا رسول الله! تدرك منهم -أي من المحاصرين في الطائف- ما تريده [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأنا لا أرى ذلك )] أي: وأنا أرى أنني لا أدرك من أهل الطائف شيئاً، فعبر الصديق الرؤيا كما عبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافقه عليها.

[ثانياً: لما أسلمت الطائف، طالب أهل العبيد -الذين نزلوا من الحصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحصار فأعتقهم- طالبوا بردهم إلى سيادتهم، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أولئك عتقاء الله ).

ثالثاً: لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً ضربت له قبتان، إحداهما لزوجه أم سلمة رضي الله عنها والثانية للأخرى، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي بين القبتين، فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب مسجداً، ولعله هو مسجد ابن عباس اليوم].

[نتائج وعبر:

إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الآتي:

أولاً: بيان مدى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحزم والعزم في إنفاذ أمر الله تعالى.

ثانياً: مشروعية استشارة ذوي الرأي، وعدم الاستبداد بالرأي مع وجود ذوي الرأي السديد.

ثالثاً: مشروعية استعمال أحدث الأسلحة وأجداها في الحرب لإحقاق الحق وإبطال الباطل، بألا تكون فتنة ويُعبد الله وحده لا شريك له.

رابعاً: مشروعية إقامة الحدود في غير دار الإسلام إذا كان هناك أمن وعدم خوف.

خامساً: استجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي آية من آيات نبوته؛ إذ هدى الله ثقيفاً وأتى بهم.

سادساً: مشروعية قص الرؤيا على العبد الصالح، ومشروعية تأويلها.

سابعاً: بيان فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبيان مدى ما كان يلقى من الرسول صلى الله عليه وسلم من التقدير والاحترام].

وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.